23 ديسمبر، 2024 1:45 ص

جورج اورول يتخطى المألوف

جورج اورول يتخطى المألوف

المثقف القادر ان يكون لنفسه رؤية وموقف لما يحيط به من ظواهر تعني في الجوهر انه يمتزج بالعالم وباستطاعته إعطاء تصورات عن المستقبل اذا تحرر من سلطة المال والحكومات والمعتقد.
هو الأكثر مشاركة في صياغة وعي متقدم تكسبه فردانية لم يصلها بعد من أقرانه في ميدان المعرفة وصياغة رأي حتى لو كلفه حياته.الرواية التي دونها اورول ( مزرعة الحيوانات ) وهي رواية حقيقية كتبها عام ١٩٤٣ عن مزرعة يديرها السيد (جونز) والحيوانات في هذه المزرعة تشعر ان اسلوب التعامل معها من قبل هذا السيد فيه الكثير من الظلم والقسوة والاستغلال مما صعد نقمة الحيوانات وفي الاخير تعلن الثورة ضده وتتمكن من طرده من المزرعة.
في هذه القصة لم يرغب اورول ان يدون مقالة سياسية يفضح فيه الحكم الشمولي وهو يعني تحديدا ( العهد ال ستاليني) بل اراد ان تنطق الحقائق على لسان الحيوانات لتكون في متناول الصغار اولا والكبار ثانيا إدراكا منه قيمة تربية الجيل الناشىء لمحاربة الاستبداد اينما حل.
كيف تسنى لهذا الكاتب والصحافي ان يتخطى خطوطا حمراء في تكوين وبلورة فكرة الإدانة للاستبداد. كنا أظن ان اورول بالأصل كان اشتراكيا ديمقراطيا وكانت موضوعة الثورة الاشتراكية وصعودها ثم خفوتها بشكل مأساوي بسبب من صعود ستالين لم يكن غريبا عليه لانه كان بالأساس يعمل  معلقاً سياسيا ل BBC
ومراسلا حربيا في فرنسا في فترة الحرب العالمية الثانية وابعد من ذلك فقد تطوع للذهاب الى اسبانيا لمحاربة الفرانكونية السوداء في عام ١٩٣٦ وأصيب بطلقتين ناريتين . وعليه فهو جانب قد شهد صنفان من الدكتاتورية- الهتلرية والستالينية وايضا الفرانكونية  فآمن ان الدكتاتورية الجديدة أسوأ من سابقتها لان سلاحها قتل الخصوم وتضليل الوعي وآثارها مدمرة وفي إطار تجربته الغنية صاحب ذلك عملا ذهنيا تمكن فيه من التحرر الفكري  بالقفز على القرالب الأيديولوجية الجامدة واختط طريقا إبداعيا في كتابة هذه القصة بالاعتماد على البناء الدائري في الحوار المستند على الأدلة والحوار وبشكل ساخر ممتع  ساعده في تقديم فكرة جديدة ابتدأت بالتوليتارية وانتهت بالحرية واعتبر في هذه الرواية ان عملية غسيل الأدمغة التي هي في جوهرها أمية سياسية اخطر من قوة السلاح والقتل لانها ستؤطر العقول مغلقة منافذ التساؤل والجدل.
أدان اورول ال ستالينية في وقت كانت مبهرة  بالنسبة للكثيرين من المثقفين والسياسيين  حيث عُدّ ستالين بطلا عالميا لدوره العسكري والسياسي والفكري في وقف زحف هتلر على روسيا  لكن بالنسبة لاورول
القضية مختلفة تماما فقد خاض معركته ضد استبداد ستالين بسبب من معايشته للأحداث فلم تسحقه الشعارات والأيديولوجيا بل اختمر في ذاكرته الغنية والحية معاناة المثقفين لكي ينغمسوا في تمجيده وإقصاء وقتل من يعارض فلسفته ” الوطني والخائن” وقام بعمليات تصفية ونفي وقتل ضد خصومه ستالين .. فضح اورول هذا الهتك والماكنة التوليتارية  وخطها على الورق بصفاء ذهن ثاقب رغم مرضه ليستخلص مفاهيم كانت غير شرعية ولا مألوفة  في زمانها ثم أصبحت رؤيا معترف بها لاحقا.
ان حساسيته المعرفية ونبوءته تكشف بشكل جلي انه كان عاشقا للحقيقة وان الفرق الرئيسي بين العلم والأدب كون الاول تحليل بحت اما الثاني تخليق وابتكار وإعادة تشكيل هذا ما عمله الأديب الأيرلندي جورج اورول عاش الأحداث ولم تسحقه وابتلع اللحظة التاريخية وترك روحه تحلق خارج المألوف في غربلة التاريخ بروح اقرب الى الصوفية في تقديسها الرب / الحقيقة .