17 يونيو، 2025 12:02 ص

جعفر هجول شاعر مترحل بين الغربة والعشق

جعفر هجول شاعر مترحل بين الغربة والعشق

في قلب مدينة الحلة، حيث تتجاور جذور النخل مع ظلال التاريخ، ويتعانق الفرات مع القصيدة، وُلد الشاعر جعفر حمود هجول سنة 1940م، في محلة الوردية، وهي محلة تعرف كيف تخرج من صمتها فكرًا، ومن بيوتها شعراء. هناك نشأ فتىً شغوفًا بالكلمة، لا يرى في التعليم نهاية المطاف، بل بوابة أولى نحو وعي أرحب بالذات وبالعالم.
في مدارج العلم، تنقل الشاعر بين إعدادية الحلة والدورة التربوية، حتى غدا معلمًا، قبل أن يوسّع أفقه الأكاديمي بدراسة العربية في الجامعة المستنصرية، ثم القانون لاحقًا في جامعة طرابلس المفتوحة، خلال غربته الليبية. كل ذلك منحه نظرةً متعددة الزوايا، وانعكست لاحقًا في نتاجه الشعري والنثري.
منبر الشعر والصوت الشجي
لم يكن هجول شاعر ورق، بل كان شاعر منبر، يمتلك قدرة فريدة على إلقاء الشعر بنغمة تلامس القلوب. كان إنشاده للشعر تجربة جمالية بحد ذاتها، وكان له دور بارز في تأسيس ندوة عشتار عام 1971، تلك الندوة التي تحولت إلى ملتقى أدبي فاعل، جمع مثقفي الحلة وروادها. وقد واصل فيها نشاطه حتى انتُخب نائبًا للرئيس، ثم رئيسًا للجنة الثقافية لمحافظة بابل (1974-1976).
عرفته ميادين الشعر في مهرجانات الحلة وكربلاء والمربد والموصل والنجف وغيرها، وكان حضوره دائمًا لافتًا، بما في شعره من دفء شعري وحس إنساني.
القصيدة بوصفها انتماء
لم يكن هجول شاعرًا تقليديًا، بل حمل قصيدته على كاهل تجربة حقيقية، فيها الغربة والمنفى، وفيها العشق والحزن، وفيها الوطن بوصفه قضيته الكبرى.
في ديوانه الأول “من أصداء الغربة” كتب يقول:
يا غربتي، كم رافقتني طفلاً وشاباً وشيخاً،
كم كنتِ ملجأي في الزمن المكسور،
وفيكِ ذرفتُ دمع الكلمات، وحفرتُ وجهي على جدران المدن.

أما في ديوانه الثاني “بين الرؤى والمرائي” فارتقت اللغة لديه من البوح إلى الرمز، واقتربت القصيدة من تخوم الفلسفة:
نحنُ الذين ولدنا من رماد،
نمشي على ظلّ الأمل،
ولا نُجيد سوى الانتظار.
وفي مذكراته “الحلة بين العشق والانتماء”، نقرأ له لغة حميمة، تستحضر الوجوه والشوارع، والمقاهي القديمة، والحوارات مع جيل أدبي شهد تحولات العراق الكبرى. لم تكن المذكرات فقط توثيقًا، بل سردًا شعريًا لتاريخ شخصي وجمعي في آن:
الحلة لم تكن مدينةً، كانت امرأة،
عرفتُ أول دقات قلبي بين ضفائرها،
وفي شوارعها قرأتُ أول قصيدة،
وقطفتُ أول خيبة.
كتب فيه النقاد مقالات وشهادات، أكدت مجتمعة على ثلاث صفات: البساطة، العمق، والنزاهة الأخلاقية والفكرية. فقد رأى فيه محمد علي محيي الدين “شاعرًا تنويريًا يحمل همّ الإنسان في العراق بكل ما مرّ به من خيبات وأحلام”، بينما وصفه ناجح المعموري بأنه “شاعر الموت والعشق”، في تحليل لديوانه نبع يتدفق.
أما الدكتور عبد الإله الصائغ، فقد نعى رحيله المباغت في مقاله المؤلم دموع الطيور المهاجرة، وكأنه كان يستشعر أن شاعرًا مثل هجول لا يودّع من منصة، بل يرحل وهو في طريقه إلى الشعر، كما حدث بالفعل حين توفي في القطار المتجه إلى مهرجان المربد عام 2010م.
وقد خُصص له ملف أدبي كامل في مجلة أوراق فراتية، كما وُثق في مؤلفات أدبية عدة، منها: أدباء وكتّاب بابل المعاصرون” – د. عبد الرضا عوض- النهضة الفكرية في الحلة” – د. صباح نوري المرزوك- تكملة شعراء الحلة أو البابليات” – د. صباح نوري المرزوك
رحل جعفر هجول في 22 آذار 2010، وهو في طريقه إلى الشعر، إلى البصرة التي طالما أحبّها، إلى مهرجان المربد الذي طالما اعتلاه. في الرحلة الأخيرة، أسلم الروح دون وداع، كأنه قرر أن تكون النهاية امتدادًا لصمته الداخلي العميق، لكنه ترك من بعده قصائد تعبر الأزمنة، فقد هيأ قصيدة ليلقيها في المهرجان لكن الموت سبقه لتكون القصيدة التي لم تُلقَ: (وداعٌ في هيئة عشق)
والقصيدة ليست مجرد نص احتفائي، بل اعتراف حميمي بحب طويل ومزمن للبصرة، وللشعر، وللحياة:
“إيه غاليتي، من قبل في فتوة العمر سعيت إليك…
ولأنك دافئة يدفعني البرد إليك”
البصرة هنا ليست مدينة، بل كائن أنثوي، يشكل مع الحلة قطبيّ الهوية العاطفية للشاعر. القصيدة تنساب بين دفء الذكرى ونداء الحنين، وتبني من مفردات الطبيعة والموروث الشعبي نسيجًا غنائيًا، يمتزج فيه اللوز، والنخل، والجدائل، والأشرعة مع ملامح المدن العراقية ومواسمها وأصواتها.
“أنت وعشقي الحلة فيحاءان
فيهما يضوّع طلع الأدب الثر”
ويبلغ النص ذروته حين يُضمن هجول مقطعًا من أغنية شعبية عراقية قديمة:
(ابنادم داده بهيده اعله بختك لا تعت بيها…
روحي انحلت. والشوق يبنادم… والشوق ماذيها)
فتمتزج الشعرية العالية بالحس الشعبي العراقي، ويضفي المقطع طابعًا من الحنين الجماعي، كأن الشاعر أراد أن يوقّع وداعه بأغنية يعرفها الجميع.
ويختم القصيدة بجملة موجعة تختصر كل شيء:
“تبقى أمنيتي الكبرى، أن يتجدد هذا العرس مديداً…
ثم أموت.”
وهكذا، سبق الشاعر موته بكلمته، ومضى إلى رحلته الأخيرة وكأنه أراد أن يموت شاعرًا، لا أن يُرثى فقط.
وأخيراً يبقى جعفر هجول من الأصوات الحلية والعراقية التي جمعت بين الأصالة الشعرية والوفاء الثقافي، وقد شكّل في حياته جسرًا بين التكوين الأدبي الحلي والانفتاح على المشهد الثقافي العربي. أما في مماته، فقد كتب لنا وداعًا يليق بالشعراء الكبار، حيث امتزج صوته الأخير بصدى المربد، وعطر البصرة، ونخل الحلة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات