قبل انتصاف ليل امس بساعتين اتخذت مكاني في واجهة المقهى المعتاد مع صديق وقبل أن يأتي النادل بفناجين القهوة مر قريبا منا شخص بطول معتدل ونحافة تجعله يبدو كعارض ازياء او عداء مسافات طويلة ولحية وشارب مرتبان بشكل لافت للنظر كأنهما لممثل يقوم بأداء دور تاريخي وما ان تراه حتى تستذكر الراحل عبدالله غيث وهو يمثل فلم الرسالة لكن من دون عمامة و تسريحة شعر تشبه تسريحة ( يوزر سيف ) و ( دشداشه ) فصلت وخيطت له بإتقان لكن أكثر ما يلفت النظر إليه أمران الأول احاطته لرقبته بلفاف شتوي طويل كأنه يخاف عليها من برودة كانون والثاني عيناه التي تتفحص الجالسين بشكل غريب ومخيف ، لم يعنيني الأمر وانشغلت بالحديث مع صاحبي واحتساء قهوتي لكن الرجل أصبح مصدر قلق بعد مايختفي دقائق ليعود بعدها ماشيا بين الطاولات أكثر قربا واشد تفحصا مما جعلني أشك في قواه العقلية مع ان ملامح وجهه وهيئته ونظافة ملابسه وتناسقها باستثناء ( اللفاف ) لا تشي بذلك مع التأكيد على أنه في كل دورانه لم يقف عند إحدى الطاولات أو يكلم أحدا فقط عيونه هي التي تعمل وبعد مرور قرابة الساعة وجدته بشكل مفاجيء يقف خلفي بشكل يتيح له رؤية ملامحي بشكل ممتاز وبعد نظرة عميقة قال :
. اريد سجارتين وأشار بيده لعلبة سجائري فناولته واحدة لكنه رفض واصر على الاثنين طلبت منه أن يدخنها واعطيه غيرها لكنه رفض بشدة هنا تيقنت انه ليس مجنونا وإنما يحمل رسالة معينة لم اعرفها بعد فتمسكت بموقفي في عدم إعطاء أكثر من سيجارة وتمسك هو باصراره على الاثنين فتدخل الآخرون وقدم له رفيقي سجارتين الا انه رفض هنا تأكدت من انه يبيت أمرا فقطعت معه الحديث واشحت بوجهي عنه فمارس دورانه وعدت للحديث مع صديقي وبعد أقل من ربع ساعة عاد مكررا طلبه فابلغته اني لن أعطيه حتى واحدة فابتسم وادار وجهه واختفى . وفي طريق العودة دارت في بالي كثير من التساؤلات ..
لماذا انا بالذات ؟ ولماذا الإصرار على سجارتين دفعة واحدة؟ ولماذا يتصرف تصرف المهوسيين وهو بمظهر العاقل ؟ ولماذا كل هذا الهدوء الذي يشبه هدوء ظاهر ( راسبوتين ) كما قراناه ؟ واذا كنا في الزمن الماضي نطلق على من يقومون بهذه الحركات رجال من عيون السلطة فماذا نطلق عليهم الان .. بعد وصولي البيت سخرت من الايام ضاحكا وقلت :
لو حصلت هذه المفارقة في زمن صدام لما بت في البيت ليس هذه الليلة انما ليالي غيرها لكن الحمد لله سلطاتنا الحالية أهملت مراقبة المواطن وانشغلت بمراقبة المال وإلقاء القبض عليه من اي جهة أتى.