حملت أوراقي وكاميرتي لأجري تحقيقا صحفيا عن مسارح وسينمات بغداد أيام زمان ، وبخبرتي المتواضعة في هذا المضمار بدأت رحلتي سيرا على الأقدام إنطلاقا من ساحة حافظ القاضي ،وما هي سوى أمتار قليلة حتى صعقت ، أين سينما الوطني ؟ بح ، أين أورزدي باك ، سينما الرشيد ، المقهى البرازيلي ، مكتبة مكنزي ؟ بح ، سينما الشعب ، روكسي ، دنيا ، بدالة السنك العملاقة ؟ بح ، اين سينما الخيام ، غرناطة ، السندباد ، النجوم ، أطلس ، سميراميس ، النصر ، ..بح ؟! أين السلالم الكهربائية في ساحة التحرير ، كانت هنا نسرح ونمرح فوقها صعودا ونزولا أيام الصبا ، أين محال نفق التحرير الجميلة ؟ أين الهواتف العمومية في شارع السعدون بغرفها الأنيقة ، كنا نهاتف بها بعضنا بعضا ذات سلام قبل ان تقرع الحروب المتعاقبة أبوابنا وأجراسنا وتحرق أخضرنا ويابسنا كل عقد من الزمان وآت ؟
لا أكتمكم سرا أصابني الإحباط ، وأخذ اليأس مني كل مأخذ وانا أتساءل كيف السبيل الى إصلاح كل هذا الدمار والخراب ، كيف ؟! جلست القرفصاء على جانب الطريق مقابل أطلال بابل – سينما بابل بعد تحولها الى محال مخصصة لبيع قطع الغيار – وأخذت أعبث بهاتفي النقال وأتصفح الفيس بوك واذا بصفحة صبية عراقية جميلة لا تفارق البسمة البريئة محياها ، فتاة إسمها “جنات الرسامة ” أخذني الفضول مدفوعا بنظرتها الواثقة لأواصل تصفح صورها ولوحاتها ونشاطاتها واذا بها تعاني من ضمور العضلات وتكلس العظام وتقوس العمود الفقري، بنسبة عجز تبلغ 100 % !!
واذا بها فنانة ترسم بقدمها اليمنى مذ كان عمرها خمس سنين لتواصل إصرارها وترسم بقدمها مستخدمة برنامجpaint ومن ثم طورت مهاراتها لترسم على الحاسوب تارة وعلى الورق تارة أخرى بأقلام الماجك والرصاص والخشبي والمائي و الزيتي والاكريليك، وبدأت بتصمم الأزياء لتحقق حلمها في ذلك ، لم يقف طموحها عند هذا الحد بل تعداه الى إقامة معارض وحضور مؤتمرات عدة مكنتها من الحصول على شهادات تقديرية ودروع تشجيعية وميداليات ملونة لتتوج تألقها بمعرض شخصي حظي بإعجاب الحضور واستدر دموعهم وألهب حماسهم فوقفوا لها مصفقين على هامش مؤتمر” تيداكس بغداد ” ، هنا لم أتمالك نفسي بعد شحنة أمل منحتني إياها تلكم الصبية ذات الـ 15 ربيعا ” جنات الرسامة ” وكأنني نشطت من عقال .سألني أحدهم وكان يرقبني عن كثب من دون ان انتبه اليه ، أراك ابتهجت بعد طول قنوط ؟
قلت ، كيف لا أنشط وتسري في جسدي النحيل شحنات الأمل وتجتاح أعماقي رغبة الجد والعمل والمثابرة وهؤلاء الخارقون الذين يرفعون شعار “impossible is nothing” قد أعلوا فينا الهمم ، يعد تسلقهم بعناد سفوح المستحيل نحو القمم برغم اعاقاتهم فلقنوا البشرية عبر التأريخ دروسا في قوة الإرادة الفولاذية التي لاتلين ، الألمان يفتخرون ببيتهوفن وسيمفونياته التسع التي ألف أروعها وهو أصم لا يسمع ! محمد بن سيرين المعروف بتأويل الرؤى وتفسير الأحلام كان مصابا بالصمم ايضا إلا انه بلغ من العلم ما دفع الشعبي ليقول فيه (عليكم بذلك الأصم)! مصطفى الرافعي الملقب بمعجزة الأدب العربي كان اصما ، العداء الأفريقي أوسكار بيستوريوس ، كان مبتور القدمين حين شارك في دورة الألعاب الأولمبية لأول مرة ، السباح تيرينس باركين، الحاصل على الميدالية الفضية في دورة الألعاب الاولمبية 2000 لا يسمع منذ ولادته ، الأمريكية ، مارلا رانيان، فازت بـخمس ميداليات ذهبية في دورة ألعاب المعاقين و دورة أثينا 2004 ، وهي كفيفة !، البولندية ناتاليا بارتيكا ، التي نافست بقوة في دورة ألعاب بكين بكرة المنضدة 2008 برغم اعاقتها الولادية بدون يد ولا ذراع يمنى ! النجم المصري إبراهيم حمدتو ، الذي أذهل العالم بقدراته في منافسات دورة الألعاب البارالمبية 2016 في العاصمة البرازيلية ريودي جانيرو وهو يلعب تنس الطاولة بفمه وقدمه، بعد فقدانه كلا ذراعيه بحادث قطار فيما حقق الفيديو الذي أظهر طريقة لعبه المذهلة على اليوتيوب أكثر من مليوني مشاهدة !
