عاشت المعارضة السياسية منذ نشأتها أجواءاً مختلفة، حيث جوبه بعضها باضطهاد الدولة وسلطاتها القمعية والدكتاتورية، فيما عاصر بعضها الآخر نظماً ديمقراطية تعددية. وقد ساد العنف والارهاب والتصفيات في الحالة الأولى مما اضطرها للعمل السري واستخدام الأسلوب التحريضي المهاجم كردة فعل للعنف بعنف مضاد. بينما مارست المعارضة في الدول الديمقراطية نشاطها بشكل علني وطرحت برامجها الوطنية بالأسلوب التنويري المقاوم كبديل لبرنامج الكتلة الحاكمة دون خوف أو وجل.
وفي الوقت الذي تخلصت فيه الدول الغربية. والأوربية وبعض الدول الشرقية من الأنظمة التسلطية والشمولية، ونعمت فيها كتل المعارضة بحرية التعبير والعمل المعلن ـ لا تزال المعارضة العربية تجابه بأعتى النظم التسلطية والحكومات الوراثية والانقلابية، وبالرغم من أنها معارضة فكرية اتسمت بالجنوح الى الأساليب السلمية، ونزعت الى الحوار والجدل مع الطرف المقابل ولم تلجأ الى العنف الا اضطراراً وفي حالات نادرة دفاعاً عن النفس ـ برغم ذلك فقد لاقت خصومة عنيفة من قبل السلطات التي عاصرتها.
ولقد كانت المعارضة العراقية ـ بمختلف تياراتها وحركاتها واحزابها ـ متقدمة على جميع أنواع المعارضة في الدول العربية، وسابقة عصرها بتبنيها الأدوات الاقناعية وسعيها الى طرح البديل الايجابي بآليات ديمقراطية بغية إقامة حكومة ديمقراطية ونظام تعددي ينعم فيه الجميع بالعدل، وتتمتع كافة الشرائح بحقوقها. فكان قدرها معاصرة تيار استبدادي قهري متسلط، متصل ومتوارث! حيث تلقت الضربات القاسية تلو الضربات، وعانت الذبح والتصفيات والتشريد منذ تأسيس العراق وحتى سقوط الصنم. ومع ذلك لم تفقد خصوصيتها واستمرت بطرح برامجها التي ازدادت نضوجاً بطول المدة وحكم التجربة. وما التقارب والتضامن بين الأطراف المختلفة والتيارات المتعددة لهذه المعارضة وتصميمها على اسقاط النظام الشوفيني. الاّ دلالة وعلامة بارزة تشير الى أنها معارضة فكرية جوهراً ومضموناً وأنها ترتكز الى منهج ايديولوجي متطور واضح المعالم يستمد وجوده وديمومته من قواعدها الجماهيرية كونها محملة بهمومها ونابعة من صميم واقعها، وقدرتها على معايشة الواقع السياسي والاجتماعي لشعبها دون المساس بتأريخه الزاخر. مع تطلعاته المشروعة لمستقبل زاهر. فإن مصداقية الأفكار تبرز من خلال ارتباطها بالواقع وتبنيها لقضايا الناس وتلبية حاجاتهم الفكرية ومتطلباتهم اليومية مع احترام كامل لطقوسهم ومقدساتهم وتراثهم وتقاليدهم وتمكينهم من معرفة ما يدور في العالم بتحليل مبسط يتناسب ومستوياتهم المعرفية وثقافتهم.
ثم بعد ذلك تتم عملية طرح البدائل بعد قراءة الواقع بدقة ليكون البديل اقرب للمرحلة وأكثر تقبلاً من جيل المرحلة الحالية والتي سبقتها. وتأسيساً على هذا فأن الديمقراطية ستتيح أفضل الفرص لجميع فصائل المعارضة لشرح رؤيتها وايصالها الى الناس من دون تردد وبلا أدنى وجل من تصدي السلطة الحاكمة خاصة اذا لامست تلك الرؤى حاجات الجماهير وضمنت حل مشاكل مجتمع ينوء بأعباء ثقيلة للسلطات المتجبرة التي تعاقبت على حكمه.
وبعد سقوط السلطة الغاشمة في بغداد في التاسع من نيسان سنة 2003، سعت بعض فصائل المعارضة العراقية الى تطوير طروحاتها متجاوزة الاسلوب النمطي في الطرح والتثقيف معلنة بداية الدخول بمراحل متقدمة تتماشى وروح العصر وما حققه العالم من طفرات متسارعة في جميع المجالات، حتى تتمكن من تهيئة الساحة السياسية للمستجدات التي حصلت بعد سقوط السلطة المقبورة وذلك بتقديم البدائل وبأفضل الصيغ لقيام دولة العراق الدستورية دولة القانون والعدل بعدما خربته دولة التسلط الدكتاتوري الغاشمة. ان قيام دولة دستورية يحترم فيها الرأي الآخر يسجل علامة بارزة في تأريخ المعارضة العراقية ويعد إنجازاً فريداً عجزت عن تحقيقه الحكومات الوراثية والإنقلابية وهي بهذا تستحق تأييد الجماهير والتفافها حولها. هذه الجماهير التي عانت مرارة الإستبداد ووعت حجم الدمار والخراب الذي خلفته سلطات الجور الشوفيني. وهذا ما نتمنى أن تتحلى به جميع فصائل المعارضة بعدما إنفتحت أمامها الآفاق الرحبة لتطرح نفسها بأساليب معاصرة وآليات متطورة تتماشى مع النظام الجديد القائم على تداول السلطة سلمياً لجميع القوى المؤمنة بالتجديد والحريصة على بناء العراق وإعادته الى موقعه اللائق، والساعية الى تحقيق الرفاهية لهذا الشعب الصابر من خلال شراكة فاعلة لأجل إنجاح التجربة الجديدة وترسيخها لقطع الطريق على قوى الشر المضادة لعملية التغيير والتي تتبنى العنف والارهاب واشاعة الفوضى نتيجة لإفلاسها السياسي، وفشلها خلال تجارب متعددة وتسلطها بقوة الحديد والنار وعن طريق الانقلابات الدموية.
واليوم وبعد أن تحرر العراق من طغمة القهر والإستبداد، وإنفتح على العالم متقبلاً كل الأفكار وعلى جميع المستويات والصعد،- وهذا بحد ذاته يعد طفرة نوعية وظاهرة صحية خاصة وانه يأتي على أنقاض سلطة شمولية دامت اكثر من اربعين عاما، وبهذه الفترة الزمنية القياسية وإضطرابها بأعمال التخريب الارهابية وتداعيات المرحلة السابقة.- يتوجب على الجميع ضمان حرية التحاور وقبول الآخر والإبتعاد عن لهجة التهديد والوعيد، وقبرها مع كل أشكال المهاترات ومخلفات الحقبة السوداء الماضية، ليعبر كل عن رأيه ويدلو بدلوه دون ريبة أو خوف. ان التنوع والتعدد لا يعني الفرقة، كما ان الاختلاف لا يعني العداوة والبغضاء، حيث ان هذا التنوع ضروري لمسيرة الحياة الانسانية وتطورها لما ينتجه من تلاقح الافكار واتصال الحضارات شريطة ان يبتعد عن التعصب الاعمى وتغليب حالة الانتصار عنوة حتى وان كان الطرف الذي يدعيها باطلاً وخاطئاً. وكما جاء في الحديث الشريف “ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه لكن من العصبية أن يجعل شرار قومه أفضل من أخيار الآخرين”.
كذلك فإن التعددية الحزبية كنمط سياسي تمثل ضمانا لتداول السلطة وعدم استحواذ جهة واحدة أو عائلة على مقدرات الدولة، كما انها صيانة للحقوق والحريات العامة وتحقيق العدالة والمساواة، والرقابة المستمرة على اجهزة وادارات الدولة ومؤسسات الحكومة على أن ترتبط هذه التعددية السياسية إرتباطاً وثيقاً بالجماهير وليس بالسلطة ودوائرها وبرامجها المختلفة كونها أوسع مدى من تعدد آراء النخب والمستويات السياسية.
ومثل هذا التوجه كفيل بارساء قواعد التعددية الدستورية التي تقوم على ديمومة الاتصال مع الآخرين وفق مقتضيات المصلحة الوطنية التي لا تنفك عن مصالح الأفراد بحيث تدفعهم بايمان الى اسلوب عمل يضع الجميع، أفراداً وأحزاباً وتجمعات أمام مسؤولياتهم باعتبار أن كل فرد منهم هو جزء من الآخرين، وان للفرد الخيار بممارسة أفكاره وتوجهاته في الوسط الذي يجده مناسباً لتطلعاته ولقناعته بأن ذلك الوسط هو الذي يحدد خطأ أو صواب رؤآه وارشاده لما فيه تحقيق طموحاته.
إن فصائل المعارضة العراقية التي واكبت أزمات العراق منذ اكثر من أربعة عقود سود، وعاصرتها واكتوت بجحيم السلطة التي تسببت في تفاقمها كونها انفردت بمقدرات البلاد وعاشت التخبط والافلاس السياسي على المستويين الداخلي والخارجي ولجأت في حالات كثيرة الى نقض الاتفاقيات ونكث العهود الدولية والاستخفاف بالأعراف والقوانين الدولية، ما تسبب في عزلة العراق عن المجتمع الدولي، وجره الى حروب داخلية وخارجية، وجعل شعبه يعاني الفقر والفاقة والحصار برغم وجود ثرواته النفطية الهائلة ومعادنه المتنوعة: هذه الرؤية التي عاشتها فصائل المعارضة ولمست نتائجها عن كثب لهي خير عبرة وموعظة في جعل الجميع يحافظون على منجزات التغيير كحفاظهم على أغلى ما يملكون. فالمعارضة مهما تعددت فصائلها، وتشعبت أهواؤها ومذاهبها ومشاربها، لا يستقيم عمل أحدها بمعزل عن الفصائل الأخرى ولا يمكن لفصيل دون الآخر تحقيق انجاز أو إنجاح برنامج مهما كانت اهميته ومهما استطالت سطوته وهيمنته.