في مساء لا يُشبه المساءات المعتادة، خفّت أنفاس المدينة وكأنها تستعد لطقسٍ غير مرئي. نُصبت قاعة المحكمة فوق ساحةٍ من الضوء المُهمل، وتكوّنت جدرانها من مرآة متشققة تنزف صورًا منسية. وقف القاضي، وهو نصف طيف ونصف مدينة، وأعلن بصوتٍ لا يُسمع إلا من الداخل:
> “نفتتح اليوم جلسة محاكمة الظلام، المُتهم باختراق قانون توزيع الضوء، والإخلال بميزان الظهور.”
تقدّم محامي الظلال، مرتديًا عباءة من نسيانٍ مُطرّز بالهمس. لا يحمل أوراقًا، بل آثار خطواتٍ لم تُسجَّل. وقف في زاوية لم تصلها الإضاءة الكاملة، ثم بدأ بالكلام، لا بصوت، بل بتقاطع الأصوات التي لم يسمح لها القانون بالظهور:
> “سيدي القاضي، النور ليس بريئًا من كل غياب، ولا الظلام مذنبًا لمجرد أنه يُقيم حيث لا يصل الضوء.
> موكّلي لا يسرق الظهور، بل يمنحه للأشياء التي لم يُسمح لها بالانكشاف.
> الظلال ليست اختراقًا، بل تذكير بأن بعض الحقائق لا تُرى إلا حين يُخفض الضوء صوته.”
ثم تناول مرآة مشروخة قدمها كشاهد أول، وقال:
> “في هذا الكسر، تجلّت ملامح وجهٍ نُسيَ لأنه لم يكن قابلاً للالتقاط في وضوح النهار.”
وسحب من جيبه صورة رمادية، لا يظهر فيها شيء سوى شكل غائم:
> “هذه ذاكرة الطفل الذي اختبأ خلف بابٍ لم تفتحه الشمس يوماً.
> هو لم يتجاوز القانون، بل تجاوز النسيان.”
واختتم دفاعه بنداء داخلي تكرر كلما أُغلقت النوافذ:
> “ليكن للظلام الحق في التلميح، في الحضور دون تصريح.
> إن اختراق الضوء ليس جريمة، بل مطالبة بإعادة تعريف الإنصاف.”
حين طُلب من المدينة أن تدلي بشهادتها، لم تتكلم مباشرة. تململت جدرانها، وانحنت نوافذها القديمة، وانطلقت الأزقة في همسات غير منتظمة. كل لبنة تحاول أن تُخرج كلمات احتُجزت منذ قرون:
> “أنا المدينة… لا أُضيء كل من يمر بي، ولا أُنير كل من يسكنني.
> الضوء يحب النظام، يحب الواجهة، من يُكتب عنه.
> لكنني، أنا، أعرف من عبروا دون أن يُرصدوا، من اختاروا الظلال لأن الضوء لا يُنصت لهم.”
ارتفع صوت من ساحة مهجورة:
> “من قال إن كل شيء يجب أن يُرى؟
> هل الإنصاف هو الوضوح؟
> أليست الرحمة في الاستبصار، لا في الانكشاف؟”
وبينما كانت المدينة تنطق، بدأت خرائط الضوء تتشقق.
ظهرت أماكن لم تكن مرسومة، كأن الاعتراف بالظلال أعاد ترتيب ما كان يُظنّ ثابتًا.
تحوّلت الأزقة الضائعة إلى شرايين ذاكرة، والجدران المهملة إلى مؤرخين صامتين.
وقف القاضي الذي لم يكن بشرًا، بل رغبة المدينة في الإنصاف. تنفّس الصمت لحظة، ثم قال:
> “الظهور ليس امتيازًا، والغياب ليس جريمة.
> إن اختراق قانون توزيع الضوء كان كشفًا لنقائصه، لا تمرّدًا عليه.”
وبحركة خافتة، أعاد رسم خارطة الضوء، وأضاف فيها مناطق رمادية تحمل أسماء منسيّة.
لم يُصدر حكمًا، بل أعلن عن وثيقة جديدة: “ميثاق الإنصاف غير المرئي”، يُعترف فيه للظلال بحقها في السرد، وللصمت بقيمته في الذاكرة.
ثم أُغلقت الجلسة، ليس بصوت المطرقة، بل بانطفاء شمعة لم تُضيء إلا لمن يبحث عمّا لا يُرى.
في اليوم التالي، لم يتغير ضوء الشمس… لكنه بدا أقل تكبّرًا.
المدينة تنفّست بارتياح، إذ لم تعد تُطالب كل من فيها بالوضوح.
وعلى جدارٍ قرب ساحة المحكمة، كُتبت عبارة بأبجدية لا تُقرأ إلا حين يُغمض القارئ عينيه:
> “كلما ازداد الضوء عدلًا، صار أكثر هشاشة… وكلما تكلّم الظلام، ظهرت الحقيقة.”