جيل المنصات الرقمية

جيل المنصات الرقمية

نحن أمام جيل فريد وغريب في فن الاحتجاج والإقناع بأدوات غاية في المرونة والوضوح، جيل الحداثة السائلة، مندفع ومتمرد، ذكي ومنفتح، يعتبر الحقيقة ذاتية المنبع من حيث الفهم والدقة لما يجري من أحداث ووقائع، يقلب الخطاب السياسي والاجتماعي عن واقع الحال، وبسرعة يكتشف الفجوة بين الخطاب والممارسة، أجيال جديدة شبت في أحضان التكنولوجيا، وعالم الانترنيت، لا تهتم بالقديم، ولا تبالي بالذاكرة السياسية والتاريخية،أجيال برغماتية قلقة، أي جيل الحاضر والمستقبل لأنه يرسم ملامح اليوم ويتطلع للمستقبل، هكذا يمكن فهم الظاهرة في بعدها الاجتماعي والنفسي لما يتعلق بالاندفاع، وعدم الاكتراث بالتنظيمات والمؤسسات، أجيال متمردة،ثقافتها عولمية، تخترق الحدود، الجيل الذي تشبع بالمفاهيم، ولكنه وجد الأبواب موصدة، محروسة من قبل المنتفعين، فلا يركن هذا الجيل الرقميلأقوال الكبار من القادة وزعماء الأحزاب والشيوخ، يقبع في العالم الافتراضي، ومن شرفة عالية يطل على الواقع برؤية حالمة، يشكك في الخطاب التسويقي الاستهلاكي، لغته مقتضبة قائمة على التبليغ السريع،والسخرية من الواقعي، وكل ما تقدمه المؤسسات التقليدية لأنه سريع التكيف مع التكنولوجيا، ويجيد استعمالها بحنكة، وذكاء لتقليب الكلمة وخلق المعنى،حيث ينمحي من خلالها الواقع، ويتحول الواقع إلى صورة ورمز للتعبير والرغبة في التغيير، نقد جريء للواقع الذي جرد الإنسان من كينونته، وتحول الواقع إلى معطى ذهني يتم  استيعابه من خلال الصورة المحمولة في عقولالشباب، وسائل الإعلام والمنصات الجديدة تعيد بناء الواقع من خلال التلاعب بالصور والمعلومات، تعيد النظر في الواقع المادي لم يحمله من علاقات هشة، وما يحتويه من أزمات مفتعلة بفعل عمل سياسي غير متوازنللفاعل، بفعل التراكم، وعدم القطع مع الممارسات السلبية. انتهى عصر القنوات الفضائية، وحل عصر الكلمات والتواصل في المنصات الرقمية، عصر الذكاء الاصطناعي، وسائط للبناء والتقويض معا، أدوات في خدمة تطلعات جيل الشباب. إنهم يعتقدون في القدرات والمؤهلات الذاتية والجماعية، ومن خلال خبرتهم المحدودة بالواقع، وبناء على الاحتكاك بعالم الصورة المنقولة من الأمكنةـ والتي تشهد أن الواقع المادي القائم يتميز بالهشاشة، يحتاج إلى التغيير لإفساح المجال لعالم دينامي ومتحرك، عالم ما بعد الحداثة، واختفاء الأيديولوجي، وحلول عالم بديل مركزه الإنسان، وحقه للعيش في بيئة سليمة، جيل يرفض النماذج الثابتة، متمرد على القيم القائمة على الوعظ والإرشاد والنصح، ويفكر خارج الأطر التقليدية، يرفض المؤسسات التقليدية البيروقراطية، يرفض اليمين واليسار مما يصعب بالفعل التكهن بأفعاله.

