23 مايو، 2024 8:20 ص
Search
Close this search box.

جمهوريات الخوف ومملكة الرعب

Facebook
Twitter
LinkedIn

الجزء الثالث والأخير
في العراق تحولت البلاد وفي زمن قياسي خلال فترة الإحتلال البريطاني للعراق( 1914 -1958 )، إلى دولة ملكية دستورية ديمقراطية بعد تنصيب الملك فيصل الثاني ملكاً على العراق، في آب 1921 على خلفية مؤتمر القاهرة الذي عقدته وزارة المستعمرات البريطانية التي كان يقودها السياسي المخضرم ونستن تشرشل في 11 آذار 1921  للنظر في مستقبل المستعمرات البريطانية في منطقة الشرق الأوسط، بوجه عام وقضية العراق بوجه خاص  بعد اندلاع ثورة العشرين وما سببته من إحراج للتاج البريطاني، حيث تشكل المجلس التأسيسي، الذي أخذ على عاتقه تشكيل أول حكومة عراقية برئاسة عبدالرحمن النقيب، ثم التمهيد لقيام النظام الملكي وبالمنادات بفيصل ملكاً على العراق.
وكانت تلك من الخطوات الخطيرة والتي لم تكن في اتجاهاتها وتسلسلها مناسبة للواقع العراقي، وما سبقه من أحداث، كان أهمها ثورة العشرين التي انطلقت بعد الفتوى الشهيرة للشيخ الشيرازي في منتصف 1920 بعد اجتماعات متكررة لأقطاب الحركة الوطنية في بغداد ومنطقة الفرات الأوسط في كربلاء والنجف، وكانت مبادرة الشيخ محمد رضا نجل المرجع الأعلى الشيرازي تأسيس جمعية سرية عرفت باسم( الجمعية الإسلامية) بنفس الوقت الذي تأسس به حزب(حرس الإستقلال) في بغداد برئاسة جلال بابان وشاكر محمود مقدمة للتنظيم الذي رافق العمل السري المحرض ضد سلطة الإحتلال البريطاني والذي مهد لتلك الإجتماعات السرية والعلنية في كربلاء التي تمخضت عنها الفتوى الشهيرة للمرجع الأعلى الميرزا الشيرازي والتي منح من خلالها الضوء الأخضر لإعلان ثورة العشرين.
وفي إشارة ملفتة للنظر يذكر عالم الإجتماع والمؤرخ العراقي علي الوردي : إلى أن السيد علوان الياسري هو أول من نادي بالثورة المسلحة في منطقة الفرات الأوسط ضد الإحتلال البريطاني .
كل هذه الأحداث تدل على عمق الخطأ الذي وقع به المؤسسون الأوائل الذين وضعوا قاعدة نظام الحكم في العراق، والتي تقوم على إقصاء وتهميش جزء مهم من شعب العراق، ولقد كان العزف على الوتر الطائفي من الدوافع التي دفعت بالسير بيرسي كوكس، على عرض رئاسة الحكومة على نقيب أشراف بغداد عبدالرحمن النقيب، وهي بالمقابل من الأسباب التي شجعت النقيب على القبول بها، وتشكلت الحكومة الوليدة حينها من تسعة وزاء خالية من المكون الشيعي.
إنتهى العهد الملكي بكل ماحمله للعراق من أخطاء وخطايا، بإلإضافة إلى الفسحة الديمقراطية التي شجعها البريطانيون في العراق، من أجل إقامة نظام ملكي دستوري نيابي، إنتهى هذا النظام في صبيحة يوم 14 تموز 1958 بعد قيام تنظيم الضباط الأحرار بقيادة الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم بالإطاحة بالحكم الملكي، ومقتل جميع افراد الأسرة الملكية في حادثة إطلاق رصاص ظلت من أسرار الثورة ولم يكشف عن تفاصيلها حتى اليوم، وأعلن عن قيام الجمهورية العراقية التي قادها مجلس قيادة الثورة، وتم تشكيل أول حكومة جمهورية برئاسة الزعيم عبدالكريم قاسم، في تلك الظروف كان يتنازع العراق اتجاهان بارزان الأول يمثله الحزب الشيوعي العراقي، والثاني اتجاه قومي يمثله القومييون وآخر يمثله حزب البعث، بالإضافة إلى بقايا الأحزاب الملكية التي تم حضرها من قبل مجلس قيادة الثورة، وفي محاولة منه للإبتعاد عن المد القومي الذي كان يقوده جمال عبدالناصر بسبب حالة العداء التي تولدت نتيجة رفض الزعيم عبدالكريم قاسم المشاركة بأي مشروع وحدوي مع مصر، قام الزعيم قاسم بتقريب العناصر الماركسية والشيوعية وأشركها معه في الحكم، وإبعد العناصر القومية والبعثية، خصوصاً بعد حركة الشواف في الموصل عام 1959 التي تمت بمباركة الزعيم عبدالناصر والعناصر القومية في العراق، لكن ذلك لم يمنع تلك الأحزاب من التخطيط للإطاحة بحكومة الزعيم عبدالكريم قاسم، ولقد جرى لها ذلك في 8 شباط 1963 حين أقدم البعثيون ومعهم عناصر من القوميون بقيادة عبدالسلام عارف المعروف بتواجهاته القومية بقيادة إنقلاب دموي ضد حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم وإعدامه يوم 9 شباط، وكذلك قتل بعض القيادات والعناصر الشيوعية في الحكومة مثل العميد الطيار جلال الأوقاتي وكذلك القيادي في الحزب الشيوعي سلام عادل، وكانت تلك من المراحل السيئة والسوداء في تاريخ العراق كما يصفها الوزير طالب شبيب حيث تسيّد فيها المشهد العراقي (الحرس القومي) وماكان يقوم به من فضائع وعمليات قتل وسحل وتعذيب ضد المعارضين، ومن يشك بعدم ولائهم لحزب البعث والحكومة الجديدة.
