حسنا فعل قادة الحراك الشعبي حينما قرروا نقل التظاهرات الى العاصمة بغداد في الجمعة القادمة، وسواء حصل ذلك أم لم يحصل لأسباب موضوعية أو ذاتية يقررها قادة الحراك، فهي دلالة واضحة على أدراك ووعي عميق بمتطلبات كل مرحلة. كما أنه يؤشر الى وجود استراتيجية في عقول الزعامات المشرفة على التظاهرات يجعلها هي من يمسك بالمسار وليس الطرف المقابل، وهي التي تحدد طريقة التعامل مع القادم وليس السير بطريقة عفوية قراراتها تعتمد الفعل ورد الفعل. وهذه كلها متطلبات حاسمة في رسم المشهد للمرحلة الأنية والقادمة.
وعلى الرغم من أن الحشد الجماهيري الذي أنطلق في الانبار وتبعتها الموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى، أثبت قدرة فائقة على أعادة القضية العراقية الى صدارة أولويات المشاكل السياسية في المنطقة بعد طول تراجع ونسيان، فإنه بات أيضا في موقع المسؤولية التاريخية التي تقتضي أن لايكون الحدث مفتوح الزمن وسائب النهاية. فالسلطة الحالية كانت حتى وقت قريب تظن أنها هي الممثل الشرعي والوحيد للعراقيين، وكانت حريصة جدا على أيصال هذه الصورة الى المحيط والعالم أستنادا الى تحالفاتها الدولية والاقليمية التي فرضتها أستحقاقات الغزو وما بعده. صحيح أن المقاومة العراقية كانت القوة الاخرى في الساحة الذي أمتلكت شرعية وجودها من القانون الشرعي والوضعي، لكن التظاهرات هي الحواضن الشعبية للمقاومة التي أرتفعت الى مستوى الفاعل الرئيسي الاخر على الساحة، والذي يمتلك من الشرعية أكثر مما تملكه السلطة، وقد نجح في فرض وجوده على الرغم من قصر الفترة الزمنية لولادته، ساعده في ذلك الظرف السياسي الذي تمر به المنطقة الناتج عن الحراكات الشعبية فيها.
وبذلك نكون اليوم أمام أرادتين متضادتين في التوجهات والمصالح والتحالفات على نفس المسرح، أصبح فيها الطرف المُمسك بالمظاهرات هو الغالب في الساحة، وهو الانضج في التصريحات والافعال والمواقف، بينما أنزوى الطرف الحكومي تحت تصريحات متذبذبة ومواقف متناقضة، بات من الصعب على أي مراقب أن يفهم حقيقة الموقف الحكومي مما يحدث. فمن موقف التقبيح والتشكيك والتهديد الذي أبتدأه الطاغية الاول رئيس السلطة التنفيذية، الى موقف الهروب الى الامام والمخادعة والادعاء بتبني المطالب وتشكيل اللجان تارة، ومحاولة رمي الكرة في ملعب الشركاء الاخرين كالبرلمان والسلطة القضائية تارة أخرى. لذلك لايمكن أن نتوقع أن السلطات الحالية ستجنح الى منطق العقل والصواب وترضخ للحقوق التي رفعها المنتفضون، لأن قناعتهم في ذلك أنه سيفتح الباب عليهم لتنازلات اقسى وأكبر وهم غير مستعدين للتضحية بالمكاسب الشخصية، بل سيحاولون بشتى الطرق والوسائل تقبيح صورة المتظاهرين وشيطنة الحقوق الضائعة التي يطالبون بها، وسيتسعينون بتحالفاتهم الطائفية المحلية والاقليمية لمحاولة القضاء على الحراك. لذلك لايمكن عزل النداءات الطائفية التي برزت مؤخرا والتي تدعو الى تشكيل مايسمى (جيش المختار) عن المشهد الحالي، وهي محاولة مفضوحة من أطراف سلطوية لرفع وتيرة التهديد الطائفي في المجتمع، والتذكير بالحرب الطائفية ليس كوسيلة للتحصين من الانجراف اليها مجددا، بل لتذكير الطرف المقابل بأمكانية اشاعة الرعب في صفوفه مجددا كي يتنازل عن حقوقه، ومحاولة يائسة لخلق شعور مجتمعي بأن الحراك الشعبي الحالي هو المسؤول عن حالة الاحتقان الطائفي والانسداد السياسي الحالي.
