يمارس الرجال المقهورون خائبو الرجاء قهرا على المرأة ويهدرون أطنانا من الورق والأحبار في جدل حول حدود ما ترتديه وما يظهر من جسدها وطبيعة عملها.
النظرة السلفية المهينة للمرأة لا تختلف إلا في الدرجة عن نظرة البعض من النخب العلمانية المصرية. كل ما في الأمر أن لدى السلفيين عقيدة وسلوكا يتسمان بالوضوح، فلا يخبئون ذقونهم وآراءهم ويسمّون الأشياء بأسمائها، في حين يتجمّل علمانيون بفائض من الكلام الكبير، غير الواضح أحيانا، وبجاذبية الأنساق التي تكون أوعية لآرائهم ومنها أفلام رجعية يصنعها رجال ونساء ويصفق لها جمهور ينتمي إلى بقايا طبقة وسطى أصابها التشوه والتآكل؛ حتى صار اسم المرأة عورة في المجال العمومي ولا تُنادى إلا باسم زوجها أو أحد أبنائها.
لنفترض أن امرأة اسمها “هند” بصحبة طفلتها “أمل” في مكان عام مع صديقة لها اسمها “أمل” وابنتها “هند”. زوج الأولى سيناديها باسم ابنتها “أمل”، لأن اسم زوجته عورة ولا يصح أن يعرفه حضور غير مبالين بالأم وابنتها. ولا يقتصر “العيب” على رجال مصابين بأوهام الورع فيحجبون أسماء زوجاتهم، إذ أصابت عدوى هذا “العيب” النساء أيضا؛ فمحجوبة الاسم “هند” لن تبخل على صديقتها بأن تناديها باسم طفلتها “هند”. في الحالتين لم يعرف الناس أي المرأتين هند وأيهما أمل؟ وأنت نفسك أصابك ارتباك أثناء قراءة هذه الفقرة واختلطت عليك الأسماء، كما سيختلط عليك اسم المذكر حين تنادى به امرأة، ولن تعرف هل هو اسم الزوج أو الابن؟ ولا تندهش حين تسمع أحدا ينادي امرأة “يا محمد”. ومع موجة حملت أسماء غير مصرية يمكن أن تسمع رجلا يقول “يا حذيفة”، مع الحرص على إخراج اللسان في حرف “الذال” على غير عادة المصريين، ولن يرد على النداء أي حذيفة، وإنما امرأة ولو كان اسمها معروفا كزميلة للزوج في مؤسسة أو ناد للطبقة الوسطى.
ما تبقى من الطبقة الوسطى يشمل القضاة والأطباء وأساتذة الجامعة والمحامين والصحافيين والمشتغلين بالفنون والثقافة إبداعا وتنظيرا. سلة تجمع متناقضات ومتناقضين من ضحايا التدهور السياسي والثقافي والتعليمي ممن استظهروا الكتب المدرسية ثم المذكّرات الجامعية الضامنة للنجاح لا الفقه، واستعاروا ثقافة لا يربطهم بها تاريخ أو جغرافيا وأورثتهم نوعا من الاستلاب الطوعي، فلم يشعروا بالضيق لجهلهم تاريخ أسلاف لم تخجلهم أسماء النساء.
في فجر التاريخ المصري ساد الاعتقاد بأن الآلهة ظلت تحكم الأرض إلى أن صار البشر أكثر تحضرا ووعيا، فصعدت الآلهة إلى السماء وتركت مهمة الحكم للبشر، واحتفظت الآلهات بمعابدهن وأسمائهن الحسنى، مثل حتحور وإيزيس، وللأخيرة تمثال شهير ترضع فيه ابنها حورس، وقد انتقلت تلك الهيئة بعد الميلاد طبق الأصل، وأصبحت أيقونة للسيدة العذراء والمسيح الطفل. وكانت حتحور رمزا للجمال والأنوثة وعشق الحياة والخصوبة والرغبة الجنسية، ويسجل الكندي سيمسون نايوفتس في كتابه “مصر أصل الشجرة” أن حتحور وإيزيس كانتا “في المقام الأول انعكاسا للموقف الأكثر مساواة نسبيا تجاه المرأة مقارنة بالشعوب الأخرى في العالم القديم. وهما لم تكونا مستكينتين.. وكانتا قادرتين على القيام بنوع من العمل ارتبط عادة بالذكور”.
