أولاً : – اللغة المتموجة كما في :
ثالثا : مدّ وجزر .. بقلم : سامية خليفة – لبنان .
المقدمة :
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
انّ السرد في القصيدة السرديّة التعبيريّة لا يعني الحكاية او القصّ وإنّما يعني تضخيم طاقات اللغة ونقل الأيحاء والشعور العميق والأحاسيس المرهفة كل هذا ينطلق من خلال خيال ديكتاتوري , ونستشعر بزخم شعوري وعاطفة عذبة ننتشي برذاذها المعطّر بالسحر والجمال الأخّاذ . بينما نعني بالتعبيريّة والمأخوذة بالأساس من المدرسة التعبيريّة تعني التحدّث بعمق عن الحزن والألم والتشظّي والأفراح والبهجة وما يجول في أعماق النفس الأنسانيّة . للآن الكثير لا يستطيع التميّز ما بين القصة والقصيدة السرديّة التعبيريّة , لأننا حينما نقرأ القصيدة السرديّة التعبيريّة نجد أنفسنا أمام سرد حكائي , ولكن سرعان ما تنحرف اللغة انحرافا شديدا وتنزاح إنزياحا قويا وتتشظّى وتبتعد عن مدلولاتها اللغوية , مما يؤدي الى الشعر الكثير في القصيدة , وكلّما كان الأنزياح عظيما كلّما كان الشعر عظيما , متوهّجا مضيئا نقيّا عذبا , يصدم المتلقي بغرابته ويجعلنا نعيش داخل أجواء القصيدة السرديّة التعبيريّة . لقد منحت السرديّة التعبيريّة كتّابها فضاءا وفسحة يستطيع الشاعر أن يحلّق بعيدا ويأخذنا معه الى عوالمه البعيدة . انّ الغرض من هذه القراءات لكتابات كتّاب مجموعة السرد التعبيري مهمتها في الوقت الحاضر الأشادة الى مستوى النصّ الشعري الذي اصبح عبارة عن ظاهرة ملحوظة يُشار اليها , والى ترسيخ هذا النوع الأبداعي الجديد لدى المتلقيّ وبيان ملامح السرد التعبيري ةتجنيس النصوص حسب ما يطرحه الكاتب السردي التعبيري ليكون منهاجا لنا جميعا وللآخرين ممن يجدون فيه ضآلتهم بعدما عشق هذا النوع الكتابي الكثير وبدأوا يكتبون فيه بطريقة إبداعية عالية تدعو للوقوف عندها كثيرا لما تمتاز به النضوج والعمق والوضوح والسموّ . فلابدّ لنا ها هنا من الأشادة بكتابات الشاعرة / سامية خليفة / والتي بدأت تتطور بصورة سريعة وتمتاز بشخصيّة المفردة القوية وفعّاليتها داخل النصّ ومدى تلوينها له بطاقات موسيقية وتصويرية وتشكيلية . كل هذا ينتج عن طريق كتلة واحدة أي انّ القصيدة تكتب بالطريقة الأفقية بدون فواصل او سكتات او تشطير وبطريقة متواصلة ( الكتلة الواحدة ) .
تمّ إختيار نصّ / مدّ وجزر / للشاعرة اللبنانية / سامية خليفة / فوجدناه ينتمي الى اللغة المتوّجة , واللغة المتموّجة تعني انّ الفقرة الشعرية تحتوي على جمل توصيلية مباشرة سرعان ما تنحرف وتنزاح انزياحا بعيدا عن معناها لتشكّل مقطعا شعريا بمعنى الكلمة .
كلّما كان العنوان مدهشاّ كلّما جعل المتلقي يمسك بالنصّ ويتفاعل معه حتى النهاية , لأنه العتبة الأولى والمدخل الذي من خلاله نلج الى عالم الشاعر . فالعنوان ربما يختصر النصّ وتُختصر الفكرة فيه , والشاعر الحاذق ما يختار لنصوصه عنونة مبهرة غريبة تجعل المتلقي يقف عنده يؤول ويقرأه بطريقة إبداعية مشاركا للشاعر فيما كتب وبذلك يتحقق التواصل الأيجابي ما بين الشاعر والمتلقي . / مدّ ….. وجز / هذا هو عنوان قصيدة شاعرتنا المبدعةسامية خليفة , عنوان متحرّك فيه من الدلالات الشيء الكثير وربما وكما قلنا يختصر لنا فكرة النصّ , ويفتح أبواب التأويل مشرعة وقراءته بطرق متعددة كلا حسب ذائقته وخزينه المعرفي وإحساسه بالجمال . ربما يعني هذا لعنوان / الحياة / الأحلام / الأمنيات / …. العنوان يحتمل كلّ التأويلات وهذا من جماليات النصّ وقوّته . ./ في ذروةِ أيّامِ الصَّقيعِ استسقيْتُ هطولَ الدِّفءِ من ارتجافِ شفتين مترنِّحتينِ متأرجحتينِ عابقتينِ بضبابِ الأنفاس ../ . كما قلنا بانّ اللغة المتموّجة تشتمل على التوصيلية المباشرة والأنزياح اللغوي , فـ / في ذروةِ أيّامِ الصَّقيعِ … جملة توصيلية واضحة تعمي ما تعني ثم ياتي المقطع الآخر من الجميلة … / استسقيْتُ هطولَ الدِّفءِ .. جملة نجد المفردة / استسقيتُ / تغرّب المعنى كثيرا وتحيله الى عالم سحري غير واقعي لايمكن أن يكون في الواقع , وهذا ما ندعو اليه وندعوه بالتغريب اللغوي والأبتعاد كثيرا عن المباشرة لأن الأخيرة تقتل النصّ الشعري وتحيله الى كلام عادي يستطيع أي انسان أن يتحدث بمثله , وهنا يكون الفرق ما بين الشاعر وغير الشاعر . وكذلك نجد اللغة المتموّجة في هذا المقطع المكثّف والزاخر بالجمال .. / من ارتجافِ شفتين ../ هذا الأرتجاف في الشفتين شيء عادي وملموس في الواقع , ولكن لانجد هذا التأرجح ولا .. / .. متأرجحتينِ عابقتينِ بضبابِ الأنفاس ../ في حياتنا اليوميّة . ونختار مقطعا آخر من هذه الكتلة الشعرية النموذجية ../ يلازمُني صدى ذكرى وشهقةً ليمسي كل ما حولي وهْما رابضًا على صدرِ قصّةٍ خرافيةٍ ،قصَّةٌ خرجتْ عنِ المألوفِ ووقفَتْ على شاطئِ المدِّ تستحمُّ ببحر أمواجه العتمة ولآلئه الجمر .. / . ما أجمل هذا البناء الجملي المتواصل وما أروع هذه اللغة المتموّجة ..! . إنّها اللغة المهذّبة الخالية من النفايات اللغويّة , رصيدها التركيز والأيجاز والدهشة , والزخم الشعوري العنيف والأيحاء والغرابة .
انّ هذا النصّ نموذجي وكلّ مقطع فيه عبارة عن لغة متوهّجة لايمكن المرور عليها مرور الكرام . الأطلاع عليه وقراءته لأكثر من مرّة يفتح ابوابه لمن يريد ان يجد الشعر النقي والأبداع الحقيقي والتلذّذ بالجمال وبالأمكان الأستفادة منه ومن طريقة كتابته بهكذا لغة متموّجة ساحرة مضيئة . فالمبدع الحقيقي هو الذي يستفاد من تجارب الآخرين , وأنا مؤمن بانّ جميع كتّاب مجموعة السرد التعبيري أصبحوا الآن يمتلكون تجارب ومشاريع شعراء سوف يُشار اليهم في قادم الأيام , والشاعرة / سامية خليفة / منهم وسيكون لصوتها مساحة شعرية تستحقها ان شاء الله .
3 – مدّ وجزر .. بقلم : سامية خليفة – لبنان .
في ذروةِ أيّامِ الصَّقيعِ استسقيْتُ هطولَ الدِّفءِ من ارتجافِ شفتين مترنِّحتينِ متأرجحتينِ عابقتينِ بضبابِ الأنفاس، أتراهُ اصطكاكُ الأسنان أضرمَ نيرانَ تنينٍ في الارتعاشاتِ حتى أدفأْتْ بِها فرائص الجليدِ فأذيب؟ أمْ تُراها حرارةُ مواقدَ أشعلَها قلب ليمدَّني بالدِّفءِ في ليالي كانون القارسَةِ؟ مُذِ اختفى الوهجُ وأنا أتعاقبُ بعدَه فصولًا بِلا شمسٍ إلى أنْ أمستْ كلُّ الأيامِ متوازيَةً متشابهةً، يلازمُني صدى ذكرى وشهقةً ليمسي كل ما حولي وهْما رابضًا على صدرِ قصّةٍ خرافيةٍ ،قصَّةٌ خرجتْ عنِ المألوفِ ووقفَتْ على شاطئِ المدِّ تستحمُّ ببحر أمواجه العتمة ولآلئه الجمر، يا ذا الشَّفتينِ المرتجفتينِ حدِّقْ بإمعانٍ في قلبِ العتمةِ لنْ تجِدَ الّا السوادَ ،الأبيضُ الذي كان متراميا أمام عينيّ في أحلكِ اللّيالي أخذه الجزر معه وارتحل