23 ديسمبر، 2024 10:38 م

جيفارا وهوشي منه والشيخ فرحان الساعدي!!

جيفارا وهوشي منه والشيخ فرحان الساعدي!!

لا أشكّ بسريرة الشيخ فرحان الساعدي ولا بطيبة قلبه، لكنَّ الطيبة والسريرة لا تكفيان عندما يتصدى المرء لقضايا الفكر والتاريخ عبر فضائيات تخاطب ملايين المشاهدين.
في رمضان الماضي، تحدث الساعدي عبر (الفيحاء) عن فلسطينيين مؤيدين لصدام حسين ليختم كلامه (من لا يبكي عليَّ لا أبكي عليه)! وهذا رد فعل سلبي غير متوقع من أستاذ في (الحوزة العلمية)! إذ واجبه تبيان السبب والخلفيات، وهي إن صدّام حسين أنفق أموالاً طائلة على الإعلام وشراء الذمم في عملية غسل دماغ جماعية للجمهور العربي، ومثلما كان له مرتزقة عراقيون بعضهم في مجلس النواب الآن! كان له مرتزقة وأتباع في البلدان العربية أيضاً، وكانت مهمة هؤلاء تحويل مجرم عادي مثل صدّام إلى بطل قومي وقد نجحوا. وواجبنا هو تبيان الحقائق لهذا الجمهور المُضلَّل، وليس التصرف بردات فعل عاطفية تجعل الديكتاتور ينتصر علينا في حياته وبعد مماته!!
إن إيضاح الحقائق يَحول دون ترسيخ الأكاذيب وتكرارها، فقبل سنوات صرح المرحوم (أمين الصندوق الفلسطيني) لفضائية (العربية) إن (صدام حسين أشترى الشعب الفلسطيني بمائة وخمسين مليون دولار) وهو يقصد بعض الفلسطينيين، لأن بعضهم الآخر له مواقف مشرّفة دفع ثمنها غالياً، فخلال احتلال الكويت أشاع البعثيون إن (احتلال الكويت هو المقدمة لتحرير فلسطين) فرد عليهم صلاح خلف (أبو أياد) في حديث مع إذاعة مونتي كارلو حينها (إذا كان ثمن تحرير فلسطين هو احتلال بلد عربي آخر وتشريد شعبه، فأنا أرفض هذا التحرير) بعد أيام حرّك صدام جلاوزته فقتلوا صلاح خلف أحد أهم قادة الثورة الفلسطينية. وخلال سنوات الحصار الأولى طالب ياسر عبد ربه صدام حسين بالإستقالة إنقاذاً للشعب العراقي، عبر رسالة نشرتها صحف عربية آنذاك، وهذه مواقف لم يجرؤ عليها أي مسؤول عربي، وهي تمثل قطاعات واسعة من الفلسطينيين، فالتضليل مهما اتسع يبقى حالة مؤقتة تعتمد على طريقة تعاملنا معه.
والواقع إن الفلسطينيين تعرضوا لمقلب تاريخي خطير ولم يجدوا من يقف معهم فعلاً وهم يرون وطنهم يضيع وتضحياتهم الهائلة تضيع أيضاً، وعليه فهم يعانون شعوراً قاسياً بالخذلان، ولذلك يمكن تضليلهم من قبل أي حاكم عربي يقف معهم لبعض الوقت! ولأنهم شعب مظلوم ولأن إسرائيل عدو مشترك، أي كلما زادت مساحة إسرائيل متراً نقصت مساحة بلد عربي متراً، ومقابل سياستها التوسعية وعدوانيتها، علينا أن نكون مع الفلسطينين حتى لو أخطأوا بحقنا، إلى أن نُبيّن لهم الحقيقة. وبالنسبة للساعدي يصبح الأمر واجباً لأن (الدين النصيحة) ومن هو أجدر بالنصيحة من شعب مظلوم؟
وخلال برنامجه في فضائية (الفرات) 31-12-2011 تطرق الساعدي لأمور كثيرة، ومنها تاريخ التجاذبات السعودية مع المحيط العربي، وهو تاريخ مكتوب يمكن تقليب صفحاته بسلبياته وايجابياته رغم إعتقاد كثيرين بعدم وجود أية إيجابيات في تاريخ السعودية، وهذا تصور ينسجم مع عواطفنا المجروحة من الوهابيين، لكنه يتناقض مع منطق الحياة، إذ لا توجد ظاهرة تقتصر على خير مطلق أو شر مطلق. ولنقارن تجربتنا بالتجربة السعودية: الدولتان تأسّستا في وقت متقارب. تعقيدات تأسيس السعودية كانت أكبر بما لا يقاس من تعقيدات إعلان الدولة العراقية. ومستوى الإستعداد للتطوّر في المجتمع العراقي كان أكبر بكثير من مثيله في مجتمع نجد والحجاز. وبعد ما يقارب القرن على التأسيس ما هي النتيجة؟ وكيف يمكن أن نقارن أوضاع العراق الراهنة وتفككه وخرابه بوحدة السعودية وتطورها ومكانتها الدولية؟ ولو قارنا حالها قبل خمسين سنة بحالها الآن، لأكتشفنا حجم التطور الحاصل فعلاً. وكل هذا يعني إن هناك إيجابيات إلى جانب السلبيات. وأهم الإيجابيات هو إن هذا التطور الحضاري هو الكفيل بالقضاء تدريجياً على الفكر التكفيري. فالتفاوت الطبقي هو الذي يحوّل الكفاح المطلبي إلى ثقافة حقوقية بينما اتساع الطبقة الوسطى يجلب معه أفكاراً وظواهر جديدة، ومن هذا وذاك تتشكل ثقافة مختلفة تنتمي للحياة والتجدّد تحلُّ بالتدريج محل ثقافة التكفير الموحشة.   
