مرة سألت شغاتي موظف الخدمة في مدرستنا وقد بدأ الهواء في ذلك الصباح المشمس يتحول الى خيوط من الثلج تلسع انفونا ببرد غريب الأمر الذي جعلنا نعيد التلاميذ الى بيوتهم لشدة البرد ، سألته : ما أسم هذا البرد .
فقال :هذا برد جويريد يستمر في العشرة أيام الأولى من كل شتاء.
وقتها عرفت لماذا يطلقون اسم جويريد على اشخاص كثيرين في هذه القرى لأنهم يولدون في تلك الايام الشديدة البرودة ومنهم التلميذ جويريد منهل فدعوس ، الذي اصر أن يبقى يلعب في ساحة المدرسة ولم يذهب مع التلاميذ الى بيوتهم متحديا البرد وضاحكا عليهم وهم يهرعون راكضين لينعموا بدفء مواقد المطال وكأنه يقول لنا أن هذه الأيام هي ايامه.
ومع كل عام يعيد جويريد طقسه ، وحين تمتنع الجواميس عن قيلولتها في الايام الباردة وحده هو من ينزل الى الماء ويحصد القصب طعاما لها ، حتى صار بعض جيرانه يؤجرونه بثمن لينزل الماء ويحش القصب لجواميسهم فكنا نطلق عليه تندرا لقب : رجل البرد ، وآخر سماه في قصة كتبها ،عنوانها ( معدان الاسكيمو ) يتحدث فيها عن جويريد وعشقه لليوم الثلجي في صباحات يأنس فيها المعدان الى مواقدهم فيما جويريد بقدميه الحافية ومنجله يغور في الماء يقص القصب علفا لجواميسه وجواميس اهل القرية ، وفي ذات القصة تنبئ المعلم أن يسكن جويريد ذات يوم في بلاد السويد وربما نراه يلتقط صورة قرب ملكها .
ضحكنا لنبوءة صديقنا المعلم وعلمنا أنه لم يلب نداء دعوته الى الجندية وهرب الى ناحية الحر في كربلاء مختفيا عند اقاربه الذين هاجروا الى هناك في قحط ما والغريب انه اشتغل عاملا في معمل ثلج وكأنه يعرف ان هذا المكان الوحيد الذي يتلاءم مع اسمه وهوايته في عشق الأجواء الباردة ، ففضل أن يأوي الى مدينة بعيدة وان يختار مكانا باردا يتلاءم مع ما يتمناه ويريده.
وبالرغم من هذا فأن صورة جويريد والثلج هي الصورة الاكثر اقترابا لقدرية احسستها أن تصبح ملاذه الاخير في يوم ما وتمنيت له حياة مطمئنة بعيدا عن هلعه من شظايا الحروب وخوفه ان يرسلوه الى جبهة في نواحي البصرة تقتله فيها لهيب الشمس والرطوبة القاتلة ، وربما سيقبلَ ليذهب جنديا لو ضمنوا له أنه سيرسلونه على قمة جبل قنديل الذي يكسوه الثلج طوال ايام العام.
نسيت جويريد ، ولكني تذكرته في عودة ما وانا اتجول بين بيوت القرية التي عاد اهلها اليها بعد تهجير قسري وتغير اسم مدرستها من البواسل الى مدرسة آل البيت . حين سألت أن كان جويريد عاد من هجرته في ناحية الحر .
قالوا : أن جويريد لجأ الى معسكر رفحا في السعودية مع ثوار الشعبانية وبقيَّ هناك عاما واحدا ثم أتت بعثة من سويد ومنحته لجوءا سياسيا وهو اليوم يعيش في احدى مدن شمال السويد حيث اختار ابرد مدينة واصبح مواطنا سويديا .
ضحكت وتذكرت نبوءة المعلم وقصته التي تحققت الكثير من رؤاها حين علمت أن جويريد ارسل لأقاربه في القرية صورة التقطها مع ملك السويد يوم زار المدينة التي يعيش فيها .