5 نوفمبر، 2024 6:30 ص
Search
Close this search box.

جوع كلبك؟ (شذوذ وشذوذ)

جوع كلبك؟ (شذوذ وشذوذ)

 بحسب قوانين التعلم والتدريب على السلوك، فبالإمكان جعل الحيوانات تتعلم أو تتدرب على سلوكيات معينة ليمكن تسخيرها لخدمة الإنسان، بقيامها أفعالاً تسهل عليه حياته، كتدريب بعض انواع الكلاب على سَوق الكفيف، والعمل البوليسي في الكشف عن المجرمين والمواد المتفجرة.. وقد استطاع مدربون للحيوانات في ألمانيا مثلاً إبان الحرب العالمية الثانية من تمكين الدلافين زرع الألغام في أعماق البحار والمحيطات، هذا وإنجازات الروس في تدريب الحيوانات على أفعال التسلية لقيامها بحركات بهلوانية كالتي تقدم في العروض التي اشتهر بها السيرك الروسي. هذا فضلاً عن تدريب بعض الأنواع الذكية منها على السلوك المناسب في المركبات الفضائية قبل إرسال الإنسان للفضاء الخارجي. القاعدة الأساسية المتبعة في كل ذلك تبدأ في (التجويع). ومعروف أن أهم حاجة أساسية للحيوان وكذلك للإنسان، هي الطعام. فالطعام من متطلبات الاستمرار والبقاء إلى جنب حاجات أساسية بايولوجية أخرى. المهم أن أولئك الذين وضعوا قوانين التعلم في علم النفس الحديث، وتمكنوا من السيطرة على العالم المعاصر، لديهم قاعدة يلخصونها بـ( جوع كلبك يتبعك) أهم شرط لا بد من توافره للتحكم بالحيوان أن يكون جائعاً. لذا، قبل البدء بالتدريب أو التعلم، فما يقوم به مدرب الحيوان أن يتركه بلا طعام لفترة طويلة، يشعر بعدها بالجوع الشديد، ومن ثم يتمكن من استعمال قوانين التعلم بالتدريج في جعل الحيوان يقوم بأداء الحركات أو السلوك المطلوب، وفي كل مرة يؤدي بها السلوك المطلوب، يحصل الحيوان على مقدار بسيط من الطعام دون إشباع، وفي حالة الخطأ يحرم منه كنوع من العقاب. وهكذا يتعلم الحيوان أن جوعه وشبعه مقترن بأدائه ما يطلبه منه السيد القيام به. وقد استخدمت هذه القاعدة وكثير غيرها، ومن قوانين التعلم في ترويض الحيوانات، وفي تعليم البشر من  الأطفال والكبار إما لأهداف إنسانية سامية إيجابية للإرتقاء به نحو الأفضل، أو أخرى سلبية، وذلك يعتمد على الغاية من استخدامها ومن يستخدمها، وهنا يكمن الخطر. لقد تم استخدام تلك القاعدة من قبل القوى التي تطمح للسيطرة العالمية، وبطرق خبيثة.
   إن نزعة الإنسان للسيطرة وإخضاع الآخر ليست غريبة. والعمل بتلك الحكمة!! ليس جديدا، إنما كان الأمر محدوداً ربما بما فرضته المعايير الاخلاقية، وبالحدود الجغرافية، والإمكانات الاقتصادية والمادية بمجملها، هذا فضلاً عن حدود الثقافات الإجتماعية لكل مكون مجتمعي ضمن إطار الدولة أو المملكة وغيرها. وفي عصرنا أخذ العمل على وفق تلك القاعدة يتسع بعد أن أتاح العلم الحديث إمكانية تقنين المعرفة بقواعد وقوانين محددة تمكن من التطبيق العلمي ضمن استراتيجيات واضحة بعيدة المدى. تستعمل تلك القاعدة بشكل أكثر تعميما، واستعمالها مع البشر أفراداً وجماعات كنوع من السياسة التي تسهل الإخضاع وإمكانية تمرير ما لا يمكن تمريره بالطرق التقليدية، أو السياسة (الأخلاقية) حتى خضعت كثير من الشعوب والأمم لسلطان السيد المتلاعب بالحاجات بافتعال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. ذلك بالعمل على توفير مطلب الحاجة وإشباعها بتقديم المساعدات والإسناد بأشكاله المختلفة التي تظهر فجأة ودون معوقات، أو بعكس ذلك في اختلاق الفقر والعوز، وادعاء المعوقات والصعوبات التي تحد من حل المشكلات الدولية والعالمية مع كل الإمكانات والجهود المبذولة إدعاءا. حتى تعلم العالم الضعيف، والمغلوب على أمره كيف يكون التابع المسير بامتياز، فلا طاقة للضعيف بما يفرضه القوي. وما عاد كل ذلك خافيا.
   العراقيون خضعوا للتجربة، بل لتجارب مرات ومرات. تم زجهم في حروب لا دوافع منطقية لها، فضلاً عن التهديد لوجودهم، حتى وصلوا مرحلة صاروا فيها لا يرجون الحياة مع التهديد. ثم جوعوا لسنوات طويلة في حصار ظالم تحت ذرائع خبيثة مصطنعة، شمل العديد وأهم ما يحتاجه الإنسان في حياته. حتى أضنك الناس واستغاثوا غنيهم وفقيرهم، صاروا يرجون الموت للخلاص بعد الصبر والانتظار بدلاً عن حياة العوز. ما كان ينقص السيد! إلا أن يأتي ليثبت قوته وسيطرته بعد أن هبطت المعنويات، وانكسرت النفوس للكثيرين إثر ذلك كله، ومع وقع الصدمات والضربات من القريب قبل البعيد.. فما الذي كان متوقعاً؟، وما الذي حصل؟
   رغم أن الحصون النفسية والأخلاقية قد أخذت بالتداعي إلى حد كبير، والمعروف أن النار لا تخلف إلا رمادا، وأن الحروب بطبيعة الحال لا تخلف إلا دمار الأخلاق والقيم وتراجع المباديء، خاصة إن تزامنت مع الحرب النفسية الأخطر، وبعد أن تم استغلال تلك الشروخ بأبشع الصور. فالذي حصل أن كان الإخضاع في كل مرة يصبح أصعب. والمفارقة، أن تلك القاعدة قد شذت.