كما لايمكن بأي حال من الاحوال أبعاد حالة القصف الذي تعرض له معسكر ليبرتي للاجئين الايرانيين والقريب من مطار بغداد عن سيناريو الرعب الطائفي لإيقاف التظاهرات، فالذي قام بالفعل المذكور كان ينوي من خلاله توجيه رسالة الى كل الاطراف القائدة والمشاركة والمتعاطفة مع التظاهرات الجماهيرية، بأن القوى المليشياوية لازالت تملك السلاح القادر على قصف المناطق والاحياء، كما كان يحدث في أعوام الحرب الطائفية في بغداد. وبذلك يكون العراقيون اليوم أمام معادلة سياسية جديدة تريد أطراف السلطة تثبيتها كواقع لابد من القبول به، تقوم على أساس التخلي عن الحقوق مقابل أن تبقى الخلايا الطائفية نائمة، بحجة عدم أحقية الخروج على الشرعية المكتسبة من نتائج الصندوق الانتخابي الذي يعلم الجميع بأنه كان ضحية الفساد المالي والسياسي والتخندق الطائفي بجدارة. أي ان العراقيين اليوم وحسب فلسفة الحكم الديمقراطي في العراق الجديد أمام خيارين لاثالث لهما أما القبول بالقتل والاعتقالات والتعذيب والاغتصاب والاجتثاث والاقصاء والفساد المالي والاداري، أو الذهاب الى الحرب الطائفية كي يأخذ كل حقه. لقد عطلت الانتفاضة الجماهيرية العراقية لأول مرة نظام المحاصصة الذي يقوم عليه النظام السياسي الحالي. فقد أوجد الغزاة هذا النوع من التخندق الاثم على أعتبار أن المتحاصصين فيه هم صمامات أمان لتنفيس أي أحتقان في أية شريحة من شرائح المجتمع العراقي. حيث سيتولى كل زعيم سياسي التحرك الفوري لنزع فتيل الرفض والتمرد من طائفته أو قوميته حالما يظهر ذلك. وقد تمثل هذا التعطيل حينما رفض المتظاهرون وساطة الشركاء السياسيين الذين كانوا يدعون أنهم يمثلون أهالي المحافظات المنتفضة، بل كان الرد عليهم قاسيا جدا حينما حاولوا أعتلاء منصة التظاهر، ومعبرا عن عمق الحنق الجماهيري على الساسة الذين هم من نفس الوسط الاجتماعي للمتظاهرين أكثر من الساسة الاخرين، وهو موقف وطني مسؤول يمثل درجة كبيرة من الوعي الوطني المترفع عن العصبية الطائفية، وذكاء سياسي لايملكه شركاء العملية السياسية، وفهم شعبي بأن نظام المحاصصة لم يخدم الا الشركاء ولم يطفئ الا نيران الاحزاب الطائفية، ولم يحقق الثراء والامتيازات الا لهذه الطبقة، بينما بقيت كافة شرائح المجتمع فاقدة لابسط مستلزمات الحياة الحرة الكريمة.
بل تحول هؤلاء المدعون بالتمثيل الطائفي في كثير من الاحيان لأسواط يضرب بها المواطن المطالب بحقوقه، وكواتم لكل صوت يجهر بالصراخ من الظلم والالم. لكن أنكسار جدار الخوف الذي فتح أهل الانبار أول كوة فيه، جعل كافة المتحاصصين عراة من كذبة التمثيل الطائفي، لذلك نجد الجميع فاغري الافواه لايعرفون بالضبط ماالعمل تجاه الاصوات الشريفة المنتفضة، فالنتيجة باتت واحدة بالنسبة لهم. فأن استجابوا للمطالب فهي أذن مطالب عادلة وسيبرز سؤال كبير هو لماذا تغاضيتم عنها طوال كل هذه السنين وهو مايستوجب الحساب؟. وأن لم يستجيبوا فالطوفان قادم نتيجة الزيادة الملحوظة في أعداد المنتفضين والمحافظات التي باتت تلحق بالاخرى، وسقوط الحصانة الطائفية. نعم أن التحرك الى حشد الجهد الجماهيري المنتفض وتوحيده في جمعة بغداد قد يعرض المتفضين الى مخاطر محسوبة وغير محسوبة، لكنه سيحشر السلطات في زاوية ضيقة ويكثف الضغط عليها، وسينقل الانتفاضة الى ساحة أهم وأكبر، وسيضع المطالب العادلة على طاولة جميع القوى محلية وأقليمية ودولية أيضا، وسيخلق الشك في شرعية الحكم خاصة لدى بعض القوى التي تتعامل مع السلطات على أنها ممثل شرعي للعراقيين، كما أنه سيحرر الكثير من العاملين في الاجهزة الامنية والعسكرية من عقدة الخوف وسينقلهم الى صف المنتفضين، والاكثر من ذلك فأنه سيوفر فرصة كبرى لانشقاق الكثير من الطبقة السياسية الذين لديهم الرغبة في ذلك. أن الثمن مطلوب دفعه في كل حراك وقد قضى ثمانية من شباب الفلوجة نحبهم مؤخرا، ولازال هنالك من ينتظر ومابدلوا تبديلا، وعلى الجميع دراسة حالة الانتفاضات العربية. فلو بقي الحراك التونسي مقتصرا على محافظة سيدي بوزيد وحدها، والانتفاضة المصرية في بورسعيد والسويس فقط لتمكن النظام من قمعها، لكن الحشد الجماهيري في العواصم يربك السلطات ويصيب بالعجز الاجهزة الامنية والعسكرية، لأن لاقوة قادرة على التصدي للملايين.