الشيئ الوحيد الذي استطاعت السلطات في بغداد واربيل اثباته بعد ان تحررا من قبضة صدام حسين، على مدى ١٧ سنة بالنسبة لبغداد منذ عام ٢٠٠٣، وحوالي ٣٠ سنة بالنسبة لأربيل منذ عام ١٩٩١ : هو انها لا تستحق ان تحكم المدينتين العريقتين، وانها اي السلطات في بغداد واربيل، يفتقران حتى الى ملكات التعلم ومؤهلات الإكتساب. المفروض ان هذه السنين الطوال من الممارسة الفعلية للحكم كافية لتعلم اصوله واكتساب مهاراته ولكن الواقع يدل على الأداء في تدهور مستمر وان لا أمل يرتجى منها. تثبت هذه السلطات في كل مناسبة انها لا تحسن التدبير ولا تجيد التعامل حتى عندما يهيئ لها القدر كل اسباب النجاح والتوفيق.
ربما كانت مأساة عائلة دارا رؤوف المغدورة خير مثال على هذه الحقيقة المرّة. المجرم كما هو واضح يفتقر الى الحنكة والمكر او انه اتخذ قراره تحت تأثير حالة متقدمة من التعاطي او ان دوافعه، سواء كانت سرقة او غيرها، وصلت الى الحد الذي قال لنفسه سأفعل وليكن ما سيكون، لأن الإقدام على مثل هذا الجريمة في منطقة امنية مزودة بشبكة من الكاميرات اشبه ما يكون بمشهد مسرحي تصوره العديد من الكاميرات. عادة تولي المؤسسات المستهدفة، السفارات في هذه الحالة، اهتماماً اكبر بالمباني المحيطة، خصوصا اذا كانت عمارات عالية وتجري مسحا دوريا للعاملين والسكان، وربما فرضت بطاقات خاصة للدخول والخروج.
ولأن المجرم على دراية بهذا الواقع وان أمره مفضوح تماماً هرب مباشرة بعد ارتكاب الجريمة مع ان التواجد في الموقع او قريبا منه هو اجراء طالما لجأ اليه المجرمون لتضليل التحقيق، وان مثل هذا التواجد، لولا الكاميرات التي رصدته بالتأكيد، كان سيبعد عنه الإشتباه ولو الى حين، بينما الهروب من الموقع سيجعله مشتبها به مباشرة لأن سلطات التحقيق في العادة تبدأ بأقرب الناس، خصوصا اذا كانوا حراسا كما هو الحال هنا. المجرم كان متيقنا من ان امره مكشوف ومفضوح ولهذا قرر الهروب الى اربيل على امل ان يتمكن من الذهاب الى خارج البلاد.
لا شك ان المحققين افتقدوه مباشرة وتنبهوا لغيابه، ولما لم يجدوه في داره او دائرته وضعوه في خانة الإشتباه وعمموا معلوماته الكاملة، بيانات وصور، مما سهل تتبعه والقاء القبض عليه في اقل من ٢٤ ساعة، وربما يكون تدوين معلومات الداخلين الى اربيل في نقطة التفتيش قد سهل المهمة اكثر. طبيعة الجريمة اذن هي التي كشفت عن نفسها في الغالب واليها يعود الفضل اكثر مما قيل عن متابعة رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية وتعاون الشرطة في اربيل وبغداد. هنا بعد ان سهَّل القدر سقوط المجرم في شر فعلته النكراء بدأ العك والتخبط في اربيل وبغداد على السواء.
يبدو ان السلطات في اربيل حاولت استباق ردود الأفعال الشعبية التي قد تقود الى اعمال إنتقام منفلتة وسعت الى تجريد الجريمة من اي بعد قومي او سياسي او طائفي لوأد تداعيات فتنة متوقعة فسارعت الى بث اعتراف مبتسر قصير لا يرقى الى مستوى بشاعة الجريمة، فزادت الشكوك من حولها وكثرت الأقاويل. من يصدق ان طلب استدانة مبلغ من شخص وقور ومحترم في بيته، مهما كانت الظروف، يمكن ان يتطور الى قتل جماعي؟ لا احد بالطبع.
في بغداد بثت دائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية اليوم اعترفات اخرى تختلف عن اعترفات اربيل. في اربيل كان المجرم يهتز ويكرر الإستنشاق العميق حتى يلتوي نصف أنفه ليوحي انه مدمن وحشاش بحيث يكون تطور جلسة انسانية الى جريمة بشعة امرا مقبولا بينما جاءت اعترافات بغداد لتؤكد انه صعد الى شقة العائلة المغدورة عن سبق نية وترصد واصرار للسرقة والقتل. بل انه لتبرير بقعة الدم تحت رأس جثة شيلان قال ان رأسها اصطدم بالجدار عندما ضربها على وجها، وهو ما لم يقله في اربيل. كانت الاعترفات ممنتجة بشكل مفرط في السوء.
اخيرا ان دلت هذه الاعترافات على شيء فإنها لا تدل قطعا الا على جزء يسير من الحقيقة وان السلطات في بغداد واربيل مرتبكة ومتعجلة وفاقدة للفطنة ولا تحس التصرف حتى عندما تكون الظروف في صالحها وانها ابعد ما تكون عن التنسيق المزعوم الذي يدّعونه، والا لما بثت اعترفات متباينة خلال ٢٤ ساعة، وان الناس لن يتوقفون عن طرح الأسئلة ولن يصدقوا هذه السلطات أبداً[email protected]