   اليوم الإنسان العراقي البسيط يطلق لسانه ليطالب بحقوقه التي يريدها لا كما يراد له، لقد عرف العراقيون اللعبة، أما تلك الثلة ممن ظنوا بأنهم صاروا أسياداً، فقد خضعوا للعلبة بالكامل، طوقوا بالخيوط التي تتلاعب بهم يميناً وشمالا. لقد تملقوا سيدهم حتى أكلوا. ولشدة ما خضعوا، ظنوا أن بإمكانهم هم أيضا أن يلعبوا دور السيد، فيعملوا بتلك القاعدة ليرضخوا الشعب الذي رضي بهم على مضض في محاولة لينهض من جديد. حصنوا أنفسهم، وعاشوا التخمة بكل أشكالها ومضامينها، بينما جوعوا الشعب وأرهقوه لعله يرضخ للأمر الذي رتبوا له. ولكن كل الحقائق والدلائل تبين أن لكل قاعدة في الحياة شذوذ وشواذ. وظاهرة الشذوذ عن هذه القاعدة بالذات، والتي يعيشها العراقيون واقعا، هي الأكثر تقديرا وفخرا، لقد أفشلت ما يطمح لتحقيقه أولئك التابعون من الداخل والخارج. إن أية أمة قد تضعف أو تنهار تحت ظرف ما وإلى حد ما، ولكن أمة لها تاريخ طويل من الشرف والعزة والكرامة ممتد إلى بدء الخليقة، ومقترن بالتحرر من العبودية إلا لله، ولها من الوعي الكبير بدورها التاريخي المهم، وقيمتها الإنسانية، أمة باقية لم تزل، ولا تزول، ولن تزول. لم يثبت أن مثل هذه الأمة قد خضعت أو تخضع. وإن حدث، فذلك أيضا شذوذ. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات