الجاسوس، العميل ، المخبر السري كلمات متقاربة بالمعنى الى حد ما، وفي اللغة العربية يقابلها العين والمثلت والمخبر. فقد ورد في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” لعن الله المثلث” فقيل: يا رسول الله، ومن المثلث؟ فقال: الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه”. (الكامل للمبرد). وقال الطرطوشي” وجدنا في حكم القدماء أبغض الناس إلى الله عز وجل المثلث. قال الأصمعي: هو الرجل يسعى بالنميمة في أخيه إلى الإمام فيهلك نفسه وأخاه وإمامه. وذكر الرجل السعاة عند المأمون فقال: لو لم يكن من عيبهم إلا أنهم أصدق ما يكون أبغض ما يكون عند الله عز وجل”. (سراج الملوك).
أما العين، فقد ذكر ابن منظور” العَيْنُ الَّذِي يُبْعث ليَتجسَّس الخبرَ، وَيُسَمَّى ذَا العَيْنَين، وَيُقَالُ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَا الْعَيْنَيْنِ وَذَا العُوَينتين، كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ”. (لسان العرب). وأضاف” اعْتانَ لَنَا فلانٌ أَي صَارَ عَيْناً أَي رَبيئةً، وَرُبَّمَا قَالُوا عانَ عَلَيْنَا فلانٌ يَعِينُ عِيانةً أَي صَارَ لَهُمْ عَيناً. وَفِي الْحَدِيثِ:أَنه بَعَثَ بسْبَسَةَ عَيْناً يومَ بَدْرٍ: أَي جَاسُوسًا. واعْتانَ لَهُ إِذا أَتاه بالخير. وَمِنْهُ حَدِيثِ الحُدَيْبية:
كانَ اللَّهُ قَدْ قطَعَ عَيْناً مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَي كَفَى اللَّه مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْصُدُنا ويتَجَسَّسُ عَلَيْنَا أَخبارَنا”. (لسان العرب).
أما المخبر، فقد ذكر الزبير بن بكار “حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ دِمَشْقَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي أُمَيَّةَ أَلَبَّ مِنْهُ فِي حَدَاثَةِ سِنَّهِ. قَالَ أَهْلُ دِمَشْقَ: هَذَا غُلامٌ شَابٌّ وَلا عِلْمَ لَهُ بِالأُمُورِ. وَسَيَسْمَعُ مِنَّا، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، عِنْدِي نَصِيحَةٌ. قَالَ لَهُ: لَيْتَ شِعْرِي مَا هَذِهِ النَّصِيحَةُ الَّتِي ابْتَدَأْتَنِي بِهَا مِنْ غَيْرِ يدٍ سَبَقَتْ مِنِّي إِلَيْكَ .قَالَ: لِي جَارٌ عَاصٍ مُتَخَلِّفٌ عَنْ ثَغْرِهِ. فَقَالَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، وَلا أَكْرَمْتَ أَمِيرَكَ، وَلا حَفِظْتَ جِوَارِكَ، إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِيمَا تَقُولُ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَنْفَعْكَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا عَاقَبْنَاكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْنَاكَ. قَالَ: أَقِلْنِي، أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ. قَالَ: اذْهَبْ حَيْثُ لا يَصْحَبُكَ اللَّهُ، إِنِّي أَرَاكَ شَرَّ جِيلِ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، أَمَا أَعْظَمْتُمْ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا الْفَاسِقُ، إِنَّ السِّعَايَةَ أَحْسَبُ مِنْهُ سَجِيَّةً، وَلَوْلا أَنَّهُ لا يَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُعَاتِبَ، كَانَ لِي فِي ذَلِكَ رَأْيٌ، فَلا يَأْتِنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِسِعَايَةٍ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الصَّادِقَ فِيهَا فَاسِقٌ، وَالْكَاذِبَ فِيهَا بَهَّاتٌ. فَحَدَّثْتُ بِهِذَا الْحَدِيثِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا أَشْبَهَ هَذَا الْكَلامَ بِكَلامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ! فَقُلْتُ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَالُهُ” . (الأخبار الموفقيات)
