لايجيدُ العربُ وضعَ قانونٍ للنشر في البلدان العربية . ليست هذه شتيمةً أو تجاوزاً عاماً، بل هي نتيجة دراسة أجريتها ضمن رسالة جامعية درستُ فيها معظمَ قوانين النشر في الدول العربية،والمواثيق التي أصدرتها الجامعة العربية بهذا الشأن وكانت بمثابة نَسْخٍ لفقراتٍ وردتْ في تلك القوانين.
لا أريد هنا استعراض المقدمات الإنشائية المعتادة أو الدوافعِ والمبرراتِ المتشابهة التي تصدّرت تلك اللوائح، بل يمكنني تشبيهها بنموذج من ازدواجية التفسير الدائرة بين الفرق الإسلامية جميعها،فهي تتفق على أن البِدْعةَ ضلالة، لكن (تعريف البدعة ) سبب مايدور بينها من اقتتال وتخوين وتكفير وكراهية متبادلة !! .. كذلك بالنسبة لقوانين النشر حيث عادة ماترد مصطلحات متحركة في ثنايا الصياغات القانونية مثل ( الصالح العام) و(الأمن القومي) و(الإرهاب) و(الرموز الدينية) و(الرموز الوطنية) ، والسلم الاهلي أوالمساس باستقلال البلاد ووحدتها وسلامتها أو مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية والأمنية العليا كما ورد في المادة الثالثة من القانون.
وهذه كلها لامعنى محدداً لها ولاتعريف متفقاً عليه ، بل هي سببُ الإشكالات القانونية والأخلاقية التي تواجه أية ورقة أو قانون ينظم عمل الإعلام أو النشر في وسائل الاعلام و التواصل المختلفة . فهي سيفٌ مسْلَطٌ ليس بيد الدولة المركزية حسب، بل بيد جميع مراكز النفوذ والشخصيات والجماعات التي تستطيع الإعتقال والإتهام والمحاكمة والادانة وتنفيذ الحكم خارج اطار المؤسسات الرسمية .
مشكلة قانون جرائم المعلوماتية الذي يريد مجلس النواب اقرارَه يقعُ في هذا المستنقع التأويلي للمصطلحات . أضف الى ذلك ان سياسيي الطبقة الحاكمة بكل فئاتها ومراكزها وأذرعها من نواب واعلاميين ووسائل نشر لاتحكمهم أية معايير وهم يصرحون ويكشفون للاعلام بمبالغة معلومات يفترض أن تظلَ سرية أو شخصية تؤثر على المصالح العامة للبلاد. وكان يفترض أن يصدروا ميثاقا خاصاً بهم يجرمهم على ذلك ملحقا بعقوبات جدية ضد مروّجي الاشاعات وصنّاع التوتر ومثيري الكراهية من السياسيين في وسائل الإعلام، قبل اصدار هذا القانون الذي يضع الصحفي أو المدوّن متهماً سلفاً في كل مايعمل، وأهم ما في عمله هو حق الوصول الى المعلومة وهو حقٌ مضمونٌ دولياً ومحلياً، وأنّ الكشف عن مصادرِه محكومٌ بحالاتٍ نادرة، حيث لايُرغمُ الصحفيّ في كل العالم على كشفِ مصادره الا طوعياً حين تؤدي المعلومة التي نشرها الى الإضرار بالأمن القومي الفعلي، أو المساس بكرامة أو امن الأفراد، ويكون الكشف بسرية تامة وأمامَ القضاء وحده بضمان عدم تعرض المصدر للخطر .