جيل مقتنع بالثقافة العولمية، من مفاهيم فلسفية، ورؤى في التغيير لأنماطالسلطة والسياسة، ولأنماط التفكير والثقافة، والتشكيك في أشكال من الخطابات التسويقية، يقلب الكلمات والمواقف، وينتج البديل من خلال تدفق المعلومات بسرعة هائلة داخل المنصات الرقمية، وسائط وتطبيقات مجانية تلبي رغباتهم في القول والتعبير، هوس بالفكرة النابعة منهم عندما يجعلون منها حدث أو قضية كمجال للنقاش والحسم بقرار، وإبداء الرأي في ساعات معينة أو لحظات سريعة جدا، يجيد التنقل بين المنصات، ويلتف الكل مع الكل في غياب الزعامات والقيادات، جيل z وكسر المحظور، والتعبير عن الرفض، والتمرد على كل الثوابت، أعمارهم تتراوح بين 13 و28 سنة، يعرف أن التغيير لا يأتي بشكل فردي، ولا يتأتى بالخطابات الشفهية أو الوعظ لأنهم ببساطة يرفضون ذلك، يقلب هذا الجيل الفكرة يمينا وشمالا، يتصاعد النقاش بأساليب لا تخلو من جدية وطرافة، نقاشات ممزوجة بالهزل والسخرية، وممزوجة بالشفافية والصحة، كذلك اللعب بالكلمات، والحرية في التعبير بينهم، الشباب ينصت ويكتب، لا موانع على الكلمة، انسياب للمعلومات والأخبار، جيل متعلم، قارئ بسيط لوضعية الصحة والتعليم، ليس بالضرورة أن يقرأ للجابري والعروي والمهدي المنجرة، لا يهتم بالمقاربات التربوية، والنظريات السياسية بوصفها معارف للبناء، لأن الواقع المعطى لا يحتاج لدليل، كل الشواهد من عين المكان واضحة، المستشفيات والتعليم العمومي، وأزمة البطالة، والفساد الذي يستشري في مفاصل الدولة. يجيد الوصف والشرح بالقول والتجربة والمثال، لا يتنازلون عن أفكارهم، وهم مقتنعون بعالمهم، مندفعون ومتمردون، وما يفعلونه من أشياء يصب في مصلحة المجتمع، حيث يبتكرون آليات، وأدوات في توليد الحقيقة من قلب العوالم الافتراضية .

تنكشف الحقيقة من تلقاء ذاتها عندما يتكتلون ويجتمعون، ويرفعون شعارات، منها إصلاح التعليم والصحة، وإسقاط الفساد، ومطلب الشغل،منصة ديسكورد تطبيق مصمم لهواة ومحترفي الألعاب الإلكترونية،تطبيقات تهيمن عليها القوى الكبرى كالصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، تطبيقات تعيد تشكيل الهوية الفردية والجماعية معا، تطبيقات تحمل في طياتها بوادر التغيير للعالم من خلال القوة الاحتجاجية، وتشير الأرقام أن هذا الجيل يمثل %26 من السكان بالمغرب، والجيل القابع خلف الشاشات، لا يمتلك القدرة والوسائل للتحرك دون خلفيات أو نوازع معينة، ورث هذا الجيل نصيبا من ثقافة الاحتجاج في مجتمعنا، وهو الجيل الذي ينطق بشعارات وكلمات واضحة، يرددها في الشوارع من قبيل الكرامة والحرية، يرفض هذا الجيل شكل السلطة السياسية الممارسة من خلال هيمنة الأحزاب، ينقلب على العملية الديمقراطية، والمطالبة بإسقاط الحكومة، مطالبه فورية أشبه بالأكلات السريعة أو الضغط على الزر من أجل استجابة سريعة وبدون تردد، والتعبير يتم خارج القوانين المعمولة، وخارج الإطار المؤسساتي،وبعيدا عن هيمنة الهيئات والنقابات، والأحزاب السياسية، جيل غير مؤطر سياسيا واجتماعيا، جيل حالم وراغب، ومتمرد على القواعد التقليدية، ناهيك عن فورية المطالب، هذا الأمر يستلزم إجراءات وقوانين تتميز بالإجماع، صيغة للتوافق السياسي من بوابة الانتخابات، وقواعد محددة في ممارسة السلطة، جيل “زد وقناعة الشباب أن الحكومة لا تعكس مستوى التفاعل والاستجابة لتطلعاته، وكأن هذا الجيل بحريته يريد أن يرسم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة، وينسى هذا الجيل أنه لا يمثل المجتمع بكامله، ولا يمكن أن يكون ناطقا باسم الشعب، هذه مجموعات منغلقة ومكشوفة في النقاشات، غرف مغلقة للدردشة والتواصل، وليست المجموعات كلها على قناعة واحدة، القرارات جماعية نابعة من التصويت، ولا سقفزمني محدد للاحتجاج .