لاحظ ان معاني هذه المصطلحات منذ القديم كانت تعبر عن السوء والبغضاء وهي غير مستحبة لأن الوشاية مرفوضة، ولكن بطبيعة الحال لا يصح هذا الحكم في كل الظروف. بمعنى أن كان الغرض من الوشاية منع الضرر على الآخرين أو المجتمع فهي مستحبة شرعا، على سبيل المثال لو رأي أحدهم رجل ما يعرفة وهو يسرق دارا لجاره، فأن وشايته للشرطة عن هذا اللص تكون مستحبة بل هي واجب، سيما ان القوانين الحالية تعتبر المتستر على الجريمة شريك فيها، وهو اي المخبر يُجرم وفق القانون، إما إذا كان الغرض من الوشاية هو إلحاق الضرر بالآخرين دون وجه حق، كما جرى في العراق من خلال وظيفة ما يسمى بالمخبر السري، التي ألحقت الضرر بالآلاف من الأبرياء ومنهم من أعدم أو سُجن أو عُذب، فهذا ما تحدث عنه النبي (ص) في النهي عن الوشاية. سيما ان القضاء العراقي لا يلزم الواشي بحضوره جلسة المحاكمة ويتم الإكتفاء بوشايته كتابيا لا حضوريا، كما ان المتهم لا يحق له التعرف عمن وشى به وإضمر له الشر. وربما يذكر البعض قصة المخبر السري العراقي الذي تقدم لطلب يد فتاة فرفضوه أهلها، فقدم وشاية ضدهم على أساس إنهم إرهابيين، وكانت فضيحة ما بعدها فضيحة.
المخبر في الدول المتقدمة هو المواطن الصالح الذي يحب وطنه ويمنع أية ظاهرة يشعر بأنها تسيء الى وطنه. فالمواطنون الأوربيون جميعا عيون لبلدهم، اي هم رجال أمن ومخابرات متطوعين وليسوا موظفين في الأجهزة الأمنية، فهم يقدموا المعلومات ضد من يسيء الى بلدهم وينتهك قوانينهم المحلية طوعا سواء كان من مواطنيهم أو من الأجانب على حد سواء. وسنسرد شيء مما عشناه في الغربة عن هذا الموضوع.
كنا بصحبة أحد اللاجئين الجدد في متجر سويدي، وكان يريد شراء عدس أصفر، فأريناه المكان الذي توجد فيه أنواع مختلفة من البقوليات، وتركناه يختار ما يريد وكنا على مقربة منه نتسوق ما نحتاجه، وكانت بقريه امرأة عجوز سويدية، بعد لحظات انتبهت اليه وهو يمزق أكياس بعض البقوليات ويرى ما في داخلها ويعيدها الى الرف فقلت له ما تفعل؟ أجاب لا أعرف اين العدس الأصفر ففتحت كيسين وهما ليس عدسا أصفرا! أخذت الكيسين الممزقين ووضعتهما في سلتي بعد ان غلفتهما بكيس نايلون وحذرته من هذا العمل لأنه لا يجوز وفيه ضرر للسوق، لأن من يرى كيس البقوليات مفتوحا سوف يعزف عن شرائه ويتم إتلافه، ونحن نتحدث عن الموضوع أقبلت إحدى موظفات السوق مسرعة ونظرت الى رف البقوليات تتفحصه، ولم تجد أي كيس ممزق، فقالت بعد أن نظرت الى الكيسين في سلتي: قل لصاحبك بأنه لا يمزق الإكياس ويمكنه ان يستعين بنا إذا أراد شيئا ولم يتعرف عليه!
إعتذرنا منها وقلنا لها بأن الكيسين من مشترياتنا. يبدو انه فهم ما تحدثنا به مع الموظفة على الرغم من عدم معرفته اية كلمة سويدية، وقال لنا: الذي يحيرني كيف عرفت هذه الموظفة بذلك؟ قلنا له: عبر طريقين اولهما ان السيدة العجوز التي كانت بجانبك قد أخبرت الموظفة وهو الأرجح عندنا، أو أنظر الى الأعلى! في كل سوق توجد كاميرات سقفية، فربما رصدتك عن طريق الكاميرا.
حكى لنا جاري السويدي بأن احدى السيدات العجائز كانت تنظر من شقتها المطلة على الشارع العام، ورأت ان شابا يسوق سيارة سبورت لا يلتزم بالإشارة الضوئية فرصدته عدة مرات، وكان مروره بعد الساعة الثانية عشر ليلا، وفي نهاية المطاف إتصلت بالبوليس بعد أن صورت مخالفتة بموبايلها، وقد غُرم الشاب غرامة باهظة.