ولكن ماذا عن العراق؟ إلى أين أوصلتنا الديكتاتورية وإلى أين ستقودنا ثقافة اللطم والتطبير؟ وهل استشهد الحسين من أجل العدالة أم لكي نظل ننوح عليه إلى أبد الدهر؟ وما جدوى هذه الطقوس إذا كان الباطل يخيم علينا باسم الدين؟ منذ ثمان سنوات تحكمنا أحزاب دينية فماذا كانت النتيجة؟ فساد ونهب للمال العام وتعطيل مقصود للصناعة والزراعة، مشاريع وهمية وشهادات مزورة وأكاذيب وخمسة ملايين أرملة ويتيم عرضة للإنتهاك والحرمان والإبتزاز، وكل هذا يناقض الإسلام تماماً!
ولو أخذنا السلبيات والفضائح التي عدّدها السيد أحمد الصافي (وكيل المرجعية في كربلاء) في الجمعة الثالثة من الشهر الأخير 2011، فهي تضعنا أمام مأزق الحكم وجهاً لوجه. فهل السعودية مسؤولة عن الفساد وانعدام الخدمات وتعطيل الكهرباء بالعراق؟ ألم يخلق شيوع الفساد وانعدام الخدمات مناخاً مشجعاً للعنف والإرهاب؟ إننا بدل التفتش عن سلبيات في تاريخ الآخرين، يجب أن نفتش عنها في عقولنا وأيدينا، أي في ثقافتنا وتصرفاتنا. أليس من باب أولى أن نتساءل عمن يهرّب الإرهابيين من السجون بدل التساؤل عن إنتماء جيزان لليمن أم للسعودية؟ 
وعندما يعود الساعدي لتاريخ العراق الحديث يقول (فكّروا لماذا قتلوا فؤاد الركابي؟ ولماذا أبعدوا علي صالح السعدي؟) لم أفهم المقصود تماماً. هل يقصد لأنهما شيعيان؟ إذا كان الأمر كذلك، بوسع الساعدي أن يقرأ كتاب (أوكار الهزيمة) للبعثي هاني الفكيكي كي يعرف بأن فؤاد الركابي (مؤسس حزب البعث) هو الذي دعا لإغتيال عبد الكريم قاسم معتبراً ذلك (الحل الأوحد). أما السعدي فقد قاد القطار الأمريكي على حد تعبيره، واسقط حكومة قاسم محوّلاً العراق إلى حمام دم، إذ كان هو قائد انقلاب 8 شباط 63 حيث أُعدام الزعيم صائماً ودون محاكمة!!
فما الحكمة من سؤالك عن شخصين مضطربين ساهما بتلويث الحياة السياسية، والأجدر هو التساؤل عمن دفع هؤلاء وسواهم للتآمر على حكومة قاسم؟ الجواب إن الزعيم أراد إنصاف العراقيين وعمل على إحياء الطبقة الوسطى المُنتجة، أي أراد إعادة الإعتبار للمشروع الحضاري في العراق، فقد كانت حكومته تدفع تكاليف سفر الصناعيين إلى أية دولة تقام فيها معارض صناعية، وإن اشترى رجل أعمال عراقي مصنعاً، تدفع الدولة سبعين بالمائة من كلفته، بشهادة أحد رجال الأعمال، لاعتقاد الزعيم بأن الصناعة والزراعة هي التي تحقّق الإكتفاء الذاتي للمجتمع، فبدون الإكتفاء الذاتي لا يمكن الحديث عن التطور ولا عن السيادة والاستقلال. لذلك جمعت المخابرات الامريكية حثالات المجتمع العراقي وزجت بها في تلك الصبيحة المكفهرة، صبيحة 8 شباط 1963. إن نهج الركابي وعمل السعدي هما اللذان قتلا مستقبل العراق طمعاً بالسلطة وخدمةً للمصالح الأجنبية. إنهما شيعيان والزعيم سني ومن دافع عنه هم أهل الكاظمية ومدينة الثورة. فكيف يفسر الشيخ هذه المفارقات؟ وإذا كانت الطائفية هي التي تحرك السياسة فلماذا قام صدام حسين بعد انقلاب تموز (يوليو) 1968 بتصفية المجتمع السياسي السنّي على يديه بدءاً من تكريت وليس انتهاءً بالأعظمية؟ وكان آخرها تصفيات قيادة حزب البعث وكوادره في مجزرة 1980 وغالبيتهم سنّة؟ والأحزاب الدينية تحكم منذ ثمان سنوات فماذا قدمت للمحافظات الشيعية غير الخيبة والفساد وتكريس ثقافة اللطم والتطبير!!
