19 ديسمبر، 2024 7:20 م

لا مغالاةً فِي القولِ إنَّ بيئةَ الأهوار فِي جنوبي العراق، تُعَدُّ منذ عقود طويلة محميات لكثيرٍ مِنْ أنواعِ النباتات الطبيعية والحَيوانات البرية والداجنة، فضلاً عَنْ الطيورِ المحليَة والمهَاجرَة، الأمر الَّذِي ساهم بزيادةِ مقومات النشاط الاقتصادي فِي مناطقِها، وَالَّتِي كانت مساحتِها الإجمالية تغطي إلى عهدٍ قريب ما يقرب مِنْ (15) ألف كيلومتر مربع بالاستنادِ إلى أدنى التقديرات المعلنة. ولعلَّ ممارسة أهليها – الَّذين يعيشون منذ القدم نمطاً خاصا فِي أسلوبِ الحياة – لفعاليتي صيدِ الأسماك وَالطيور وَزراعة الرز فِي مقدمةِ تلك الأنشطة الداعمة لمواردِ بناء الدخل، بالإضافةِ إلى المساهمةِ فِي تعزيزِ مرتكزات الأمن الغذائي، إذ أنَّ منطقة الأهوار الَّتِي تشكل اكبر مسطحات مائية فِي الشرقِ الأوسط، تتفرد عَنْ غيرِها مِنْ مناطقِ البلاد فِي إمكانيةِ سد حاجةِ ساكنيها مِنْ الغذاء وبقية متطلبات العيش ذاتياً، ما جعلها بحسب الكثير مِنْ المتخصصين تعيش بعزلةٍ عَنْ المجتمعاتِ المدنية. ويضاف إلى ذلك مساهمتها الفاعلة فِي تغذيةِ محيطها مِنْ المستوطناتِ البشرية.

كانت الأهوار العراقية الَّتِي تمتد فِي محافظاتِ البصرة وذي قار وميسان موجودة بعافيتها حتى سبعينيات القرن المنصرم، والَّتِي شهدت أعوامها البدء بتعرض أهوارنا إلى أكبرِ عملية تجفيف وتدمير بيئي شهــــده التاريخ؛ لأسبابٍ عدة تأرجحت مَا بَيْنَ عوامل تحمل جنبة اقتصادية مثل استخراج النفط أو عوامل سياسية وعسكرية وأمنية، مَا أفضى إلى اختفاءِ مساحـــــــات شاسعـة منهــا وتحولها إلى أراضٍ جرداء قاحلة. ويمكن القول إنَّ مناطقَ الأهوار شهدت تناقصاً تدريجياً فِي إطلاقاتِ المياه بنهريّ العراق الخالدين، وَلاسيَّما نهر الفرات الَّذِي انخفضت مناسيبه إلى مستوياتٍ متدنية جداً، إلا أنَّ محنةُ الأهوار وَأهلها بدأتْ فِي مطلعِ أعوامِ العقد التاسع مِنْ القرنِ الماضيّ عَلَى خلفيةِ قيام النظام السابق بتعمد تجفيفها فِي أعقابِ الانتفاضة الشعبانية عام 1991م مِنْ خلالِ  تغيير مجرى المياه أو حبسها عنها، إذ لم يتبقى مِنْ جنةِ الله علَى الأرض مثلما أشير إليها مِنْ قبلِ المستشرقين سوى (4%) مِنْ مساحتِها الإجمالية بعد أنْ انحسرتْ مناطقها نتيجة تجفيفها، مَا أفضى إلى حدوثِ أحد أبشع التغييرات الديموغرافية بفعلِ الهجرة القسرية لأغلبِ ساكنيها إلى مختلفِ مراكز مدن البلاد ومناطقها بحثاً عَنْ لقمةِ العيش بعد أنْ كانوا يعتمدون فِي معيشتِهم عَلِى الزراعةِ والصيد وتربيةِ الحَيوانات الَّتِي تؤمن لهم إنتاجِ الألبان ومشتقاتها. أما مَا تبقى مِنْ السكان، فقد عمد فِي ظلِ الظروفِ آنفاً إلى تغييرِ نمط حياته المعيشية والإنتاجية.

إنَّ جريمةَ تجفيف الأهوار – المرتبط تاريخها بفحوى الحكمة السومرية الشهيرة حيثما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود – كانت مِنْ الشدةِ بحيث أنَّها أزالت سحرِ أجمل بقاع الطبيعة، وحولتها إلى أرضٍ يعلوها السبخ بعد أنْ هجرها الإنسان والطير والسمك والجاموس والقصب والبردي، فضلاً عَنْ تدميرِ أحد أكبر الأنظمة البيئية وأهمها فِي الشرقِ الأوسط وغربي آسيا.

فِي أمَانِ الله.

أحدث المقالات

أحدث المقالات