23 ديسمبر، 2024 10:18 ص

جواهر الكلام في معرفة اصناف الطعام

جواهر الكلام في معرفة اصناف الطعام

إذا سـألنا عن اصناف الاطعمة الشعبية المتداولة بين الناس في مصر ، فسيقال لنا إن الطبق الرئيسي بين عامة سكان المدن المصرية هو الفول ، وتليه الطعمية من حيث سعة الانتشار ، أما السبب فيرجع الى تركيبة سكان مصر أنفسهم ، فالمجتمع المصري متجانس الى درجة كبيرة ، وجميع من هاجروا اليه تمصروا واندمجوا مع المصريين الاوائل ، ولن يصدقنا احد من العامة عندما نقول إن عمر الشريف وفائزة احمد لبنانيان ، وفريد الاطرش واسمهان سوريان ، ونجيب الريحاني المولود بباب الشعرية ، هو حفيد تاجر خيول موصلي .
اصناف الاطعمة في كل بلد لها علاقة مباشرة بأصول ذلك المجتمع وتفرعاته ، ولأن عدد كبير من المهاجرين حلوا في بلاد الشام ، لذا نجد الاطعمة السورية واللبنانية والفلسطينية أكثر تنوعاً من المصرية والاردنية كذلك ، فقليل من الناس هم من هاجر واستوطن في الاردن ، ولولا نكبة عام 1948 لنقص سكان المملكة الاردنية اليوم بنسبة النصف تقريباً .
لو اجرينا مقارنة بين مصر وبلاد الشام ، لوجدنا اغلبية تقترب من خمس وتسـعين بالمائة من مسلمي مصر هم من اتباع المذهب الشافعي ، مع اقلية من اصجاب المذهب الحنفي ، والذين هم من اصول تركية والبانية وشـركسية ، اما الاقلية الشيعية في مصر (والمستوطنة في اعماق الصعيد) فهم من بقايا الفاطميين اصحاب المذهب الاسماعيلي . في حين إن مسلمو بلاد الشام يتوزعون على المذاهب الحنفي والشافعي والحنبلي ، وربما وجدنا في بلاد الشام كذلك اتباعاً للأمام مالك . اما المنسوبون الى الشيعة فهم الامامية الاثنا عشرية في سهل البقاع وجنوب لبنان ، والنصيرية في جبال اللاذقية وشمال لبنان ، والاسماعلية المتمركزون في بلدة السلمية و محيطها ، ولدينا الدروز المنتشرون في لبنان وجنوب سوريا وشمال فلسطين .
إذا نظرنا الى المذاهب المسيحية المنتشرة في مصر ، لوجدنا إن تسعين بالمائة من مسيحي مصر هم اقباط ارثدوكس ، مع مجموعة اقليات مسيحية ذات اصول يونانية وشامية وايطالية . في حين إن مسيحيو الشام  يتوزعون على عدة كنائس ، مثل الروم الكاثوليك والسريان الكاثوليك ، والروم الارثدوكس والسريان الارثدوكس ، كما لدينا اقلية بروتستانتية في بلاد الشام ، اضافة للكنيسة المارونية في سوريا ولبنان والتي تعتبر احد التفرعات الكاثوليكية وتتبع بابوية روما .
إن تنوع المذاهب والاديان والاطعمة في بلاد الشام سببه كون اهلها ذوو اصول قومية متباينة الى درجة كبيرة ، فلدينا العرب والسريان والاكراد والتركمان والشركس واليونانيين والالبان والارمن يتعايشون جنباً الى جنب في قرى وربما احياء مختلطة ، والكثير من ذوي الاصول التركية او الفارسية الذين يعيشون اليوم في لبنان مثلاً لايجيدون الحديث بلغة اجدادهم ، وربما نسبوا انفسهم لاحدى القبائل العربية التي عاشوا بجوارها .