مشكلة التعريف وتوصيف الجريمة أو التجاوز هي مايعيبُ هذا القانون الخطير، لأننا امام مساءلة عن التفاصيل، فالقانون ليس شعارات ومباديء عامة وإنما تفصيلات .. واذا ما استعرضنا بعضَ التعريفات الواردة في مواد القانون فلن تجد عراقياً طبيعياً، واقصد بالطبيعي غير المنتمي أو غير السياسي يتداولها، مثل إثارة النعرات المذهبية أو الطائفية أو الفتن أو تكديرالأمن أو النظام العام أو الإساءة إلى سمعة البلاد،كما تنص المادة السادسة من القانون. هل شاهدتَ مواطناً عادياً يثير الكراهية أو يسيء الى سمعة البلاد على شاشة التلفزيون أو في تويتر كما يفعل السياسيون العراقيون جميعهم؟ لا أعتقد.
كذلك مامعنى التعامل مع جهة معادية في عرف المشرّع الجليل لتنص فقرة في القانون على جريمة (الاشتراك أو التفاوض أو الترويج أو التعاقد أو التعامل مع جهة معادية بأي شكل من الأشكال…)،والعراقيون جميعاً لايعرفون بالضبط من هي الجهة المعادية في ظل تعدد الولاءات .. حيث تظللُ قبةُ البرلمان اليوم ولاءاتٍ شتى لأمريكا وايران واسرائيل والخليج وتركيا والصين وروسيا وغيرها وغيرها. وتضيف الفقرة المذكورة (…ومعاقبة كل من يقصد زعزعة الأمن والنظام العام أو تعريض البلاد للخطر) أيضاً ماهو الأمن العام وماذا يقصد بالنظام العام !! ومن يحدده ؟ لان التفسير الرسمي أو تفسير الأيادي الطولى غير الحكومية يمكن ان يتهم أي متظاهر أو صحفي مهني جريء بذلك.
ويتواصل التنصيص التأويلي الى درجة مخيّبة ترد في المادة الحادية والعشرين وهي الحبس لكل من اعتدى على أي من القيم والمبادئ الدينية ،وهو مايتطلب احاطة بتوصيف – الاعتداء – القيم – المباديء – الدين – مامعنى ذلك بالضبط ؟ ماذا يريد المشرّع أن لايقال بالضبط في مجتمع حر يشهد جدلا في العقائد والافكار واعادة قراءة التاريخ بعلمية واحترام؟ !!.
أما فقرة الإشاعات التي تزعزعُ الثقة بالنظام المالي الإليكتروني أو الأوراق التجارية والمالية الإليكترونية و الإضرار بالاقتصاد الوطني والثقة المالية للدولة ..فهذا البند حقا يثير الشفقة ولاتعليق عليه..
كنا نتوقع أن نصوصاً متقدمةً اكثر موضوعية ورُقيّا تتعلق بانتهاك أمن المواطنين وخطف الاشخاص والتشهير الشخصي والترويج لتطبيق مايعرف بالحدود خارج القضاء الذي راحت ضحيته عشرات النساء في حوادث قتل بشعة، والاتجار بالبشر وانتهاك الاطفال والتعدي على الحرمات الشخصية،وفتاوى التكفير ومايروّجه بعض الجهلة من روايات كوميدية على المنابر تنتقص من قيم أئمة الدين وسيرته الصحيحة، وتشوهه بمنصات السحر والشعوذة وبيع الأوهام وعلاج الأمراض بالخرافات التي تسود وسائل التوصل ونشر صور الدم والجنس بغرض الابتزاز السياسي او المالي.. وهذه شؤون تعاني منها شرائح واسعة في العالم، وعلى العراق اذا كان دولة مختلفة عن الدول العربية الشمولية التقليدية كما يدّعي أن يكون متعاليا ومتحضراً في سن قوانين النشر والمعلومات، لا أن يصدر قانونا يشبه الجريمة المشرعنة ضد أصحاب الرأي والمدونين الصحفيين المخلصين الذين يكتبون باسمائهم الصريحة، لأن المعادين الاشرار الحقيقيين لن يكشفوا وجوههم واسماءهم ولن يمر هذا القانون حتى من تحت أقدامهم. وللحديث بقية .