استطاع الكاتب عبد الرحيم كمال الانتقال بالدراما العربية لهذا العام إلى عالم مليء بالواقعية السحرية من خلال المسلسل المصري “جزيرة غمام”، بشكل درامي يضاهي أعمالاً عالمية نادرة، حيث أنه استثمر التراث والأساطير وقصص الأديان لصناعة أحداث درامية معززة بالفكر الصوفي حول أهل الخطوة والمشي على الماء وأصحاب القلوب الناصعة البيضاء، ممن كانوا يتعاملون مع الناس من خلال قلوبهم دون تقييد للدين بفقه أو شعائر مغايرة لزمانهم أو مكانهم.
المخرج حسين المنباوي عمد إلى تأسيس هيكل إخراجي متمكن من خلال توظيف كل الإسقاطات المهمة التي جاءت في جزيرة غمام كي تتشكل الدراما بقوالب متميزة، حيث أن حبكة الكاتب كمال وإخراج المنباوي وأداء الممثلين البارع خصوصاً رياض الخولي وأحمد أمين وطارق لطفي وفتحي عبد الوهاب، جعل من جزيرة أولاد عرفات “غمام” أيقونة كأحد أهم الأعمال الدرامية لهذا العام، والتي يمكن الاعتقاد بأنها أعمالاً مأخوذة من آداب عالمية كبورخيس وماركيز وباولوا كويهلوا لما فيها من عولمة للهوية الفنية، ثم إلباسها ثوب المحيط العربي.
تبدأ الحكاية في حقبة زمنية قديمة وتحديداً عام 1914، في إحدى الجزر المطلة على البحر الأحمر، حيث يظهر آثر الوافدين “طرح البحر” على الهدوء الذي يسود تلك المدينة، من خلال زرع الفتن ونبش الماضي ومحاولة تفتيت وتقسيم الجزيرة وقلوب أهلها، مروراً بحادثة قتل سندس التي جاءت مع وفاة شيخ الجزيرة، الشيخ مدين والذي يؤدي دوره الفنان “عبد العزيز مخيون”، الأمر الذي أثار انتباه المشاهد العربي لأنه يعيش تقسيم البلدان وجدانياً بأيديولوجيات عقيمة، من شأنها خلق جيل مشوه يعتقد بصوابيته على حساب الآخر.
فيما يحاول خلدون والذي يؤدي دوره طارق لطفي خلال حلقات المسلسل ممارسة دور الشر أو الشيطان، وجميع أفراد طرح البحر الذين يبحثون عن الاستقرار في جزيرة غمام من خلال بث الفتنة إلا أن عرفات الصالح المليء بالحب والتسامح يفسد تلك المحاولات.
وربما تغلب الفنان أحمد أمين على نفسه في تأدية الدور المركزي خلال هذا العمل فهو عرفات، العارف بأمر الله، البسيط، نقي السريرة حسب توصيف سكان الجزيرة، لدرجة أنه بعد الحلقات الخمس الأولى انسجم بشكل كامل مع السيناريو لمواصلة خط درامي خيالي مبهر، ولعل المناظرة التي حدثت بين عرفات من جهة والشيخ محارب ويسري من جهة أخرى، كذلك مشهد اختراق السور برفقة الأطفال ومشهد اختفاء الكلام في دفتر الشيخ مدين سيظل محفوراً في أذهان المشاهدين لما امتلكت تلك المشاهد الدرامية من أداء وبناء يصلح لأن ينافس أعمالاً بارزة.
الزوبعة التي بشر بها الشيخ مدين، والتي قال فيها محارب وهو يبكي اختفاء عرفات، إنه إذا أخرج أحدهم يده لن يراها وستكون فتنة عظيمة لن ينجو منها إلا كل صاحب قلب سليم، تظهر التطرف كيف يمكن أن يدمر، فالشيخ محارب كان صلفاً متشدداً، لكن الحكمة اقتضت أن يسير في ركب الأنقياء.
اعتمدت حبكة السيناريو أيضاً وضمن الإسقاطات العميقة، الحديث عن المسيحيين في الجزيرة، لتذكرني بما قالته الراهبة للإمام البسطامي في كتب الأثر، حين سئل الأخير لتلك المرأة المسيحية عن مكان طاهر يصلي فيه، فردت بجملة تختصر الدين: طهر قلبك وصلِ حيث شئت.
يسعى هذا المسلسل إلى تعزيز قول علي بن أبي طالب: إن لم نكن إخوة في الدين، فنحن أخوة في الخلق. والناس شعوب وقبائل بأديان ومذاهب وأفكار مختلفة، من سينجو هم الأخيار في كل زمان ومكان، وكل دين ومذهب، ومن سيهلك هم الأشرار، مهما تشدقوا بأي دين بينما يحملون السلاح والكراهية.
الموسيقى التصويرية التي أبدع فيها شادي مؤنس، والتتر الذي صدح فيه علي الحجار، يتناسب بشكل كامل مع مضمون هذا العمل الذي يتجاوز الزمان والمكان ويعود به إلى الوسية والمال والبنون والمسلسلات القديمة الفريدة.
هذا الوميض الإبداعي الذي نضحت به شاشات التلفزة هذا العام يمثل شيفرا تميز بها الكاتب عبد الرحيم كمال والذي أبدع من قبل في مسلسل الخواجا عبد القادر عام 2012 وونوش ودهشة، بالإضافة إلى غيرها من الأفلام كالكنز.
جزيرة غمام، عمل متميز، إنساني يتجاوز كل القيود، يؤمن بالجمال والحب، ويمنحك صورة أكثر صفاء للعلاقة بين العبد وربه، إنه عمل درامي يقربك إلى الله والحياة.