17 نوفمبر، 2024 9:29 م
Search
Close this search box.

جوادان لـ “نصب الحرية”

جوادان لـ “نصب الحرية”

لم يتسن لجواد سليم رؤية عمله الضخم “نصب الحرية” شامخا في قلب بغداد بساحة التحرير. نوبة خطفت قلب النحات الخالد. طالت فترة الانبهار بنصب الحرية على الرغم من وضوح الرموز وعمق الدلالات. الماضي يعانق الحاضر ويتطلع الى المستقبل. ليس ثمة اكثر وضوحا من هذه الفكرة في عصر تمجيد الايدولوجيات. قيمة “نصب الحرية” لاتكمن بوضوح الفكرة ولا اختزال التاريخ  بقدر ما تكمن في شعرية المعنى الكامن في قلب النحات المخطوف بنوبة مفاجئة.
 بعد نصف قرن كان “نصب الحرية” على موعد مع جواد اخر. الحطاب الفقير القادم من البصرة حاملا هموم الفقراء (ديوانه الاول .. سلاما ايها الفقراء اواخر السبعينات ) والذي حرص ان يثبت في مفتتح ديوانه الاخير “بروفايل للريح .. رسم جانبي للمطر” عبارة  “مازال في بغداد”. لاتكتمل دلالات العنوان الا بعبارة توضيحية هي “تنويعات على نصب الحرية”. الحطاب الذي اخفى تاريخ ميلاده الذي اعرفه انا مثلما يعرفه  انكيدو وكلكامش وحمورابي ونبوخذ نصر والملك فيصل الثاني وعبد الكريم قاسم فضلا عن السياب والبريكان وسعدي يوسف ومحمد خضير بدا تواقا لان يتم المهمة التي بداها سميه جواد سليم قبل نصف قرن. الحطاب جواد  لاينقصه الزمن الذي غدر بالسليم جواد في منتصف  اللحظة الفارقة بين عظمة الانجاز ولوعة الفراق, فلايزال ثمة متسع للعب بالكلمات.
 لكن هناك فرق بين كلا الجوادين .. جواد الاول امتطى صهوة  الماضي على عربة سومرية  من باب الانبهار بالحاضر الوليد بعد الرابع عشر من تموز للشروع ببناء  يوتوبيا المستقبل في حين امتطى جواد الثاني  صهوة المستقبل  على عربة الحاضر الجريح والمملوء بالاحباطات في محاولة اخيرة للاعتذار.  يبرر الحطاب تجربته لاعادة تشييد نصب الحرية شعرا بمغامرة كان قد سبقه اليها الشاعر بلند الحيدري مع الروائي جبرا ابراهيم جبرا ولكنهما وطبقا لراوية الحيدري للحطاب فشلا في امكانية ان تحاكي القصيدة الرسم التشكيلي.
 يقول جواد عن هذه التجربة “انا جواد الحطاب قررت ان اغامر مع جواد سليم واكتب عن تكويناته الراسية في ساحة التحرير . قد تتطابق القصائد مع رؤية النحات, ومن المؤكد انها ستختلف.. فالابداع بكل ثيماته ليس سوى مغامرة تحتمل التاويلات”. ومن بؤرة الخلاف و الخوف هذه مما يخبئه المستقبل لحلم الشاعر  بعد نصف قرن اخر تبدا مغامرته مثلما بدات مغامرة النحات  قبل نصف قرن مضى. لم يكتمل التاريخ بعد وان بلغ عمر الحكاية قرنا كاملا . فـ “من همسة الاف سنة” مثلما يقول الحطاب في محاولة منه لاستدراج قارئه لغواية الكلمات عبر المفارقة الجناسية “خمسة وهمسة” فان هذا وحده يماثل ” الزمن التقريبي لكعك السيد” في قلب بغداد.
 لاتكتمل مغامرة الحطاب في تنويعاته على نصب الحرية الا بتحديد موقف مما جرى ويجري عبر اختزال رمزي للكلمات .. فخلال نصف قرن اختزل تاريخ العراق ثلاث فئات “الوصي : على ظهر الدبابات البريطانية. (في اشارة الى عبد الاله الذي انتقم منه ثوار تموز). “المغامرون: على ظهر الدبابات الوطنية. (في اشارة الى ثورة تموز 1958). “السراق: على ظهر الدبابات الاميركية” (في اشارة لاينقصها الخجل مما جرى بعد عام 2003). الدلالات اعمق من المعنى الذي هو ليس في قلب النحات الذي خطفته النوبة ولا قلب الشاعر الذي خطفته .. “مريم من كرادة الحكومة”.

أحدث المقالات