ألا تكفي هذه المفارقات لنعي إن التفسير الطائفي لن يمكّننا من فهم حقائق الصراع داخل المجتمع العراقي، وإن الطائفية إذا تحوّلت هاجساً تقتل العقل؟! هناك فعلاً من كان طائفياً منذ تأسيس الدولة 1921 لكن الفكر الطائفي –عند الطرفين- عوّقنا في الماضي وأربكنا في الحاضر ولن ينفعنا في المستقبل.
لا يكتفي فرحان الساعدي بإبعاد عيون العراقيين (بغض النظر عن نواياه) عما يجري بالعراق من فساد وإفساد وتزوير للضمائر والشهادات، بل يوجّه أنظارنا إلى أحداث قديمة حدثت هنا أو هناك وكأنها هي السبب الأساسي لما نعاني! بل ويقرّع العراقيين لأنهم يطمحون لتنويع وإغناء ثقافتهم بالتواصل مع كفاح ورموز الشعوب الأخرى.
يتساءل الشيخ محتاراً عن قول الشاعر عريان سيد خلف، دون أن يسميه، (هلبت مات جيفارا .. هلبت هوشي منه أنكَطعت أخباره)؟ ونفهم من سياق كلامه إنه يعتبر ذلك تخلّياً عن هويتنا الوطنية والدينية! وهذا اعتراض غريب جداً، لأن شعراء من مختلف الثقافات والأديان استلهموا تجارب ورموز إسلامية عديدة، وليس هناك أشهر من قصيدة الشاعر الألماني غوته عن النبي محمد، فهل يعني هذا إن غوته تخلى عن ثقافته الأوربية وقضايا شعبه؟! هل يريد الساعدي عزلنا داخل (ثقافة الطائفة) ؟!
لا أعرف لماذا يتضايق رجل دين من شخصيات مناضلة حياتها أقرب لحياة القديسين كجيفارا وهوشي منه، قاومت الإستعمار وخدمت قضية العدالة في العالم؟! وهل توجد في (العراق الجديد) وجوهاً تُمكن مقارنتها بنزاهة جيفارا وكفاءة هوشي منه؟! هل يمكن أن نقارن فلاح السوداني وعلي الدباغ بجيفارا ؟ أم نقارن حسين الشهرستاني وصفاء الدين الصافي بهوشي منه ؟!
ألم يقل أحد فقهاء الشيعة بأن (الكافر العادل خيرٌ من المؤمن الظالم)؟ هذا إذا افترضنا إن جيفارا وهوشي منه كفرة. والسؤال: أليس الفرق بين الكفر وبين الإيمان هو الفرق بين الأمانة والخيانة؟! أليس هذا هو جوهر الدين وجوهر السياسة؟ فما تفسيرك لشيوع الفساد والشهادات المزورة في ظل حكم الأحزاب الدينية؟ إذ تم تعطيل الصناعة والزراعة إرضاءً لقوى دولية وإقليمية لها مصلحة في إبقاء العراق متخلفاً، وبدون كهرباء لأنها أساس الصناعة والزراعة، لقد حوّلتنا حكومة الأحزاب الدينية إلى مجتمع استهلاكي فأصبح اقتصاد العراق يعتمد على عائدات النفط فقط، والعراقيون يعيشون على استيراد البضائع، ومن يملك وكالات التجارة واجازات الاستيراد هم قادة تلك الأحزاب الذين تورّمت ضمائرهم جراء تراكم أموال السحت الحرام، بينما انت ما تزال مندهشاً بكتاب حسن العلوي (دولة الإستعارة القومية) فتشير لإسم الكتاب وتستنكف من ذكر إسم المؤلف!!  
إن الجمهور العراقي بحاجة إلى خطباء متنورين وشجعان، فهناك من يستخدم المنابر لترويج الخرافات والأكاذيب، ولذلك نعوّل عليك وعلى امثالك بأن تكون أكثر دقةً ووضوحاً في تحديد القيم والمفاهيم. 
[email protected]