18 ديسمبر، 2024 7:50 م

جولة ماكرون العراقية ورؤية البطريرك التشاؤمية!

جولة ماكرون العراقية ورؤية البطريرك التشاؤمية!

“انّ الخطأ في انتظار الخلاص وحل المشاكل من الغرب، كان له آثار مدمرة حتى عندما يتعلق الأمر على وجه التحديد بالجماعات المسيحية في الشرق الأوسط.. إن الغرب الذي يدافع عن المسيحيين في مناطق أخرى من العالم، هو أسطورة تسببت في الكثير من الضرر، وبدت بعض لحظات زيارة ماكرون للموصل بمثابة إحياء آخر لتلك الأسطورة”!.

هذا بعضا مما قاله زعيم طائفة الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم البطريرك لويس روفائيل ساكو، تعليقا على زيارة الرئيس الفرنسي ايمانوئيل ماكرون للعراق، والتي كان من بين فقراتها التجول في مناطق محافظة نينوى وتفقد مساجدها وكنائسها، واطلاق الوعود البراقة بدعم العراق بمختلف مكوناته، لاسيما المسيحيين، ومساعدته في مجالات الامن والاعمار والخدمات، وتكريس وتعزيز التعايش السلمي بعد النجاح في دحر الارهاب.

تقييم البطريرك ساكو وردود افعاله حيال زيارة ماكرون، تعد جزءا من ردود افعال ومواقف عراقية صبت بذات الاتجاه، وعبرت عن نفس الجوهر والمضمون. هذا من جانب، ومن جانب اخر، عبرت تصريحات ساكو عن شعور كبير بالاحباط لدى المكون المسيحي في العراق، وربما في غير العراق، ازاء التعاطي الغربي مع معاناة ابناء ذلك المكون، التي يرى الكثيرون منهم ان قدرا غير قليل منها تتحمله الحكومات والدول الغربية بحقبها ومراحلها المختلفة.

قد تعكس زيارة ماكرون الاخيرة للعراق، بتفاصيلها وجزئياتها المتعددة والملفتة طبيعة النهج والتوجه الفرنسي الجديد-القديم، فضلا عن انها تحمل بين طياتها نزعة ورغبة واضحة في الحصول على مواطيء قدم في مواقع تشهد تنافسا وتدافعا محموما بين قوى اقليمية ودولية، ذلك التنافس والتدافع الذي تتنوع عناوينه واشكاله ومظاهره واهدافه واجنداته.

كانت باريس-وتحديدا الرئيس ماكرون-من ابرز المتحمسين والمساهمين لعقد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في الثامن والعشرين من شهر اب-اغسطس الماضي، اذ تمثل دوره في حث واقناع عدد من الزعماء والجهات الدولية على الحضور والمشاركة الفاعلة، فضلا عن ذلك، فأن حضور ماكرون، لم يكن حضورا تشريفاتيا عاديا، بل انه كان الشخصية الابرز في اجواء المؤتمر، وحلقة الوصل في التقريب بين الفرقاء والخصوم، وفيما بعد فأنه لم يستقل طائرته الخاصة ويغادر بغداد سريعا، كما فعل الزعماء الاخرين، وانما قرر ان يزور الامامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام في مدينة الكاظمية المقدسة، ومن ثم توجه الى الموصل، ليقف على اطلال الخراب والدمار الذي خلفه تنظيم داعش الارهابي بشوارعها ومنازلها واسواقها ومساجدها وكنائسها ومدارسها ومستشفياتها ومزارعها، ومن ثم ليذهب بعد ذلك الى اربيل، ويلتقي كبار القيادات السياسية الكردية.

وفي كل محطة من محطات زيارته، كان ماكرون يدلي بتصريحات او يطلق اشارات تنطوي على رسائل غير عابرة ولا سطحية، فمن الكاظمية المقدسة، اراد ان يشير الى ثقافة وقيم التسامح التي تتبناها فرنسا وعموم العالم الغربي-المسيحي في تعاطيها وتعاملها الايجابي مع الاسلام والمسلمين، وهي ذات الرسالة التي اطلقها من جامع النوري في الموصل، الذي اعلن منه زعيم تنظيم داعش الارهابي ابو بكر البغدادي في صيف عام 2014 ما يسمى بدولة الخلافة الاسلامية، ومن ثم دمره التنظيم بعدما ارغم على تركه في تموز-يوليو من عام 2017.

بيد ان من سمع ويسمع رسائل التسامح الايجابية من ماكرون، لابد انه استحضر مسيرة طويلة من السياسات الفرنسية المعادية للمسلمين والمنتهكة لحرياتهم الدينية والشخصية وخصوصياتهم الاجتماعية، ناهيك عن الاساءات والتجاوزات المتكررة على رموزهم ومقدساتهم من قبل بعض الاوساط والمحافل الاعلامية والسياسية والفكرية الفرنسية، ولعل الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص) التي اعادت نشرها مجلة شارلي ايبدو الاسبوعية الساخرة صيف العام الماضي، تعد واحدة من شواهد ودلائل كثيرة على ذلك، ناهيك عن ان الرئيس ماكرون ادلى بتصريحات استفزازية للجالية المسلمة في فرنسا بعد مقتل معلم فرنسي على يد طالب مسلم من اصول شيشانية في شهر تشرين الاول-اكتوبر من العام الماضي، بسبب ترويجه للرسوم المسيئة للرسول واعتبارها تندرج في اطار حرية التعبير عن الرأي، اذ قال في كلمة بمراسيم تأبين المعلم المقتول، “صموئيل باتي قتل لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا ويعرفون أنهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله.. واننا لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية”!.

وقبل ان يزور القوات الفرنسية المتواجدة بمعسكر (غرينير) في اقليم كردستان، اكد ماكرون من الموصل، “بقاء القوات الفرنسية في العراق، والاستمرار في المساعدة بمكافحة الإرهاب”، وتلك كانت اشارة غير طيبة لاتنسجم مع التوجه السياسي والشعبي العراقي بأنهاء التواجد الاجنبي من ارض البلاد، ولعله تجنب اطلاق هذا التصريح من بغداد، لانه كان يدرك ما يمكن ان يثيره من ردود افعال غاضبة، وبالتالي يعكر اجواء حراكه السياسي الميداني.

ومن كنيسة (الساعة القديمة) التي يعود تأريخها الى حوالي الف عام، ولم تسلم هي الاخرى من تدمير داعش، اطلق الرئيس الفرنسي مبادرة “احياء روح الموصل”، قائلا في كلمة له من هناك، “نحن هنا للتعبير عن مدى أهمية الموصل وتقديم التقدير لكل الطوائف التي تشكل المجتمع العراقي”، كاشفا عن نية بلاده افتتاح مدرسة وقنصلية فرنسية في المدينة. واكثر من ذلك، تحدث بكل صراحة ووضوح، قائلا، “تهدف فرنسا، التي تمول المدارس المسيحية الناطقة بالفرنسية في المنطقة، إلى زيادة المنح المقدمة للمسيحيين في الشرق الأوسط، فضلا عن الأقليات الأخرى، وهذه الرسالة حضارية لكنها جيوسياسية أيضا، فلن يكون هناك توازن في العراق إذا لم يكن هناك احترام لهذه المجتمعات”!.

وطبيعي ان اطروحات ومشاريع من هذا القبيل، تثير حفيظة وريبة بعض المكونات، وربما تؤشر الى توجهات فرنسية للحضور والتواجد في مساحات لم تكن خاضعة للنفوذ التقليدي الفرنسي خلال حقبة تقاسم منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ومناطق اخرى في اسيا وافريقيا بين لندن وباريس، وتمهيد الارضيات لكي تستعيد باريس موقع الزعامة العالمية الى جانب قوى اخرى، بعد ان كانت قد فقدتها حينما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها في عام 1945، لتتشكل خرائط وتتبلور معادلات جديدة لم يكن لباريس فيها تأثير وحضور ملموس.

وخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، سعت فرنسا الى استعادة نفوذها وحضورها عبر التأسيس لمشروع الفرانكوفونية الذي حاولت من خلاله جمع الدول الناطقة باللغة الفرنسية، تحت مظلتها، في اطار مواجهة مشروع العولمة الاميركية، بيد انها فشلت في ذلك، والان هي راحت تجرب وتتوسل بأدوات ووسائل اخرى، في عدة دول، خصوصا تلك التي تفتقد الى الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي المطلوب، مثل لبنان والجزائر وتونس والعراق وغيرها، الا انها لم تفلح حتى الان في تحقيق انجاز يعتد به، ولعل احد اسباب فشلها واخفاقها، هو افتقارها للاستقلالية في رسم سياساتها واتخاذ قراراتها وصياغة رؤاها الاستراتيجية، بل والانكى من ذلك تبعيتها وخضوعها بصورة غير مباشرة لثلاثة اطراف، هي الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا واسرائيل، لاسيما ما يتعلق بتحركها في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وهذا ما يكشف سر الاندفاع والحماس الكبيرين لباريس في الدفع بمشروع التطبيع بين الكيان الصهيوني والعالم العربي، ومن ضمنه العراق، ويرى بعض المراقبين واصحاب الرأي ان تحرك ماكرون نحو العراق بصورة لافتة، لايخرج عن سياق تكريس مشاريع التطبيع عبر البوابة العراقية، التي يعول عليها ساسة تل ابيب وواشنطن كثيرا، علما ان ماكرون كان قد زار العراق للمرة الاولى في مثل هذه الايام من العام الماضي، وهذا يعني انه جاء الى العراق مرتين خلال اقل من عام!.

وعودا على تصريحات البطريرك ساكو، فهو في واقع الامر، وضع اصبعه على الجرح، حينما قال مسترسلا في حديثه عن زيارة ماكرون، “ان كليشيهات الزيارات التي عفا عليها الزمن الآن من قبل القادة الغربيين الذين يذهبون إلى مناطق الأزمات، مضللة، فهم يقدمون أنفسهم على أنهم يحلون النزاعات والأوضاع المتدهورة طويلة الأمد.. لقد رأينا العديد من البعثات السياسية والعسكرية الغربية في الشرق الأوسط، ورأينا الكثير من الوعود بالمساعدة، وفي النهاية يظل كل شيء على مستوى الكلمات الجوفاء، إن لم يكن أسوأ، دعونا نفكر فيما حدث في أفغانستان، لنفكر في الوعود العديدة التي قُطعت للبنان مؤخرا، وهو لا يزال يعاني من أزمة خطيرة للغاية.. والحقيقة أن الدول الغربية لا تستطيع فعل أي شيء، خاصة الآن بعد أن انشغلت جميعا في حل مشاكلها الاقتصادية وتركيز مواردها في مكافحة الوباء”.

اذن، الاجندات والمشاريع والمصالح الخاصة، والتحديات الاقتصادية والصحية والامنية الراهنة، وحقائق معادلات القوة القائمة، لايمكن ان تتيح او تدفع الاطراف الدولية الكبرى، ومن بينها فرنسا، الى الاضطلاع بأدوار ايجابية لصالح الشعوب، ومنها العراق ولبنان واليمن و.. ، ولو كانت راغبة فعلا بذلك، لما جعلتها تتعرض لكل تلك المشاكل والازمات والكوارث والويلات، التي لاتحلها ولا تحلحلها ولا تعالجها زيارات وجولات استعراضية، تتلاعب بالعواطف اكثر مما تلامس العقول.