من الصعب أن نصدق التهديد الناري الذي أطلقه السيد وزير الخارجية الأميركي من القاهرة ضد مليشيات فجر ليبيا متوعدا “بإجراءات عقابية مشددة إذا لم تنخرط، على نحو مسؤول، في مفاوضات السلام، وتوافق على اتفاق السلام الذي تم توصل اليه بمدينة الصخيرات المغربية، وتوقيعه دون تأخير، من أجل الشروع في إنقاذ ليبيا من حالة الفوضى، ومن الإرهاب الذي انتشر فيها على نحو خطير مستفيدا من انهيار مؤسسات الدولة”.
وذلك لأن الواضح من بين سطور كلماته أنه لا يريد “إنقاذ ليبيا من حالة الفوضى، ومن الإرهاب الذي انتشر فيها على نحو خطير مستفيدا من انهيار مؤسسات الدولة”، بل يريد العكس.
فهو بكلامه الجديد يبرهن على أنه كان فاهما جدا حقيقة الوضع الليبي، ولكنه (طنش) ثلاث سنوات عن حفلات القتل والحرق والتخريب والتهريب، وما زال. فقد لخص أساس المشكلة الليبية حين قال: “لا يمكن السماح لمجموعة جامحة أو اثنتين أو ثلاث لم تحقق كل أهدافها التي كانت تأمل في تحقيقها عبر القتال بأن تحققها من خلال تدمير العملية برمّتها”.
والسيد جون كيري أكثر الناس معرفة بأن هنالك نوعين من السلطة لا ثالث لهما، سلطة الدولة، وسلطة اللادولة. وهو خير من يعرف مواصفات أيٍ من النوعين، على الأقل من خبرته وتجربته في العراق.
فقد أصرت إدارة رئيسه أوباما (الديمقراطية)، وقبلها إدارة بوش (الجمهورية)، على جعل العراق (دولة اللادولة)، في خلطة نادرة بين العقل واللاعقل، بين الفأر والثعبان، بين الصصيف والشتاء، والنار والماء. دولة فيها رئيس جمهورية ورئيس وزراء ونواب ليس لأيٍ منهم وزن أو لون أو طعم أو رائحة. يجيء رؤساؤها ووزراؤها ونوابها، جميعا ودون استثناء، في انتخابات يشرف عليها ويحرس مقرات صناديق الاقتراع فيها حملة السكاكين والخناجر والسيوف والمفخخات والمدافع المضادة للطيران.
وفي ظل ديمقراطية العراق الجديد جُعلت وزارة حماية الأمن والقانون من نصيب مليشيا بدر، ووزارة النفط من حصة فارس مصرف زيونة، والأمن القومي لنوري المالكي، وعلى أبواب كل وزارة ومصرف ومؤسسة مسلحون من حزب أو مليشيا.
ثم اكتملت الديمقراطية الأمريكية في العراق بظهور الحشد الشعبي الذي أفتى به المرجع الأعلى وتسلمه قاسم سليماني وهادي العامري وقيس الخزعلي، ليصبح جيشا يقود جيش الدولة، وحكومة تقود الحكومة، وسلطة قانون خارجة على القانون.
والسيد جون كيري وحلفاؤه الأوربيون والمبعوث الأممي الى ليبيا برناردينو ليون يريدون حلا ليبيا، على الطريقة العراقية، يجمع بين عائدين من كهوف أفغانستان ومعتقلات الإرهابيين، أمثال عبد الحكيم بلحاج (بسلاحه ومطاره الخاص)، وطاقم قيادة أنصار الشريعة والحلبوص والمحجوب وأبو عبيدة الزاوي قائد “غرفة ثوار ليبيا”، في خلطة وطنية واحدة مع سياسيين مدنيين قادمين من مقاعد الجامعة، أو من منصات القضاء، أو المشافي والمصانع لا يجيدون استخدام حتى بنادق صيد الغزلان.
يعني حكومة نصفُ وزرائها متمرسون في القتل والحرق والاغتيال، ومُثقـَلون بكل أنواع السلاح التركي والقطري المتطور الحديث، ونصفُ وزرائها الثاني حملة أقلام وأفكار، ومبشرون بالتداول السلمي للسلطة، وبدولة الحرية والمساواة، ودعاة الحوار والتسامح وسلطة القانون.
إن الدعوة إلى المصالحة في ليبيا تعني القفز على بحور الدم والدموع، وعلى متراكمات الكراهية والتزمت الفكري الظلامي المتعصب الرافض لأي تسامح وتفاهم وحوار. وتعني أيضا توسيع مساحات الصراع، وإخراجه من حدود المعسكرات إلى ساحات الوطن المفتوح. بعبارة أخرى، تقديم رقاب غير المسلحين هدايا لسكاكين المسلحين.
فالحكومة التي يريدها كيري وحفاؤه تعني منح الشرعية للجماعات (الجهادية) المحاصرة حاليا في درنة ومصراته وسرت وطرابلس، وتُلبس (مجاهديها) ثياب رجال أمن الدولة وجيشها، وتعطيهم سلاح الحكومة، وتُجيز لهم دخول منازل المواطنين العزل المسالمين ليغتالوا ويعتقلوا ويختطفوا ويغتصبوا، جهارا نهارا، وباسم الدولة ودستورها وقوانينها المقدسة.
والسؤال الذي يوجه إلى السيد كيري وحلفائه الأوربيين معه هو لماذا كل هذا الاصرار على استحمار الناس واستغفالهم، وهو يعرف، ونحن نعرف، وهم يعرفون، أن الإطفاء الفوري والناجز للنار الليبية جاهز ومتوفر ومتاح فقط لأمريكا، وحدها وبجرة قلم؟
وهل في العالم اليوم أقدر من جون كيري وحلفائه الغربيين على اجتثاث الفتنة، بسهولة وبساطة وسرعة فائقة. وهل غير دولته الباطشة يمكن أن تغلق الموانيء والمطارات والحدود التي يتدفق منها (المجاهدون) وأكوام السلام وقناطير الأموال، وأن تمنع (الأصدقاء) و(الحلفاء) من تمويل العصابات الإرهابية وتسليحها وتدريبها؟!.
فبكل المعايير والمقاييس والبراهين ثبت بالوجه الشرعي أن لا أحد سوى قطر وتركيا وراء كل ما جرى للشعب الليبي ويجري من أربع سنوات. فهل يعقل أن تكون (امبراطورية قطر) و(سلطنة أردغان) تعاندان أمريكا وتناطحانها في ليبيا وتعجز أمريكا عن الرد؟؟ هل إن أمريكا تريد وقطر لا تريد؟؟. أمريكا تشاء وأردغان لا يشاء؟؟. هل هذا معقول؟!!