جمعة الموصل: بين روحانية الصلاة وفرحة العطلة ونكهة الدولمة

جمعة الموصل: بين روحانية الصلاة وفرحة العطلة ونكهة الدولمة

عندما أحاول أن أكتب أي مقالة، تجدني دائمًا أعود بذاكرتي لأربط بين ماضٍ عشناه بكل تفاصيله، وحاضرٍ نعيشه بكل ما يحمله من اختلافات. أرسم بين السطور مقارنة حقيقية، ربما يستشعرها القارئ، بين زمنين؛ زمن الأجداد والآباء الذين عاشوا حياة بسيطة ولكنها مليئة بالمعنى، وزمننا اليوم الذي تغير فيه كل شيء تقريبًا.
‏وبين هذه المقارنات، يبرز يوم الجمعة كرمزٍ ثابت في الذاكرة والوجدان؛ يومٌ كانت له خصوصيته وقدسيته ومكانته في الريف كما في المدينة. في الماضي، كان يوم الجمعة هو العطلة الرسمية الوحيدة في الأسبوع، حيث تتوقف فيه الدوائر الرسمية والمدارس والجامعات عن العمل، ويُعامل كأنه “عيد صغير” للجميع.
‏بالنسبة لنا، نحن أبناء الريف، كان صباح يوم الجمعة يبدأ مبكرًا. نحرص على الاستيقاظ في أولى ساعات النهار كي نستغل كل لحظة فيه. بعد تناول وجبة الإفطار البسيطة، نتوجه مباشرةً إلى ما يمكن تسميته بـ”حمام الأسبوع”، حيث لا تتوفر آنذاك حمامات حديثة، بل كانت إحدى الغرف الطينية في البيت تُجهَّز بحذر لاستخدامها للاستحمام.
‏كان أهلنا يقومون بتسخين “جدر” من الماء على مدفأة النفط أو على الطباخ في المطبخ، حيث لم تكن هناك “كيزرات” أو سخانات كهربائية. وكنا نستخدم قطعة من “صابونة حلب” بدلًا من الشامبو، تلك الصابونة ذات الرائحة الزكية التي ما زالت محفورة في الذاكرة…..
‏بعد الاستحمام خرج للّقاء بالأصدقاء في وسط “الحارة” — ساحة ترابية صغيرة تقع وسط القرية — وهناك نبدأ بممارسة ألعابنا البسيطة التي كنا نبتكرها من أدوات متواضعة. نلعب بقلوب صافية وصدور رحبة، وكأننا نعيش في عالم لا يعرف الهمّ.
‏ثم يأتي وقت صلاة الجمعة، وكان في قريتنا مسجد واحد يخدمها والقرى المجاورة…
‏ في البداية، كان كبار السن فقط هم من يواظبون على الصلاة فيه، لكن مع دخولنا المدارس وتعلمنا من دروس التربية الإسلامية، بدأنا نحن الصغار نتجهز لنكون جزءًا من هذا الطقس الروحي. كانت لصلاة الجمعة هيبة خاصة؛ نرتدي أفضل ما لدينا من ملابس، ونتوجه إلى المسجد قبل موعد الصلاة بوقت كافٍ، حيث كنا نجلس لنستمع لتلاوة القرآن الكريم بصوت الملة، قبل أن يعتلي الخطيب المنبر ليبدأ خطبته.
‏غالبًا ما كانت الخطب تدور حول أركان الدين، أو قصص الصحابة، تُروى بأسلوب بسيط يفهمه الجميع، لكنها تترك أثرًا عميقًا في النفس.
‏ما إن نعود من الصلاة، حتى نجد رائحة الغداء تعبق في أرجاء البيت. كانت الوجبة يوم الجمعة غالبًا ما تكون من “الثريد”، سواء باللحم الأحمر أو الأبيض، وأحيانًا بدون لحم، حسب الإمكانات. لكن مهما كان نوع الطعام، فكان يوم الجمعة يتميز بجمع العائلة حول المائدة في مشهدٍ يعكس الحميمية والدفء وصلة الارحام.
‏بعد الغداء، نأخذ قسطًا من الراحة في فترة “القيلولة”، أو كما نسميها باللهجة الدارجة “نومة الظهيرة”. بعضنا ينام، وبعضنا يفضل البقاء مستيقظًا منتظرًا برودة الجو في العصر — حيث تبدأ لقاءات المساء بين شباب القرية، للحديث أو لممارسة الألعاب المتاحة.
‏أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. لم يعد يوم الجمعة وحده عطلة، بل أضيف إليه يوم السبت أيضًا، بل أحيانًا نرى أسبوعًا كاملًا يُعلَن كعطلة بسبب ارتفاع درجات الحرارة أو مناسبات مختلفة، بقرار حكومي.
‏وهنا فقدت العطلة بعضًا من نكهتها الخاصة، لم نعد نترقب يوم الجمعة كما كنا من قبل.
‏ كثير من العائلات باتت تعتبر مساء الخميس هو وقت الفرح والسهر، سواء في البيوت أو في المطاعم والمقاهي والمتنزهات.
‏أما يوم الجمعة، فقد أصبح لكثير من الشباب يومًا للنوم الطويل، فلا يستيقظون إلا بعد انتهاء خطبة الجمعة، إن استيقظوا أصلاً! وعلى الرغم من ذلك، ما زالت هناك عائلات ملتزمة، تبدأ صباح الجمعة بالتهيؤ للذهاب إلى المسجد، حيث تحافظ على طقوس ذلك اليوم، رغم تحوّل بعض خطب الجمعة اليوم إلى قضايا سياسية، إلا أنها تبقى منبرًا مهمًا لمعالجة شؤون المجتمع.
‏ومثلما للجمعة قدسية روحية، فإن لها نكهة خاصة على المائدة. في مدينة الموصل، لا تكتمل جمعة دون أكلة “الدولمة”، تلك الأكلة التراثية التي تُحضَّر بحب وعناية فائقة. تجتمع الأسرة كلها حول قدرٍ واحد، تفوح منه روائح الريحان والبهارات والليمون الأسود. وإن لم تكن الدولمة، فالبديل هو السمك المشوي أو تشريب اللحم، فكلها أطباق أصبحت جزءًا لا يتجزأ من برنامج الجمعة لدى معظم العائلات.
‏وبعد الغداء، يبدأ وقت الاستراحة من جديد، وهذه المرة بلا قلق أو استعجال، لأن يوم السبت عطلة أيضًا، مما يعطي مساحة أكبر للراحة أو للزيارات العائلية.
‏ويستمر الحديث عن الجمعة، عن تفاصيلها الصغيرة، عن بساطتها في الماضي وازدحامها اليوم، عن الفرق بين “نوم القيلولة” الذي كان يسبق اللعب والحديث في العصر، وبين سبات هذا الجيل حتى العصر!
‏تبقى جمعة الأمس حاضرة في الذاكرة، بحمّام الطين، وصابونة حلب، ومائدة الثريد، وصوت الملة، وضحكات الأصدقاء وسط الحارة.
‏تحياتي لكم، وإلى جمعةٍ قادمة.. تحمل الخير والنكهة والسكينة.