لا يختلف سويان على اعتبار تعامل الحكومة العراقية من خلال أجهزتها الأمنية مع المتظاهيرن العزل تصعيداً خطيراً أثبت عدم أهليتها، وربما سيقود البلاد الى حرب أهلية، تعصف بغالبية مدنها خاصة بعدما برزت للملأ تصريحات “بعض” رجال الدين الطائفيين معلنين من على منابرهم تأييدهم لحكومة عادل عبد المهدي، ولكون الحقد والكراهية تتقطر من مجمل مسامات اجسادهم، فلم يتمكنوا من إخفاء فرزهم الطائفي، وعدائهم للمتظاهرين بأعتبارهم يشكلون تهديدا لنفوذ بعض التيارات الدينية الشيعية الموالية لنهجهم الخالي من روح الأنتماء الى الوطن الواحد، حيث وصف احدهم ما حصلت عليه هذه الأحزاب والتيارات من أمتيازات “بالغنائم”، متناسين بأن المظاهرات أنطلقت من المدن التي يسكنها غالبية من أبناء المذهب الشيعي.
لا تكاد تفارق مخيلتنا تلك المشاهد الرهيبة التي سقط فيها على مدار الأيام القليلة الماضية ما يفوق المائة شهيد وآلاف الجرحى جلهم من فئة الشباب بعمر الزهور، بعملية قنص مبرمجة قام بها مجهولون تتضارب الأنباء لحد الآن عن أنتماءاتهم ونواياهم، ربما الأيام القادمة ستكون كفيلة بكشف الحقائق على الملأ.
لم تكن استجابة الحكومة بسلطتيها التشريعية والتنفيذية إلا دليلاً قاطعاً على فسادها كالتي سبقتها، ففي الأيام القليلة الماضية أنهالت حزمة تلو الأخرى من الإجراءات والقرارات والوعود، منها توزيع قطع الأراضي، وتجميد العمل بقوانين تمنح الحق لأشخاص بأستلام أكثر من راتب، ومنظومات الطاقة الشمسية، وفتح مجال تسجيل الشركات للشباب، وتوفير سيارات خاصة بصناعة الأكلات الجاهزة والمرطبات، وقروض بفوائد رمزية، ومنح شهرية لطلبة المدارس، وغيرها الكثير من القرارات الأخرى التي لا يسع الوقت لذكرها في هذا المقال، وهنا يفرض السؤال نفسه! إذا كان بإمكان الحكومة أتخاذ هكذا قرارات في غضون ساعات وأيام قلائل، فلماذا لم تفعل ذلك طوال الفترة الماضية؟ إن هذا التصرف يقود الى أستنتاجين: إما الحكومة تذكب، وهذه القرارات مجرد محاولة لأمتصاص غضب الجماهير، أو أنها فاسدة ولا يهم القائمين عليها سوى تسخير مناصبهم لتحقيق غاياتهم الشخصية وتمرير مشاريع مفروضة عليهم من جهات خارجية، وبرأيي أرجح الأحتمال الثاني، لأن بلد غني جداً كالعراق يمكن إصلاح الخراب الذي حل عليه خلال ثلاثة أو أربعة سنوات على أكثر تقدير، اذا كانت له حكومة كفوءة ونزيهة تكون بقدر المسؤولية الموكلة إليها.
قبل الأنتقال الى ساحة الإعلام لا بد من الإشارة الى أدعاء الحكومة على لسان قادتها بأن المظاهرات مخترقة ؟ لنفرض جدلاً بأنها مخترقة، فكم هي نسبة الذين أخترقوها؟ وهل تمكنتم من تحديد هوياتهم أو على الأقل توجهاتهم؟ أيها السادة! إذا كانت هناك جهات مخترقة فهي أجهزتكم الأمنية، وإلا فكيف يتم قنص المتظاهرين بهذا الشكل المرعب ولمدة أيام متتالية دون أن تعلنوا عن إلقاء القبض على أي من هؤلاء المجرمين!!.
بالعودة الى الأحداث الدامية في الأيام القليلة الماضية، وما شابها من قتل عمد وأعتقالات بالجملة وأعتداء على المواطنين والجهات الإعلامية القليلة جداً التي حاولت تغطية الوقائع على حدٍ سواء، فالغالبية القصوى من وسائل الإعلام، وخاصة عشرات القنوات التلفازية والفضائيات التي لطالما تغنت بانتهاء عصر الأستبداد وحلول الديمقراطية والحيادية وحرية التعبير قد غابت عن الساحة، مبرهنة بذلك أنها ليست إلا أبواق نشاز لأولياء نعمتها من المتنفذين في الحكومة، وبذلك سقطت عنها ورقة التوت، وكشفت حقيقتها أمام الشعب العراقي فاقدة مصداقيتها بالكامل بعد أن خانت الأمانة المهنية، لا بل بعدم تغطيتها المباشرة لأحداث المظاهرات تعتبر مشاركة في إخفاء الحقيقة عندما تركت المتظاهرين العزل فريسة لحفنة من القتلة المأجورين ليقنصوا رؤوسهم وصدورهم.
اليوم ما على الحكومة أن تعيه جيداً هو، (الشهيد لا يسقط إلا على يد عدو) وبما أنها اعلنت “مشكورة” الذين تم أغتيالهم في التظاهر شهداء، فقبل أن تقوم بإطلاق حزمة قراراتها وأمتيازاتها، يجب عليها الوقوف الفوري على حقيقة القتل العمد والممنهج التي راح ضحيتها كما ذكرنا سلفاً ما يفوق المئة شهيد وآلاف الجرحى، والكشف عن هوية المجرمين والجهات التي وقفت ورائهم ، قبل أن تخرج الأمور عن سيطرتها لتقود بالنهاية الى رغبة في الأنتقام، ومن ثم الى حرب أهلية دامية لا تحمد عقباها، من شأنها أن تضع العراق على شفير الهاوية، ومن ثم تقدم أستقالتها لأنها لم تتمكن من حماية مواطنيها الذين مارسوا حقهم الدستوري في التظاهر من أجل أبسط حقوق المواطنة، وتسلم زمام الأمور الى قادة من الجيش ممن أثبتوا كفائتهم ولائهم وإخلاصهم لوطنهم من أمثال الجنرال عبد الوهاب الساعدي، كمرحلة أنتقالية يحدد بعدها موعد لأنتخابات عامة بإشراف أممي.
لتكن هذه الأيام عبرة لكافة أبناء العراق، لكي يفكروا ملياً قبل الإدلاء بأصواتهم في الأنتخابات، فلا الولاء الطائفي يخدمهم، ولا التحزب يُضَمد جراحهم، ولن يصون كرامتهم رجال الدين الطائفيين أياً كان أنتمائهم، فالتجارب أثبتت بأن العيش الرغيد لن يتحقق في أي بلد يقوده فكر طائفي ويستأثر بمقدراته ذيول تابعة له. فحكومة مدنية ذات ولاء وطني تعتمد على الكفاءات كفيلة في تحقيق كل أماني الشعب العراقي وهي التي ستؤمن مستقبل أبناءه وأجياله القادمة.