لنلقي نظرة الآن على المطبخ العراقي ونسأل : ماهو الطبق الرئيسي الذي يتناوله كل العراقيون بلا استثناء ؟؟ ، هنا سنصاب بالحيرة ،لأن طبق الباقلاء بالدهن  لايستذوقه البعض ويفضلون تناول شوربة العدس أو المخلمة أو الجلفراي صباحاً ،  اما طبقي التمن والمرق والذي يتناوله معظم رواد المطاعم الشعبية ظهراً فهو لم يحصل على الاجماع الكامل ، فمع الرز الابيض تتنوع اصناف المرق ، أي فاصوليا (يابسة) وباميه وشجر وبتيته وبيتنجان وسبيناخ ، وتقدم بعض المطاعم الارقى احياناً مرقة القيمة ، كما يفضل البعض تناول الرز مع الدجاج او الكباب .
سـبب تنوع المطبخ العراقي هو إن العراقيين بالاصل مجموعة اثنيات وقوميات مختلفة الاصل ، لكنهم بسبب تداولهم لنفس اللغة أو انتمائهم لنفس المذهب انصهروا نسبياً مع بعضهم ، فصرنا ندرج مع العرب الكثير من الاتراك والفرس والافغان ، عدا من تبقى من احفاد التتار والمغول ، والذين لحد الآن يكرهون الثقافة والفنون  ولديهم عداء مستأصل لشارع المتنبي .
رغم الروايات والقصص الاسطورية التي الفها اجدادنا العرب ، فلم تكن تتعدى نسبة القبائل العربية المستوطنة في العراق قبل الفتح عن خمسة عشر الى ثمانية عشر بالمائة ، ثم زادت بعد قرن أو قرنين من الفتح الاسـلامي الى نسبة الثلث ، في حين اغلب سكان العراق كانوا ومازالوا من احفاد الصابئة والسريان الذين اسـلموا واستعربوا بسبب ظلم الحجاج وفرضه الضرائب الباهضة على مزارعهم وقراهم ، وقد نسبوا انفسهم هم وبقايا الفرس المستوطنين بالعراق الى القبائل العربية التي استوطنت بجوارهم ، وزيادة نسبة العرب والاكراد في العراق جاءت من اندماج هؤلاء بالقرى العربية أو الكردية المجاورة ، والا فلم يكن احد من الاكراد قبل الاسلام يعتنق اليهودية أو النصرانية ، فلقد كانت الديانة السائدة بين الاكراد قاطبة هي الزرادشتية .
نعود الآن الى المطبخ العراقي ونتسائل كم من العرب يتذقون البرياني وبقية الاكلات والحلويات الكردية ، وكم من الاكراد أو التركمان معجبون بطريقة البصاروة في طبخ السمك أوالروبيان ، وكم من ابناء المحافظات الشمالية أو الجنوبية معجبون بطريقة الكواظمة والكربلائيين في طبخ مرقة القيمة والتي انتقلت اليهم من المطبخ الايراني .
إن من يزعم حب العراق عليه أن يحب جميع مكوناته الاثنية والقومية ، وأن يحترم جميع طوائفه ومذاهبه واديانه ، أن يجب سمائه ومياهه وطعامه وشرابه ، وأن يتقبل وجود الدولمة والفسنجون والتمن والقيمة وشوربة السلق  ومطبك البيتنجان في المطبخ العراقي ، وإذا كان الله من سابع سما خلق العراق وهو متعدد الاديان والمذاهب ، فلماذا تريد ايها السياسي تفصيل عراق مصغر لتصبح انت وعشيرتك اغلبية السكان فيه ؟؟ .
المفروض قبل حدوث أي انتخابات للمجالس المحلية ومجلس النواب ، اجراء اختبار مطبخي لكل مرشح لنعرف اذواقهم ومدى معرفتهم بمكونات بعض الاكلات العراقية المشهورة ، فمعرفة ذوق المرشح ومدى تعلقه بالطبخ العراقي يدل على مدى وطنيته وتمسكه بالعراق الموحد وخاصة إذا كان حافظاً لوصفات الطعام التي تعدها محافظات بعيدة عن محافظته ، أما إذا ظهر المرشح مغرماً بأكلة السمك والفنكر جبس الانكليزية ، فالافضل له الترشح للمجلس البلدي لبلدة هيل الانكليزية أو مدينة سوانزي الويلزية ، لا أن يترشح عن الناصرية او كربلاء بعد أن نسى لطول اغترابه ماذا كان يأكل ابناء بلدته .