وفي أحدة محطات برلين كنا ننتظر الباص، وقد جلست فتاة مراهقة على مقعد في محطة الباص وبيدها كيسا فيه (حب شمسي قمر طري) وكانت تكرز وتبصق القشور من فمها الى الأرض مباشرة، فتجمع الكثير من القشور على الأرض، ولأني غريب عن البلاد، فالأمر لا يعنيني، ثم أتت امرأة بحدود الأربعين سنة من عمرها، ورأت ما تفعله الفتاة، فوبختها بصوت عالي وأجبرتها بأن تجمع كافة القشور من الأرض وتضعها في سلة المهملات القريبة منها.
في متجر سويدي أيضا في القرية الصغيرة التي نعيش فيها وتعرفنا على معظم سكانها، كان فيها متجر واحد يسمى (Coop ) وقد تعرفنا على جميع الموظفات والموظفين بحكم تواجدنا شبه اليومي في المتجر وانها قرية صغيرة جدا. وفي أحد الأيام أتت الينا موظفة الكاشير (الحسابات) مسرعة وقالت هل يمكن أن تساعدني؟ فإجبتها بالطبع، فإقتادني الى شخص كان يقف مع فتاة صغيرة لا تتجاوز الأريع سنوات قرب بوابة السوق. أخبرتني بأن الفتاة الصغير كانت تتناول حلوى السكاكر (الكوتري) دون ان تدفع الثمن، وان الأب كان يختار لها بعض الأنواع لتجرب طعمها، والأب كما يبدو لا يفهم اللغتين السويدية والانكليزية (الانكليزية هي اللغة الثانية في السويد). عرفته بنفسي وتبين انه عراقي وجاء قبل اسبوع الى السويد كلاجيء مع عائلته الصغيرة، وان ما يتقاضاه من مساعدة لا يكفِ لشراء علب السكاير، لأنه كان في موقف انتظار البت في قضيته ولم يحصل على اللجوء بعد. أخبرته بأنه ما فعلته ابنته يعتبر سرقة وفق القانون، ولأنه جديد فإنه طلبت من الموظفة ان تسامحه هذه المرة لأنه لا يعرف هذا الأمر، وقلت لها أني سأشتري (300) غرام من الكوتري للفتاة وسوف اتنازل عن نصفها كتعويض عما أكلته الطفلة بعد دفع ثمنها، او ان تحسم هي الأمر كما ترغب. رفضت البائعة وقالت كلا سأعتبر ما أكلته (حلوى متساقطة) من المتجر على أن لا تكررها ثانية! لأنه غالبا ما تقع اعداد كثيرة من السكاكر على الأرض عندما يكيل الأطفال منها في الأكياس، فالمتساقط على الأرض يُرمى في سلة المهملات. بعد أن خرجنا من السوق أخبرني بأن احدى السيدات قد رأت الطفلة وهي تتناول السكاكر، ونظرت اليه بإزدراء، ويبدو انها هي التي أخبرت البائعة بذلك.
هنا تتزواج المواطنة الصميمية مع الوعي والثقافة، وتتكون قاعدة مهمة وهي جميعنا عيون لوطننا، ونحرص على سيادة القانون وتطبيقه، ونخبر الجهات المختصة عن أي خلل يضر البلد او الشعب. مقابل هذه الظاهرة تجد في العراق ظاهرة خطيرة معاكسة وهي (آني شعلية) أي لا شأن لي بما يحدث، وحتى في حالة الإخبار عن الخطأ عبر ما يسمى بالمخبر السري، فقد تحولت الوشاية الى جريمة بحق المواطن، سيما ان الآلاف من الأبرياء راحوا كبش فداء لهذه الظاهرة التي خرجت عن مسارها الوطني الصحيح لدرء الأخطار التي تهدد الأمن الوطني، وصارت وسيلة للإنتقام من الناس لأغراض حزبية وطائفية وشخصية، لأن لا توجد اختيارات صحيحة لمن يقوم بهذه المهمة في ظل حكومة فاسدة، ونظام قضائي فاسد، مسيس تماما لمصلحة الأحزاب الحاكمة. وأناس لا تعرف ربٌها فأساءت إستخدام وظيفتها، وحسابها مع الخالق جلٌ وعزٌ.
للحديث بقية.. بعون الله