الصوت الغالب في المجموعة يهيمن، ويمكن أن تكون الأصوات دخيلة على المجموعات مادامت المجموعة منفتحة في الانخراط على الكل، مما يتيح الدردشة النصية والصوتية والمرئية، هذا الزخم ليس وليد اليوم، ولادة منصة “ديسكورد” وغيرها، والمجموعة التي يقال أنها أنشئت سنة 2024، لا تستمد عملها وتفاعلها من ذاتها فقط، بل كذلك من التفاعل العالمي، لأن الأحداث المحلية في المغرب ليست معزولة عن السياق العالمي، المنصات الرقمية سلاح دو حدين، ساحة للتحريض، وخلق ثورات مفتعلة، ساحة للتجاذب والاستقطاب لمختلف الفئات العمرية، مجال لتمرير شعارات مزيفة يتم تحويلها ضد استقرار المجتمع، كل ما هو عابر لا يمر مرور الكرام لأن العبور والتدفق للأفكار والمعلومات يتم التقاطع والتفاعل معه بشكل كبير، يرسم هؤلاء الشباب كذلك الأمل الكبير في التغيير لنمط الحياة يتلاءم والرغبة في الظهور والبروز من العالم الافتراضي نحو الساحات العمومية. يحمل جيل“زد” مطالب سابقة للحركات الاحتجاجية المنظمة. المختصون في الأمن السيبراني المغربي يشددون على الأيادي الخارجية التي تحرك عناصرداخلية، وتبث التفرقة والعداء حتى يتم تقسيم وتفكيك المغرب من الداخل،وزرع الشقاق والتخريب، وتأجيج العنف في بعض المدن المغربية، وبث الصور المفبركة من الذباب الالكتروني، حيث استطاعت المجموعات اللعب على الوتر العاطفي والنفسي للقاصرين، والراغبين في الفوضى والتخريب، والناقمين على الأوضاع، وكل من يعتبر نفسه مقصيا من التنمية لتذهب المطالب في مهب الريح، ويخرج المغاربة بقناعة مطلقة تتعلق بالرفض للعنف والتخريب، والإساءة للأمن، ونهب الممتلكات، وإحراق المؤسسات، أي الإساءةلصورة البلد، هذا الفعل أخرج الحكومة عن صمتها من خلال الاعتقال،وتشديد العقوبات على المخربين، والخارجين عن القانون، صورة قاتمة عن المغرب الآمن والمسالم، صورة سلبية حملتها الكاميرات المحلية من الإعلام الإلكتروني، وكاميرات بعض المؤثرين، والمصورون الجدد في الساحات العمومية من هواتفهم الخاصة.