لتنتهي مرحلة وتليها مرحلة أكثر سوداوية من تأريخ العراق الحديث بعد انقلاب 17 تموز 1968 وتفرد حزب البعث بالسلطة، وإقصائه كل الشرائح والأحزاب السياسية والإجتماعية من المشاركة في الحكم، ومنها الحملة الشرسة التي قادها ضد كوادر الحزب الشيوعي العراقي في العام 1978 بعد ادعائه بوجود محاولة انقلابية تنظمها عناصر شيوعية في القوات المسلحة. وكذلك حملة شرسة ضد تنظيم حزب الدعوة، وكان تتويج المشهد المخيف بصعود الطاغية صدام، ليمسك بكل أدوات السلطة في العراق بعد انقلابه على رفاقه في تموز1979 ولتبدء مرحلة جديدة كان البطش والخوف هما عنوانها، حيث قام بأول عهده بإعدام المفكر الإسلامي الإمام الشهيد محمد باقر الصدر بعد أن سبقه بسنوات الشيخ عبدالعزيزالبدري، وكانت المقامرات العسكرية الفاشلة سواءاً مع إيران أو اجتياح الكويت سبباً رئيسياً من أسباب تردي الوضع الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، فلقد كان الطاغية صدام دكتاتوراً مستبداً برأيه بكل ما للكلمة من معنى، وكانت القوانين تفصل حسب رغباته وما يشتهيه لغرض فرض سلطته وتأكيدها.
وكانت أحداث الإنتفاضة الشعبانية 1991 وكذلك أحداث الأنفال وحلبجة 1987 واستخدامه الأسلحة المحرمة ضد شعبه، وما خلفته من مقابر جماعية والاف من الضحايا  والمفقودين تبقى في الذاكرة العراقية، كدليل على ما وصل إليه النظام من خسة في ارتكابه الجرائم البشعة ضد شعبه الأعزل، لتنتهي بالمشهد المخزي بدخول القوات الأمريكية للعراق في نيسان 2003 للدلالة على حجم الكارثة التي وصل إليها النظام، وما كان يعيشه شعب العراق والقوات المسلحة من أزمات مفجعة وكارثية.
إن جمهوريات الخوف التي جسدها مشروع انتلجنسيا النظام العربي، خلال أكثر من نصف قرن، كانت تقود إلى نهاية لامفر منها بما حفل به هذا المشروع من قصور فاضح في أداء واجباته الوطنية والقومية وتحقيق أدنى مستوى من مستويات العدل الإنساني، ولقد تجلت هذه النهاية بسيادة منطق التيارات السلفية والإصولية، وظهورها للعلن كأكبر تحدي وتهديد للمشروع المدني والعلماني، الذي كان يٌنتظر أن يبرز بديلاً عن الانظمة الفاسدة التي لفظت انفاسها بوقت قياسي، وكانت مظاهر فشل منظومات الحكومات العربية تتجلى في:
1. إنتشار نسبة الجهل والأمية خلال عقود من السنين، في مختلف الأقطار العربية حتى بلغت حسب الإحصاءات التي كانت تعدها مراكز البحث والإستقصاء، إلى نسبة كبيرة بلغت 1،28% من مجموع البالغين فوق سن( 15 سنة)
2. تفشي البطالة وخصوصاً بين أوساط الشباب والمؤهلين للعمل، في ظل سياسات إقتصادية متذبذبة ومتحولة بين الإشتراكي والرأسمالي والإسلامي، مع الأخذ بعين الإعتبار ماكانت تقوم به بعض الحكومات من ربط السياسات الإقتصادية بسياسات خارجية بعيدة كل البعد عن الواقع العربي
3. النظم السياسية المتخلفة ومظاهر الإستبداد التي مارستها الأنظمة العربية ضد شعوبها، من خنق للحريات واستخدام الوسائل البوليسية والقمعية، حين قيامها بعمليات الإحتجاج ضد تلك الانظمة، ولقد كان هذا واضحاً في جميع الممارسات التي قامت بها تلك الحكومات الرجعية في مصر في عهد الرؤوساء الثلاث، عبدالناصر والسادات ومبارك، في ستينيات القرن الماضي وما عرف بانتفاضة الخبز 1977 التي قمعها النظام بكل قسوة، وكذلك في تونس في انتفاضات مشابهة في الأعوام و1978 و  1984  و1990 وفي العراق خلال الإنتفاضة الشعبانية 1991 وعملية الترحيل القسري لالاف العوائل الكوردية الفيلية، وفي الجزائر ما بين 1992 و2002 وفي سوريا في حماه 1982 .
4. العقلية القبلية والعشائرية التي كانت تقود بها تلك الأنظمة الحاكمة شعوبها، وعدم اعتماد الكفائة والوطنية كمقياس للموظف أو المسؤول، كما ظهر ذلك جلياً، في ليبيا باعتماد القذافي على قبيلته القذاذفة في إدارة البلاد، وكذلك في العراق بقيام الطاغية صدام بالإعتماد الكلي على أخوته وأبناء عمومته وعشيرته في حكم العراق، وتوليتهم المناصب القيادية في الدولة كوزارة الدفاع والداخلية والمخابرات، وكذلك في سوريا حين اعتمد الرئيس حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد على المقربين من الأسرة العلوية في حكمهم لسوريا.
5. المقامرات والحروب العسكرية التي كانت تقوم بها الحكومات العربية ضد بعضها البعض، أو ضد دول الجوار وهذا ما كان يمارسه العقيد القذافي في أكثر من مرة في تشاد ما بين 1978 وحتى 1987 وضد مصر 1977 والسودان 1976 وكذلك المقامرات والحروب الطائشة للطاغية صدام مع إيران1980  وضد الكويت 1990.
6. محاربة المد الإسلامي واعتباره العدو الحقيقي الذي يهدد مستقبل أنظمة الحكم العربية، وبالمقابل فشلت تلك الأنظمة في احتواء شريحة مهمة من شعوبها وهي الشباب في مشروع نهضوي، أبعدها عن تاثيرات الأحزاب الإسلامية كما حدث في العراق خلال حكم البعث والطاغية صدام، حين أقدم على حظر حزب الدعوة واعتباره منظمة عميلة وطبق بحق كوادرها عقوبة الإعدام، كذلك الحال في مصر التي حظر فيها، نظام عبدالناصر جماعة الإخوان المسلمين، وفي سوريا غداة أحداث حماه 1982 والجزائر في العشرية السوداء 1992 وكذلك في تونس خلال حكم الرئيسين بو رقيبة وبن علي.
7. ظهور الإسلام السياسي كبديل عن منظومات الحكم في البلاد العربية، وقدم نفسه من خلال عدة تنظيمات كان أبرزها الأخوان المسلمين، وبعض التنظيمات الإسلامية التي استمدت حضورها وايدلوجيتها من فكر التنظيم.
8. بروز التيارات السلفية التي دعمت تأسيسها وتمويلها وتدريبها الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كرد مباشر من المعسكر الغربي على اجتياح الإتحاد السوفيتي لأفعانستان 1979 وكان أبرزها تنظيم القاعدة الذي كان يظم المجاهدين العرب في افغانستان.
9. بقاء قضية فلسطين خارج دائرة الحل لعقود من السنين، مع عقد اتفاقيات سلام إقليمية منفردة بين إسرائيل وبعض دول المجابهة مثل مصر والأردن.
كل هذه المظاهر كانت أسباب مباشرة في ظهور مملكة الرعب، التي بدأت تحث خطاها في المحيط العربي، بآلة الدمار والقتل، في واحدة من أبشع صور التمرد التي تشهدها الساحة العربية منذ عهود الإستعمار، لتجعل من ( داعش – وجبهة النصرة – وبوكا حرام – وبيت المقدس – وجيش المجاهدين)، عناوين ومسميات لتلك الأداة الهمجية التي صنعت في أقبية المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، والتي أصبحت لاتهدد مستقبل الأنظمة العربية الفاسدة أو من يخلفها، بل بات يهدد مستقبل كل العرب، حين أخذ بزمام المبادرة وصار مٌرحباً به في البيوتات العربية، وبين أوساط الشبيبة المٌغيبة، بين جمهوريات الخوف ومملكة الرعب يبقى المواطن العربي الأصيل المغلوب على أمره، بين قوتين ماردتين لن يكون له ولا لأولاده وأحفاده، أي مستقبل مع كليهما أو أي منهما، ويبقى السؤال عن الحل يكمن بين طيات الحل الذي ما زال بعيداً عن متناول الإجابة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب