جلس على أرض المسجد الكبير في العاصمة عمان ينتظرني أنتهي من أداء صلاتي .. كان صديقي خالد مروان لايمانع من مرافقتي الى المسجد رغم إبتعاده عن الدين والإيمان به ، تعودنا على المكان وألفناه ونحن نتسكع في شوارع العاصمة الأردنية بعد انتهاء غزو الكويت وحدوث الفرار الكبير للعراقيين الى صحراء الهجرة .. كنت أرمم حطامي بالصلاة والرجاء وأحتمي بالمسجد وأسقط عليه مشاعري ومعتقداتي وأوهامي فيتحول الى مأوى وملجأ وكهف يخفف عني الشعور بالإحباط واليأس ، ويشعرني ببعض الطمانينة والأمان والروحانية الزائفة ، كان الدين وطقوسه وسيلة وغاية ، لاتقاوم في مثل ظروفي في وقتها .
عند الإنتهاء من الصلاة كنا نجلس على سجادة المسجد ، وأشعر بخالد مروان كما لو اني أجالس حكيم هندي ترك كل شيء وتجاوز الخسائر والأرباح وصفى حسابه مع الحياة .. حيث تجده أمامك بهذا السلام العجيب .. لاتوترات ، ولاتقلبات مزاجية ، وليست هناك مطلقات يقينية ، كانت تدهشني هيئته التي تدل على إستعيابه للحياة والناس .. طوال الوقت أجده مسترخيا في مشيته وكلامه ومستمعا طويل البال ، ومتحررا من عبودية الحياة .. كثيرا ماطرحت عليه سؤال :
– كيف تشكلت بهذا الحال ؟
– ليس هناك خلاصات تاريخية .. ونقطة البدء قد تكون غير موجودة . و البطولات والإنجازات والفخر .. أوهام الباحثين عن الإعتراف بهم بفعل دوافع الشعور بالنقص ، بينما نحن نعيش في عالمنا النسبي واللايقين والشك .
وأحاول مرة أخرى ..
– خالد قصدي ألا توجد علامات ، منطلقات أدت الى تشكيل شخصيتك بهذا المستوى ؟
– ليس عندي مقياس لخطواتي ، أنا أشك في كل شيء ، والمقاييس كليات بالضد من النسبية والشك والتمرد ، لاأعرف أين موطيء قدمي .. بالمناسبة من يعرف تماما أين هو بالضبط في معمعة الحياة ؟
لفت نظري كان خالد مستغنيا عن الصداقات ، ليس بدافع الإنطوائية ، وانما بفضل تدريب درب به نفسه ونجح .. فهو لايطالب الناس بأن يحبوه ، ولايريد منهم الإعتراف به وبذكائه وثقافته وكيانه المتميز ، تخلص من هذه المعضلات التي ترافق علاقات البشر وتربطهم بشبكة مصالح تدعو للسخرية ، وأصبح سهلا سلسلا في علاقاته اليومية لايطلب شيئا ، ويمنح التعاطف والشفقة ، وجدت حينها تشابها عجيبا بيننا : أنا قدري بلا مخططات للحاضر والمستقبل ، وهو تجاوز عالمه البشري ، بلا أحلام ولا طموحات غير معني كذلك بالحاضر والمستقبل ، مع الفارق ان خالد كان يشعر بالإحتقار للحياة وشروطها ، بينما انا خائفا منها وشعرت في أولى خطواتي في السفر والهجرة ان الحياة أكبر مني ، وقد تورطت بعد ما إكتشفت أنني لست مغامرا .
كلما أنزلقنا الى مناقشة الحاضر كنا نستدرك ونردد عبارة (( زوربا )) الى صديقه (( للأسف انت منطقي )) كان زوربا يعبر في هذه الجملة عن صلب فلسفة مابعد الحداثة وثورتها ضد مطلقات العقل وكلياته ، وصل خالد الى لندن ولم تتغير قناعاته رغم تغير ظروف العيش والسكن ، لم يقتنع بالبقاء في حياة يرفضها … إنتحر وأنتهى إرتباطه بها … وتركني أردد شتى الاعذار للتهرب من مواجهة نفسي : لماذا الإنتحار.. والموت والحياة يتساويان في العدم ، لاأعرف درجة الدقة واليقبن في هذه القناعة فحسب قول خالد مروان : لاتوجد خلاصات تاريخية في عالمنا النسبي !