ابداعات جنات دفعتني لأعيد النظر في عشرات البرامج الانتخابية التي طرحها مرشحو الكتل والائتلافات خلال الحملات الانتخابية المتتالية فلم أجد من بينها برنامجا واحدا يعد الناخبين برفع الحيف والظلم الذي وقع على شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة، وعددهم يربو على 2,5 مليون من الذكور والإناث في بلد مزقت أوصاله الحروب المتتابعة وشوه أجنته التلوث البيئي والإشعاعي، فضلا عن 25 مليون لغم ارضي تقتل وتعيق سنويا بين 13- 16الفا فهل هؤلاء خارج نطاق التغطية ، أم ماذا؟لم اسمع ببرنامج انتخابي واحد يتعهد بتأهيل ذوي الإعاقة البدنية وتشمل بتر الأطراف وتشوهها، والشلل النصفي او الرباعي ، ولا اصحاب الإعاقات الحسية وتشمل الصم والبكم والمكفوفين، ولا اصحاب الإعاقات الذهنية وتشمل الشلل الدماغي، والأمراض العقلية، ومتلازمة داون (المنغول)، ولا اصحاب الإعاقات النفسية وتشمل الأمراض العصبية والذهانية بكل أشكالها والتوحد ولا شديدي العوق وهؤلاء يجمعون بين الإعاقات البدنية والإعاقات الذهنية ، مع ان المادة 32 من الدستور العراقي تنص على ، ان ” الدولة ترعى المعاقين وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع” .
شكرا جنات فلقد ألهمتني بإصرارك وتألقك وإبتسامتك اصرارا مماثلا لأجراء تحقيقات صحفية متواصلة بمعية زملائي في مهنة المتاعب والسلطة الرابعة عن معاهد الرجاء المتخصصة برعاية المعاقين ذهنيا وعددها 17 معهدا في عموم العراق، ومعاهد الأمل المتخصصة برعاية الصم والبكم وعددها 22 معهدا، ومعاهد النور وعددها 5 معاهد لرعاية المكفوفين إضافة الى معهدي السعادة والمنار لرعاية الأطفال المعاقين حركيا، ومعهدي الحنان التي تتولى رعاية الأطفال شديدي العوق ، احدهما في بغداد والآخر في كربلاء عسى ان يتحرك الخيرون وذوو الضمائر الحية لتوفير المستلزمات الطبية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة مجانا أو بأسعار رمزية (كراسي المشلولين، العكازات الابطية والمرفقية، سماعات خلف الأذن، الأطراف الصناعية، الوسائد المضادة للتقرحات ) فضلا عن بناء ورش لتأهيل المعاقين كورش النجارة والسيراميك والرسم والخط والزخرفة والخياطة وتصليح الأجهزة الكهربائية والموبايل و شمولهم بمخصصات الرعاية الاجتماعية اسوة باقرانهم ، اضافة الى أنشاء النوادي والمراكز الرياضية لتأهيلهم وزجهم في البطولات العربية والمحلية والبارالمبية .