في الذكرى/11 المؤلمة لقرار حلّ وزارة الدفاع والقوات المسلحة وعموم الأجهزة الأمنية العراقية والذي أمضى عليه “بول بريمر” المدير الإداري لسلطة الإئتلاف المؤقتة في العراق يوم 23/5/2003 والتي كان في نتائجه وخيمة على عموم العراق وكارثية على جلّ مواطنيه، أستذكر حقيقة كبرى مفادها أن العديد من البحوث التي إطّلعت عليها مطلع عام (2003) بحكم عملي خبيراً إستراتيجياً بمركز الدراسات الدولية في جامعة بغداد وقبل أشهر معدودات من الغزو، رفعتها مراكز ومعاهد بحوث ودراسات سياسية/استراتيجية/مخابراتية ذات مستويات رفيعة لتخدم صانعي القرار لدى الدولة الأمريكية، فقد وجدتُ في متونها جميعاً وجهات نظر متباينة حول ادارة الحرب على العراق وضرورة إسقاط نظامه بأقصى سرعة ممكنة، وأساليب مقترحة لكيفية حكمه من بعد ذلك… تلك المراكز التي كانت متّفقة في مقترحاتها وتوصياتها على نقطتين رئيسيتين في غاية الأهمية:-
الأولى أن تحمل القوات الغازية على ظهورها حكومة وطنية عراقية -ولو كانت ضعيفة- تناط إليها إدارة العراق فور سقوط النظام..
والثانية أن تبقى القوات المسلحة العراقية على حالها شريطة تطهيرها من القادة والعناصر المؤيدة بحرارة للنظام السابق للحيلولة دون حدوث إنفلات أمني قد يودي بهذا البلد الى عواقب لا تعرف نتائجها.
لكن المستغرب أن وجهات النظر والرؤى التي سلّطت أضواءها على تلك الحرب الوشيكة وقبل وقوعها قد تمّ تطبيقها في معظمها… ولكن النقطتان الأهم، واللتان تخصّان ((أمن العراق ومستقبله القريب)) قد أبعدتا، فلا حكومة عراقية حُمِلَت على الأكتاف، ولا قوات مسلحة عراقية بقيت في أرض الواقع.
إن أية دولة في العالم تستند في إدارة شؤونها وتسيير إستراتيجياتها على مرتكزين مهمّين لا ثالث لهما، أولاهما الوسائل الدبلوماسية، وثانيتهما القدرات العسكرية، إذْ ينبغي موازنتهما وإستثمارهما على أفضل وجه وتحقيق التناغم بينهما لإستحصال الأهداف التي تضعها القيادة السياسية للدولة نصب عينيها، فالدبلوماسية قد تسيّر أمور البلد في ظروف السلم وتحاول بشتى الوسائل إبعاده عن الحرب، مستثمرة المؤسسات والدوائر المتاحة لدى وزارة الخارجية على وجه الخصوص وما هو متاح من الأدوات الإقتصادية والعلمية والثقافية والإجتماعية بشكل عام…. ولكن الدولة يجب أن تتوفّر لديها وراء كل ذلك أداة عسكرية قوية لتقف ظهيرا بغية الحفاظ على الجميع وبمثابة عصا غليظة ومرفوعة ومتهيئة وجاهزة وقادرة على الردع.
ولذلك تمخّض عن حلّ القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية فقدان الأداة الرادعة داخل الوطن، حيث عمّت الفوضى وشاعت أعمال نهب مؤسسات الدولة ومنشآتها المختلفة قبل أن تحرق من دون تمييز، فيما تعرّضت الدوائر الخدمية الى السرقة والتدمير بهمجية غير مسبوقة… وإنعدم الأمن وطفحت أعمال المقاومة المسلحة ضدّ الدولة، مصحوبة بعمليات ارهابية مروّعة آذت المواطن العراقي، فلم يعد مطمئن البال حتى في مسكنه على مدار الساعة… وسابت حدود العراق الدولية وتدفّق عناصر قادرة على إستخدام السلاح نحو الداخل، ليس للجهاد الذي أعلنوه فحسب، وإنّما لتصفية حسابات مع الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم من ذوي الجنسيات المتعددة على أرض العراق… كما نقلت الأسلحة والأعتدة والمفرقعات شديدة الإنفجار وخُبِّئت داخل المدن والأحياء السكنية والقرى والبراري والبساتين، وأُستخدمت ضد الدولة العراقية ومؤسساتها والقائمين الجدد على إدارتها… في حين لم تعد دول الجوار تخشى من العراق وسطوته المعروفة إقليمياً، وأُخرِجَ من الموازنات السائدة في “الشرق الأوسط”، فإندفع الجوار للتدخل المفضوح في شؤونه الداخلية، داعمين العمليات المسلحة في بقاعه من أجل تصفية حسابات قديمة، فضلاً عن أغراض مستقبلية أخرى… وتحوّل العراق الى جبهة مواجهة مع ما يسمّى بـ”الأرهاب العالمي” لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وعموم العالم الغربي على حساب أرضه ومواطنيه، وإنبثقت عصابات جرائم منظمة وإرهاب ضمن مراتع خصبة لأغراض القتل والخطف وأخذ الثارات وتهريب المخدرات والأسلحة وتداولها أمام الأنظار، تصاحبها صولات وجولات لأناس ساقطين في طول “بلاد الرافدين” المعروفة بالحضارات العريقة وعرضها، وتدفّق عناصر من مخابرات البعض من الدول ذات الأهداف المغرضة وتمركزوا في العراق، ليلعبوا أدواراً خبيثة للحيلولة دون إستقراره.
