(قصة قصيرة)
“مهداة إلى روح الروائي علاء مشذوب”
تسلل اليأس إلى قلب جلجامش والإحباط إلى عقله، وتمنى لو أنه لم يأتِ من المغرب إلى بغداد باحثاً عن زهرة الخلود. توقَّع بأنه سيحصل على كل شيء بعد رحلة عناء طويلة. لكنه لم يجنِ سوى العذاب والتعب، فاستطال شعره وأصبح جسده خشناً جافَّاً كتربة جنوب العراق بعد تجفيف أهواره.
أحسّ بأن حلمه طائر تطارده ألف بندقية، ولاشجرة يستظل بها أو بيتاً يأوي إليه. مشى في شوارع بغداد حزيناً بلا هدف، بلا وجهة، لافرق عنده أي طريق يسلك. أنهكه التعب من كثرة التجوال؛ فأسند ظهره إلى جدار من الحجر عليه سور من من الحديد الأسود المزخرف، وفي النهايات العُليا للسور وريقات من الحديد الذهبي ذات رؤوس مُدببة تتجه للأعلى، ربما استخدمت للزينة والزخرفة، أو لغرض منع اللصوص من تسلق الجدار، أو للغرضين معاً. انتصب في المدخل العريض على قاعدة من الحجر،تمثالٌ لرجل من الحجر المزخرف، له لحية طويلة، ضمَّ يديه إلى سُرته، كأنه يُصلي. خلف التمثال يقع مبنى مكون من طابقين بنوافذ زجاجية واسعة بدون حماية، وكأن المبنى لم يعد فيه مايُسرق، أو أن الأمان والأمن أصبح سمة لهذا المكان. انتصبت أربعة أعمدة رخامية سوداء على مدخل المبنى، وخلفها باب واسع من الخشب البني المزخرف، أعلاه على شكل قوس. ما أكثر الأقواس في بغداد، فهي أم المجد والانتصارات، والحسد الذي جلب لها الكثير من الدمار والانكسارات. بغداد مدينة الثنائية والمتناقضات؛ وهذا يسري في عروقها، فلها كرخها ورصافتها، ونخيلها المتسامي الشامخ، وأشجار كِينَتها، وطينها السومري، وشمسها الحارقة، وأول قوانين قضائية عرفها البشر منذ حمورابي وانتهاءً بـ”الفصليات”، هي تشبه بيوتها التي أقيمت على الطراز العباسي والأندلسي، ويقابلها على الطرف الآخر منازل متهالكة وعشوائيات. يمر في الشارع رجلٌ رث الملابس، لاتستر كامل جسمه، يدفع عربة خشبية متهالكة عليها بضاعة ربما لاتساوي خمسة دولارات، وتمر سيارة حمراء رياضية من نوع “فيراري”. كل شيء في بغداد يتسم بالثنائية؛ الموت وضحكات الأطفال عصراً، الدم وزهور الأقحوان، عصفور دوري يقف على فوهة بندقية. دولار ممزق ملقى بجانب رغيف خبز عليه بقع دم لم يجفّ بعد. عباءة سوداء لامرأة غطّت بها نصف مئذنة مهدّمَة. صولجان ملك وبردته، ومسدس ضابط مازال الدخان يخرج من فوهته، ورائحة البارود تملأ المكان.
استقيظ فجأة على صوتها العذب الذي يشبه صفاء الماء في طنجة، حيث التقاء البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، وحيث التقاء أفريقيا بأوربا. ابتسمت له كشمس أشرقتْ من بين غيوم، كنخلة شامخة تحمل عناقيد الرطب “الخسْتَاوي”، وقالت: “خذ هذا..”، وهي تمدُّ رغيف الخبز ناحيته، فانتشرت رائحة الخبز في المكان، وتذكر والدته وهي تخبز صباحاً، حيث تُقلّب الأرغفة فوق الحصى الحامي في التنور. كانت طنجة حاضرة الآن في رغيف خبز، وبغداد اختصرت في ابتسامة ونظرة من عينين بنيتين.
استيقظ من هول المفاجأة، وانتفض فيه حس الرجولة، فقال لها: “أنا لستُ متسولاً، أنا جلجامش أتيت من المغرب للبحث عن زهرة الخلود، سآخذها معي وأعود..”. قالت له: إن كنت كما تقول تفضل”، وقادته إلى البواية الخشبية، التي انفتحت بإشارة من يدها، ثم التفتت إلى التمثال المزخرف، وقالت: “هذا نابو؛ إله الحكمة والمعرفة، ابن الإله مردوخ و كاتبه ووزيره في مملكة بابل، إله القلم والعلم والرقيم وحامي الأدباء والمنسوخات..”. انتفض فجأة كالملسوع، وقال لها: “إن كان هو كما تقولين، لماذا لم يحم المتحف عندما نهبه اللصوص بوجود الأمريكان وتحت أنظارهم عند احتلالهم لبغداد عام 2003؟ لماذا لم يمدّ جناحيه ليحمي متحف الطفل الذي يلاصق هذا المبنى عندما استهدفه الأمريكان بصاروخ، عليه مُصق يقول: “نحن مع حقوق الطفل..”؟
رأيتُ دموعاً في عينيها لم تنهمر، تشبه غروب بغداد، وآلاف النوارس تحوم فوق دجلة تبحث عن مبيت آمن لها. أمسكتْ بيدي وقادتني إلى قاعة كبيرة فيها تماثيل بعضها يقف متجاوراً وأخرى في صناديق من زجاج، تمشينا بين أعمدة بيضاء تحمل السقف، ثم وقفنا أمام لوحة مسمارية كبيرة. وضعتُ يدي على اللوحة، مدَّت هي يدها نحوي بسرعة خاطفة، قائلة لا لا، ممسكة بيدي، انفتح باب وسط اللوحة، وانزلقنا أنا وهي في برزخ الطين، عدنا سيرتنا الأولى؛ ألم نكن من حمأ مسنون..!
كأننا على بساط من ريح، أو وسائد من ضباب أو غيوم، كأن لاوزن لنا، نعلو ونهبط، نسير بشكل متعرج وأحياناً بشكل مستقيم. أحاول أن أتحدث إليها في خضم هذا التيه، لكن الكلمات تأبي أن تخرج من فمي، ألمس شفاهي فتقع منها أحرف مسمارية تشبه تلك التي في اللوحة. نمسك بأيدي بعضنا كأننا نخشى السقوط أو شيء لانعرفه. مررنا بمعارك طاحنة بين ملوك آشوريين، يركبون عربات تجرها أسود ضخمة. شاهدنا دجلة يتجه جنوباً مصبوغاً بلون الدم والحبر، وشاهدنا المغول يستبيحون بغداد، ثم شاهدنا معارك يقودها ملوك بعمائم سوداء، وكأن من يتقدمهم يشبه هارون الرشيد، شاهدنا دبابات أمريكية تتجه نحو بغداد، وجنوداً بعدد النمل تثقل كواهلهم أجهزة وأمتعة عسكرية. مررنا بالأهوار حيث الجواميس تسبح، ومئات النسوة يركبن “المشاحيف” المحملة بالبردي والزلّ والقصب، والصبية يخوضون في الأوحال يلعبون لعبة الدفاع عن بغداد.
التفتُ إليها، وقلت لها: “من أنتِ؟” قالت: “أنا ميسون؛ زهرة الخلود ذاتها يا جلجامش.. وهذا ابننا إبراهيم.. ونحن الأن في أور..!” قلت: “مستحيل..! أنا أحلم.. أنا مازلتُ في المغرب، أنا في طنجة ياميسون.. أتعرفين ما طنجة يا ميسون..! كانت أمي تقول: (بعد الطوفان، ضلَّت سفينة نوح الطريق خلال البحث عن اليابسة، وذات يوم حطت حمامة فوق السفينة، وشيء من الوحل في رجليها، فصاح ركّاب السفينة “الطين جا، الطين جا”، أي اقتربنا من اليابسة، ومن ثم سميت المنطقة “طنجة”). ضحكت ميسون، وقالت: (بل إن سفينة نوح رَسَتْ في العراق أثناء الطوفان العظيم، حيث اصطدم السن السفلي للسفينة باليابسة في جبل يقع بين نينوى العراقية والحسكة السورية، ففرح من في السفينة وقالوا: “سن جار” عندما نطحت السفينة الجبل، وبذلك سمّي جبل “سنجار”.
تساقط ثلاثة عشر نيزكاً، وصاح بضعة رجال: “قُتل روائي..”. تلمستُ جسدي فإذا الحبر يسيل من كل مكان، وأنا أستحم في بحر “طنجة”.