قبل نصف قرن ونيف، اعتلت ثلة من الضباط الشباب المصريين دبابة، واطاحوا بالنظام الملكي، فسقط النظام بسلبياته وايجابياته، واعلنت الجمهورية، وحذا حذوهم ضباط آخرون في العراق وليبيا والسودان وسوريا وبلدان عربية اخرى، فبدأت صفحة جديدة من تاريخ المنطقة، لا تزال تآثراتها الأيديولوجية عميقة في حاضرنا ومستقبلنا.
بعد نصف قرن وفي رؤية بعيدة عن العواطف والمشاعر الجياشة، يا ترى كيف نقرأ هذا الحدث ؟ وقد انقلب كل شيء واختلطت الأوراق، كيف تنظر الشعوب لتلك الجمهورية التي أسسها ما عرف في حينه بالضباط الأحرار؟ لا بل كيف تفهم الجمهورية ؟.
الجمهورية وفق التعريف الأكاديمي ” كلمة لاتينية الأصل ذات مقطعين Re وتعني «شيء» وpublic وتعني «عام»، فيصبح معناها «الشيء العام»، أي إنها أسلوب الحكم الذي يقوم على مشاركة مجموع المواطنين، والجمهورية نظام من أنظمة الحكم الأقرب للديمقراطية يقوم على مبدأ سيادة الشعب وحريته في اختيار حكامه وقياداته ومشاركته الواسعة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية” انتهى الاقتباس، انه ابسط تعريف للجمهورية يوضح المعنى الذي لم نمارسه أو نختبره طوال عقود الجمهورية في وطننا العراق أو في منطقتنا الشرق أوسطية.
إذن ما الذي مارسناه خلال تلك العقود من الحكم الجمهوري، والذي أسهم في بلورة شخصية لمواطن فشل في إدارة وبناء دولة مؤسساتية حقيقية، تستطيع الحياة والاستمرار لتحقيق النجاح والازدهار في هذه الأوطان.
نوع آخر من الجمهورية خارج التعريف الذي اقتبسناه، هو ما أسسته مجموعات الضباط المنتفضين على ظلم واستبداد وتخلف الحقبة الملكية، وسارت خلفهم جماهير الشعب أملا في غداً افضل تصنعه لهم هذه الجمهورية، بشعاراتها البراقة في الديمقراطية والعدل والمساواة والقضاء على الإمبريالية العالمية، وتحقيق الاشتراكية الحقيقة.
ولكن هل نجحت جمهورية العسكر؟… لقد بشر العسكر لجمهوريتهم بصورة فريدة من نوعها، رسمت في خطاباتها وشعاراتها جمهورية الحلم للمواطن البسيط والذي لا تتعدى أحلامه عمل لائق يضمن قوت يومه وعائلته، وجمهورية المؤسسات ودولة القانون للمواطن المثقف الباحث عن قوته الفكري في نظريات الحرية والليبرالية.
ولكنها فشلت في تحقيق كل ذلك، واسست لنوع جديد من الجمهورية نستطيع ان نطلق عليها “جمهورية الملك”، صنعت بادواتها الرمز الإله، القائد الملهم، المفكر العظيم، الخالد أبد الدهر، فيما كانت تبني شخصية المواطن على أساس الانبهار بعظمة الرجل الأوحد، وتوحي ان الوطن يرتكز على الرمز وسقوطه نهاية الوطن وزواله، فيما تخلق المعارك والصراعات وتحذر دوما من المؤامرات التي تستهدف الوطن من خلال استهدافها للقائد الملهم.
فنشأت أجيال المؤامرة، وتربت الأمة على ان الخلاص لن يتم إلا بوجود القائد، فكانت الدولة حطب استمرار سلطة الزعيم، فسقطت الدولة ومؤسساتها واختلطت السلطات وتداخلت فاستبدلت السلطات التقليدية : التشريعية والقضائية والتنفيذية، بالعائلة والعشيرية والمنافقين والمقربين والمتملقين لتجتمع بعد ذلك كل السلطات في قبضة رجل واحد وفكر واحد.
في جمهورية الملك، لا معنى للدولة بمفهومها المعاصر، فالقائد الرمز ابتلع الدولة وأصبحت جزء منه، لذلك عند انهيار الرمز أو سقوطه ستسقط الدولة معه ولن يعد لها وجود، فسنوات طويلة من خلق التبريرات لاستمرار الحاكم، ومنها ضرورة المرحلة وعدم وجود البديل، ستخلق الفراغ والذي سيحل بالتوريث أو الفوضى كما حصل في العراق عندما سقط الرمز فكانت سنوات الفوضى والتخبط، لعدم قدرة الشعب على فهم السلطة ودولة القانون، وسقوط مفاهيم الجمهورية منذ سنوات طويلة، أو ما حدث في سوريا عندما جرى التوريث من الأب الى الابن، وهنا استمر النظام وكان شيئا لم يكن، ولكن عند اول أختبار انهارت الدولة.
مجموعة الضباط الشباب والذين حملوا أحلام شعبا كبيرا لأحداث التغيير، ضنوا انه يمكن للتغيير العسكري ان يؤتي النتائج المرجوه، لم يكن خيارا صائبا، في الوقت ذاته لا نستطيع ان نحملهم اي مسؤولية، لأنهم كانوا يحملون نيات صادقة لتغيير واقعا وجدوه في حينه امبرياليا متخلفا لا يضمن للشعب ابسط حقوقه، فخاضوا المغامرة وخاضها الشعب معهم.
ولكننا تعلمنا من هذة السنوات وما تلاها من صراعات واحداث ان أفق العسكر محدود ومحكوم بنظم انضباط عسكري صارم، وسياقاتهم لا تقبل المراوغة السياسية وخلق الافكار والابداع في فهم القوانين، ليس هذا نقصا بل لكل وظيفته وعمله، ونادرا ما ينجح العسكر وخاصة في بلدان العالم الثالث في قيادة شعب أو أمة، يضاف إليها انجذابهم لاغواء السلطة ومغرياتها، والانغماس السريع في وحل مفاسدها، وعدم القدرة على الخروج من كل ذلك.
رغم ان مخاض الأمة كان طويلا، واستمر لخمسين عاما، والولادة كانت طفلا ميتا، وعدنا الى نقطة ما قبل الصفر، فاليوم علينا ان نقرأ التجربة ونحللها، ونحدد سلبياتها وإيجابياتها، ونحاول ان نبدأ في مخاض آخر، لنخرج بحلول لواقعنا لننطلق ببناء الجمهورية الجديدة، والتي تحقق أحلام المجتمع بفئاته المتنوعة، ولنستفد من تجارب الامم المتقدمة لنتجنب خوض مخاضهم الطويل والغرق في بحور الدماء التي غرقوا فيها.