وقد تمخّض كذلك عن حلّ القوات المسلحة العراقية نتائج إقتصادية وإجتماعية شملت عموم الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد أن كانت قد كلّفت ميزانيتها ترليونات الدولارات لتمسي بين عشيّة وضحاها هباء منثوراً، في حين تتطلب إعادة تأسيس هذه القوات وبناها التحتية جهوداً مضنية ووقتاً ثميناً ومئات المليارات، ليس لتعود الى سابق عهدها وماضيها المعروف، بل لمجرّد أن تقف على قدميها بعض الشيء في ظروف دولة كان يمكن وصفها بالمنهارة في أكثر من منحىً… وقد مُحيَ ما كان قد تبقّى من منشآت التصنيع العسكري التي كانت تدرّ على القوات المسلحة العديد من احتياجاتها الأساسية، فضلاً عن إمكانات الإفادة من منتجاتها في المجالات المدنية وخدمة الوطن والمواطن، فيما هُرِّبَت المواد المدمرة والأنقاض المحتوية على معادن ثمينة، ناهيك عن الآثار التي لا تقدّر بثمن الى خارجه مقابل مبالغ بخسة ومهينة، فضلا عن عمليات التهريب داخل البلد، ونقلت رؤوس الأموال المرصودة الى الخارج من دون رقيب أو حسيب، فيما أُعْتـُدِيَ ووفقاً لتخطيط متقن وتنفيذ بارع على المنشآت الأقتصادية والحيوية التابعة للدولة والمشاريع المهمة التي كانت تحت الإنجاز وإقتحموها عنوة أو قصفوها، وفجروا أنابيب النفط الخام وضربوا الصهاريج والشاحنات المحمّلة بالمواد في وضح النهار، وذلك لإنعدام إمكانات الدولة على تأمين سلامتها… وتفشت آفة البطالة، وإلتمسنا تحوّل مئات الآلاف ممن كانوا يخدمون في صفوف القوات المسلحة إلى مجرد أناس يذرعون الشوارع، محرومين من لقمة العيش، أرغمت العديد منهم للإنخراط في صفوف القائمين بالعمليات المسلحة، أو باتوا أفراداً ضمن عصابات، أو أمسوا يستخدمون السلاح مستهدفين الحصول على لقمة العيش، او لغرض الثراء بالسحت الحرام… فيما هاجر مئات الألوف من العراقيين تحت تأثير الظروف الامنية أو الإقتصادية، وإضطروا للعمل غير اللائق في أقطار طالما إقتاتت من فُتات موائد العراقيين وأموالهم طيلة عقود مضت، بينما إضطر العديد من ذوي الفكر الثاقب والإختصاصات الدقيقة الى ترك الوطن ليفيدوا دولاً أخرى… ناهيك عن الإرهاصات النفسية والأمراض العقلية التي سادت عموم العراقيين، وعلى وجه الخصوص النساء والاطفال، من جراء التفجيرات والعبوات الناسفة والسيارات الملغومة، وتهرّؤ الاجساد وتناثر الجماجم أمام الأعين… وتضاءلت الثقة بالدولة جراء الآمال الكاذبة والوعود الخلاّبة بشأن الإستقرار والعمران والديمقراطية والتعددية، وإنعدم إحترام القانون مصحوباً بإنفلات اخلاقي غير مسبوق، لمحدودية امكانات الادوات المتوفرة لدى سلطتها التنفيذية، ما تسبّب في تفاقم الفساد الإداري ومظاهر الرشوة والإختلاس وسرقة المال العام وإستغلال النفوذ والمناصب بشكل مشهود، وتحوّل العديد من حثالات المجتمع جراء السرقات والنهب والسلب الى شخوص ذوي ثراءٍ فاحش، مستغلين أموالهم في أمور مخجلة وساقطة لتسيير مصالحهم وترهيب المواطنين، ما جعل البعض منهم سادة الشارع العراقي من دون منازع.