النظرة السلفية المهينة للمرأة لا تختلف إلا في الدرجة عن نظرة البعض من النخب العلمانية المصرية. كل ما في الأمر أن لدى السلفيين عقيدة وسلوكا يتسمان بالوضوح، فلا يخبئون آراءهم ويسمون الأشياء بأسمائها
وتذكر الفرنسية كريستيان ديروش نوبلكور في كتابها “المرأة الفرعونية” أن المصريين اهتموا “بالتعرف على العنصر الأنثوي داخل نطاق النشاط الرباني، ومن ثم كان لكل مدينة ولكل إقليم.. معبود له زوجة من الربات تنجب له ابنا ليكونوا ثالوثا، فالثالوث فكرة مصرية صميمة”.
فما الذي جرى لأحفاد حتشبسوت التي حكمت مصر 21 عاما بداية من عام 1503 قبل الميلاد؟ ربما تكمن الإجابة في بؤس غير حضاري يصيب الشعب فيتعلق بيقين ما، ولن يجد أكثر رسوخا من أقوال مرسلة عن الحلقة الأضعف، فيمارس الرجال المقهورون خائبو الرجاء قهرا على المرأة ويهدرون أطنانا من الورق والأحبار في جدل حول حدود ما ترتديه وما يظهر من جسدها وطبيعة عملها. في مـراحل الكفـاح لا يثار هذا اللغط؛ إذ تنسفه النساء بحكم الأمر الواقع، حين يقررن الانخراط في الكفاح الوطني، فتصير جميلة رمزا لثورة الجزائر، وتذهب سناء محيدلي لأبعد مما بدأته ليلى خالد.
إذا بدأت الحكاية بالسخرية فلن تنتهي إلا بتشويه الوعي. بدأت السخرية برفاعة الطهطاوي (1801-1873) الذي ضرب عام 1838 مثلا في احترام المرأة بكتابته تعهدا لبنت خاله كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلي الأنصاري، يصون حقوقها الزوجية بأن “يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية.. فإذا تزوج بزوجة أيّا ما كانت، كانت بنت خاله بمجرد العقد.. خالصة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين..”. سخر الممثل عادل إمام في مسرحية “مدرسة المشاغبين” من الطهطاوي وكرر اسمه بميوعة وتوالت سخرياته “السينمائية” الغليظة من النساء كلما صادفته امرأة قليلة الحظ من الجمال بداية من أولى بطولاته في فيلم “البحث عن فضيحة”.
هذه النظرة الذكورية للمرأة لن تقف عند حدود عقابها على بدانتها وتقدمها في السن وملامحها غير الجذابة بل ستمتد إلى ردعها عن التعامل بندية مع الرجال وحقها في اختيار مصيرها وأن تقول “لا”، فيتطوع مخرج مسرحي تحت راية “الأخلاق” بصفع سعاد حسني في فيلم “خلي بالك من زوزو”، وتحييه أمها تحية كاريوكا “ينصر دينك يا شيخ” ويصفق الجمهور في القاعة تأييدا للصفعة. هو الجمهور نفسه الذي احتفى في الستينات بالرؤية الآدمية التقدمية لفيلم “مراتي مدير عام”، ثم انتكس بما يليق بأيامنا في فيلم “تيمور وشفيقة” المهين للمرأة.
النظرة الذكورية المتخلفة للمرأة راسخة أيضا في اللاوعي النسوي وتكفي مشـاهدة فيلم “امرأة واحدة لا تكفي”، عن قصة عماد الدين أديـب وسينـاريو وحـوار أبيه عبدالحي أديب، للشك في أن مخرجه أبوبكر البغدادي لا إيناس الدغيدي التي تتيح لبطل الفيلم أن يحب ثلاث نساء ويصرّ على الاحتفاظ بهن، وفي المشهد الأخير تعجبه امرأة رابعة يعرض عليها الزواج ولن تكون إلا إينـاس الدغيدي التي ستتكـرر هذه النظرة بصورة أقل حدة في فيلم “دانتيلا”، عن قصة هالة سرحان وسيناريو وحوار رفيق الصبان ومصطفى محرم وإيناس الدغيدي التي أهدت فيلمها “إلى كل صديقة حاولت أن تخسر صديقها بسبب رجل”. ربما يحتاج الأمر إلى ما هو أبعد من النقد السينمائي، إلى تحليل نفسي لتقصي ميراث العبودية.
نقلا عن العرب