صورة للتحريض تنم عن حقد دفين على المغرب برموزه من أطراف متعددة،متمنيات الجار القريب في الخراب والتدمير، حقد عجيب وغريب، رغبات للهدم من القوى المناوئة للسياسة المغربية، من أطراف تؤجج للعنف بالكلمة والخطاب، وترفع سقف الاحتجاج عال كثقافة اخترقت النفوس والبيوت. المغرب البلد الذي لا يتوفر على ثروة بترولية، بل يتوفر على ثروة معدنية،وخيرات بحرية، وطاقة بشرية تنتج الثروة من سواعد أبنائها، وقدرتهم على العمل والإنتاج، يعترف الناس بالنقص والقصور الذي يعتري بعض القطاعات، إقرار في تحويل المغرب من السير بسرعتين إلى السير بسرعة واحدة في أطار العدالة المجالية والإنصاف، وتحقيق مجتمع الحرية والمواطنة.المغرب الذي يتباهى دائما بالقدرة على إدارة الصراعات والنزاعات بالحكمة والتروي، البلد الذي خبر دهاليز السياسة الدولية من خلال دبلوماسية هادئةونافعة، يبحث عن موطئ قدم في العالم للعبور بالشعب نحو الأمان والتنميةـ هناك تضارب للمصالح، تفاقم الريع الاقتصادي، والشطط في استعمال السلطة أو غياب الحكامة، ناهيك عن أزمة البطالة في صفوف الشباب،قضايا واقعية تستدعي الالتفاف والإصلاح، ويعتبرها المغاربة قضايا مهمة وملحة في سبيل تقليص الفوارق، وإعلان الحرب على الفساد ورموزه.

يجب النظر إلى ما يحمله الجيل من طاقات وإمكانيات يمكن توظفها وتوجيهها في التنمية، التشخيص والتحليل للطاقات والقدرات التي يمتلكها هذا الجيل مع الاحتياط من الهالة التي يمكن أن تحيط مواقفه لأنها لا تنبع من التوافق السياسي، ولا ترمي للتأني والتدرج في تحقيق جملة من المطالب المشروعة. يستمد هذا الجيل مفاهيمه من القاموس الفلسفي والحقوقي، من المفاهيم التالية: الحق والعدالة والحرية والكرامة والمواطنة، ناهيك عن مطلب الشغل وإسقاط الحكومة مع ربط المسؤولية بالمحاسبة، الشباب كما قال حسن طارق وسيط المملكة يمكن أن يكون مخطئا، ولا ينبغي اعتبارهم أصحاب الحقيقة المطلقة أو تحويل الشباب إلى كلمة مقدسة، جيل زد” ليس ظاهرة عابرة بل التعبير الممكن عن تحولات في واقع ثقافي واجتماعي واقتصادي. هشاشة الاجتماعي، وطلب العدالة الاجتماعية دليل على أن الخطاب مفيد للعناية بالقطاعات الحيوية، ولا ينبغي بأي حال الإجهاز على القطاعات العمومية بالبيع والتفويت، تلك مجموعة من الأسباب التي تغذي شرارة الفعل العنيف، والتحول من المنصات الرقمية نحو الشوارع، جيل اليوم والغد يكبر مع هيمنة التكنولوجيا، الجيل الذي خبر الإحباط من الأداء الحكومي، والحكومة الحالية عاجزة عن إيجاد قنوات للتواصل أو أنها تضع شروطا للتواصل من خلال الوساطة التقليدية علما أن الجيل لا يتوفر على قيادة أو زعامة. ولادة الحراك من المنصات الرقمية شيء جديد، ولادة طبيعيةفي وضع غير طبيعي، شعارات ترفع في المدن المغربية قديمة بأصوات جديدة، والأجيال المتواجدة في الساحات ليست بالضرورة محسوبة على جيل زد”، أجيال من أعمار مختلفة، شباب من تنظيمات محسوبة على اليمين واليسار، تيارات رافضة للحكومة، ورئيس الحكومة بالذات من خلال النقدوالرفض للزواج بين المال والسلطة، وتيارات بشعارات تستهدف الطبقة السياسية بأحزابها المختلفة، اعتادت الحركات الاحتجاجية في الساحات العمومية، وبالقرب من البرلمان أن ترفع الأصوات للتنديد، والرفض للسياسات العمومية. ليست صرخة هذا الجيل وخروجه للعلن من المنصت نحو الواقع إلا الرغبة في التنمية والحفاظ على المكتسبات، والضرب من حديد على الفساد وأساليبه، وبالتالي يجب الإنصات للشباب، وتوجيه الطاقات من اجل توظيفها خدمة للمستقبل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات