22 ديسمبر، 2024 2:46 م

جمر وندى .. في عراق مضطرب

جمر وندى .. في عراق مضطرب

جمر وندى .. عنوان كتاب سيرة ذاتية وصلني من كاتبتها السياسية والصحافية منى سعيد متمنية لي في إهدائها بقراءتها والوقوف عند أحداثها ، كما سبق لي أن تابعت القراءات والآراء التي كتبت حولها ، مما أستوقفتني مضامينها وأحداثها وماحصل حولها من قراءة متأنية للوضع السياسي العراقي آنذاك في نهاية السبعينات ومما تعرض له العراق من أحداث متسارعة بإتجاه التدهور والضياع وما ذاق به الشيوعيين العراقيين من مطاردات واعتقالات وتغييب بعد أن فرط عقد تحالفهم مع البعثيين . ماقدمه الباحث الدكتور عبد الحميد برتو ، والناقد والأديب حسب الله يحيي ، والشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي ، والدكتورة سلوى زكو ، والروائية بثينة الناصري ، والشاعر وديع شامخ . والكاتب كريم كطافة ، والباحثة السورية الدكتورة خولة حديد ، وأبنة الكاتبة الفنانة يمام سامي تلك الأسماء المهمة واللامعه في عالم الكتابة والإبداع والنقد رصدت أحداث وتفاصيل تلك اليوميات من حياة امرأة عراقية تخطت كل الصعاب وحملت آلام أوجاعها لتثبت لنفسها أولاً ، وللمجتمع قدرتها على مواصلة الحياة رغم تغييب زوجها الشيوعي سامي العتابي وتركها مع طفلة لم يتجاوز عمرها العامين في وضع سياسي مكهرب وخطير .

تقول منى سعيد في مطلع سيرتها الذاتية ” لئلا يداهمني النسيان وينخرني العدم . نفضت سجادة أيامي ، لملمت أطرافها ، ناسجة ما تهرأ منها ، نفخت رماد تفصيلات خمدت جمراتها ولم تزل توخزني .. تلسعني بلظى حرقة مستعرة لا تنطفيء .. أتصالح معها أحيانا ، أرسم بظلال الكلمات زهور بساتين ، وطرائف حكايا . وأقطف منها فاكهة الذكرى ..إذ يصبح التذكر بلسما حين تحل النكبات وتتربع الرزايا .. وتستعين بيتا من قصيدة الشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي .. فتذكر ( سعيت لنشر غسيل الماضي على حبل الذكرى ، بعدما طلقت العالم الصاخب بالثلاث ).

 

شخصياً وطول مدة بقائي في المهجر والتي امتدت لأربعة عقود تابعت بحرص الإصدارات العراقية المتعلقة بالوضع السياسي العراقي المتأزم على الدوام برؤية وقراءة واقعيتين ربما بدافع معايشتي لتلك الاوضاع ولأني كنت جزءا من حالة عامة في البلد ، فضلا عن رغبة مني للإطلاع على تفاصيل وحياة العراقيين المكتوية بوضع أستثنائي بإمتياز وأنا البعيد بعيداً عن أي تواصل وأتصال مع الأهل والرفاق ، وعلى الرغم من صيغ تلك الأعمال الأدبية وبنائها الدرامي البعيد عن المباشرة , ونقلها صورا واقعية عن تداعيات الأحداث ورؤى الناس من قلب الاحداث كوقائع وشخصيات وأسماء ، لكني وجدت في رواية السيرة الذاتية لمنى سعيد أمرا مختلفا تماماً من حيث الحرفية والواقعية والصدق والوجدانية في رسم الاحداث وتناولها . إذ تعد شهادة تاريخية عن مرحلة سياسية مهمة عصيبة مر بها العراقيين وتحديداً الشيوعيين في مواجهة أزمتهم مع أساليب البعث في التسقيط السياسي .

ما يهمني من تلك القراءة .. نقطتين مهمتين وردتا في السيرة بجرأة متناهية . ما تعرض له الشيوعيون أثناء أزمة العلاقة مع البعثيين وما واجهوه من إنتهاك سياسي وأجتماعي وأخلاقي وعبر التعامل مع قرار ٢٠٠ سيء الصيت الى جانب أثاره النفسية والاجتماعية على حياة الرفاق ، وهذا ما كان واضحاً بجلاء في ذكريات السيرة ( جمر وندى ) . فضلا عن كيفية أستيعابه والتعامل معه وفق مقتضيات البلد وشراسة أساليب النظام . وأسجل للكاتبة وقفة مميزة في جرأتها عند تناول تلك التفاصيل وبالأسماء الصريحة في المكان والزمان المحددين .

والنقطة الاخرى الأكثر أهمية في السيرة تتعلق بالصدق والأمانة وجلد الذات والبوح في المعاناة والعوز والجوع والتعامل مع الواقع بغير رتوش أو تسطير بطولات فارغة بل تحملت ونقلت تسجيلاً يومياً ما كان يحدث في عراق نظام صدام حسين ، مما يؤشر سابقة ونقطة تسجل لها في الشجاعة والجرأة .

يشدك البناء الدرامي للرواية لمواصلة القراءة فتتكشف في كل صفحة تطورات جديدة يجمعها الجمر والندى تعيد لذاكرتك زمنا مضى كنت جزءا منه حين أنتميت للمشروع السياسي ( الشيوعي ) نفسه ، المراد تغييبه والقضاء عليه آنذاك ، تلاحظ عند تتبع الأحداث سهولة اللغة في بناء لغوي سلس مع سرد للأحداث بأنسيابية رقراقة تجهز على القاريء وتزجه بتفصيلاتها حتى ختام السيرة الموجعة .

منذ عام ٢٠٠٣ عند رحيل النظام الشمولي وسقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الامريكي وبالتعاون مع الإيرانيين غاب عن المشهد الثقافي وكتابة السير الذاتية واقعيتها في المباشرة والمكاشفة عن ماجرى وحدث طيلة تلك الحقبة التاريخية من حكم البعث ، أعني هنا الأدباء والمثقفين والكتاب الذين لم يجرؤا على كشف الحقائق وتوثيقها عبر كتابة سيرهم الذاتية ، لكن رواية ( جمر وندى ) للكاتبة العراقية منى سعيد أشرت عبر فضح سيرتها الذاتية وولوجها صلب الأحداث وقصها بأمانة وصدق ما جرى لها وللشهيد زوجها بأعتبارهما شيوعيان عملا في جريدة الحزب المركزية ( طريق الشعب ) وما تعرضا لهما ، ولرفاقهما وأهليهما بعد ما فسدت العلاقة بين الحزبين ( البعثي والشيوعي ) من مضايقات ومطاردات وأنتهاكات سياسية وإنسانية وأخلاقية هددت مصائر حياتهما مقابل التعهد والتوقيع على قرار البراءة ٢٠٠ سيء الصيت . وضعت منى سعيد في رواية سيرتها الحقائق على المحك وسردت ماتعرض له الشيوعيون العراقيون وأفصحت عن مواقفهم بمواجهة اساليب السلطة القذرة . كما لم يصبح الشيوعي في حل من سطوة تلك الأساليب حتى وأن وقع على ذلك القرار ، وحال الكاتبة كغيرها من آلاف الشيوعيين ممن حرم عليهم العمل السياسي عدا تنظيمات السلطة . وهذا ما حدث لمنى سعيد وزوجها الشهيد سامي العتابي رغم توقيعهما على القرار ، فتعرضا الى الاستدعاء لمرات عديدة من قبل الأجهزة القمعية أنتهت بالتالي الى تغييب الزوج في أقبية التعذيب . أعتمد البعثيون عند بدء الهجمة أسلوب الاعتقال السريع بهدف التسقيط السياسي ثم أخلاء سبيل المعتقل ضمن خطة وضعت بهدف إحلال الانهيار الكامل بين صفوف إفراد الحزب الشيوعي ، كما ورد لاحقاً في الوثائق والشهادات التي عثر عليها بعد سقوط النظام ، ثم تغير ذلك الاسلوب بعد فترة قصيرة ، فعمدت السلطة الى أعتقال وتغييب الشيوعيين تماماً خصوصاً المناضلين الذين تمسكوا بمواقفهم البطولة بمواجهة أشد وأشرس وسائل التعذيب وحتى القتل . كما رصدته منى سعيد في روايتها . ومثلما عايشناه نحن عبر تعرضنا لتلك الأساليب في الأيام الأولى من الهجمة .

توقفت عند أكثر من رفيق وزميل ممن تعاون مع البعثيين وأصبح وكيلا سريا في التجسس وكتابة التقارير على رفاقه ، وما أكثرهم كانوا بحكم جملة ظروف قاهرة خارجة عن طاقة الأنسان في التحمل والاستيعاب ، وبعد رحيل البعث نفضوا عنهم غبار تلك السنين وعادوا الى صفوف الحزب العلنية مرة أخرى .

وتمضي منى سعيد في سردها لأحداث ووقائع مهمة مر بها العراقيين من نهايات السبعينيات حتى إحتلال العراق وسقوط النظام ٢٠٠٣ . عاكسة في سردها حياة وتفاصيل مسكوت عنها بما فيها من أوجاع وخفايا وعقد سياسية وإجتماعية وثقافية ونفسية في المشهد السياسي العراقي .