17 نوفمبر، 2024 2:00 م
Search
Close this search box.

جرودنا وعرسالهم

الجرود في اللهجة العراقية-خاصة الجنوبية منها- تعني الملابس القديمة وهنا أردت أن أكني بها عن الأفكار والأساليب البالية في التعامل مع القضايا والتي للأسف لازالت نسبة مهمة من العراقيين تنتهجها، أما عرسالهم فإشارة إلى موضوع نقل الدواعش-أبرز مناطق الحدود هي جرود عرسال- من حدود سوريا مع لبنان إلى حدوها مع العراق باتفاق سوري لبناني تقول الحكومة العراقية إنها لا تعلم عنه وترفضه.

ما أن ظهرت في الإعلام أخبار نقل الدواعش من حدود لبنان إلى حدود العراق في الداخل السوري حتى أنقسم العراقيون-واللبنانيون بمستوى ما وكذلك الإعلام العربي بصورة عامة- إلى فريقين: فريق يرى هذا الإجراء خيانة من حزب الله وضرر بالعراق ويكشف عن تناقض بين قول وفعل سيد حسن نصر الله ويستوجب هجوماً قاسياً عليه، وفريق يرى إن الأمر شأن داخلي سوري وإن التشكيك بالمقاومة وسيد حسن نصر الله أمر ينسجم مع ما يريده المحور السعودي الأمريكي الإسرائيلي، وتم تبادل الاتهامات بين الطرفين فصار هذا خائن وعميل وفاقد للوطنية وذاك منتصر للمحور الاسرائيلي وهكذا!

لا شك إن أي أجراء من أي دولة يتضح ضرره تجاه الدولة الأخرى هو محل عدم ترحيب بل وسخط من مواطني الدولة المتضررة، ولا شك إن الحرب على الإرهاب هي ليست شأن داخلي لدولة ما فقط بل هو أمر دولي يتطلب تنسيق مواقف قبل اتخاذ أي إجراءات مهمة.
ولكن قبل اتخاذ أي موقف تجاه ذلك لا بد من المعرفة والتأني ولعل موقف رئيس الوزراء العراقي الذي أبدى رفضه للأمر وطالب بالتحقيق وكشف الملابسات موقف معقول إلى حد ما من هذه الناحية.

ولا شك في تاريخ سيد حسن نصر الله وحزب الله الجهادي المقاوم وهو محل احترام وتقدير عالٍ، ولا يمكن القبول بأي كلام ضده بسهولة دون مبررات مقنعة فضلاً عن الكلام الجارح والمبالغ به، ولا شك إن هناك محاور في المنطقة وإن محور الجعجعة-تيمناً بسمير جعجع المعقد نصراوياً!- يتحين الفرص لضرب حزب الله والمقاومة أو محور الممانعة، ولا شك إن السعودية وإعلامها يبحث عن ذلك أيضاً وكذلك إسرائيل.

ولكن ذلك لا يعني إن المقاومة معصومة لا تخطئ، كما لا يعني تناسي كل هذه المحاور وغاياتها.

نقل الدواعش قد يكون له دوافع عسكرية وأمنية مقنعة، وقد لا يكون. وقد ينتج عنه ضرر كبير على العراق، وقد لا ينتج.

وتقييمه دون معرفة الواقع على الأرض: من ظرف المعركة في الحدود اللبنانية السورية ومعطياتها، ونوعية وعدد المسلحين وظروف الصفقة لأن النقل تم بصفقة ولم يكن مجرد عملية نقل أو سماح بالنقل، وظروف الحدود السورية العراقية والوضع في دير الزور والبوكمال من جهة والقائم وعانة وراوة من جهة أخرى وكونها كلها تحت سيطرة داعش، ووجود حالات نقل مشابهة-وفقاً لتسريبات- تمت عدة مرات في العراق وبأعداد أكبر وبرضا وعلم الحكومة العراقية -أو بدون علمها- ولكن بغطاء أمريكي كما في نقل مسلحين من الفلوجة ونقل مسلحين من الموصل أو تلعفر ودون صفقات! وإيقاف توجه الحشد-بتعليمات من رئيس الوزراء كما نُقل- للحدود العراقية السورية وتأمينها قبل فترة! والنزاع الأمريكي الروسي على مناطق الحدود العراقية السورية الأردنية ومنطقة التنف بالذات، وصراع المحاور داخل العراق والذي بعضه نتيجة تنازع داخلي سياسي أو انتخابي أو غير ذلك وبعضه نتيجة توجيه من الخارج، أقول تقييمه دون مراعاة كل ذلك تقييم متسرع غير منطقي ولا يمكن التعويل عليه، واعتباره محوراً لتصنيف الآخرين وطنياً أو مذهبياً هو مجازفة تنتمي للجرود.

متى نتعلم إن الموقف تجاه قضية ما قد يكون:

إيجابي نتيجة معطيات تامة، وهذا موقف يستحق المدح.

أو سلبي نتيجة معطيات تامة، وهذا موقف يستحق الذم والتشكيك بالولاءات.

أو إيجابي نتيجة معطيات غير تامة، وهذا يتطلب مراجعة ولا يكون محلاً للاستحقاق والتقييم.

أو سلبي نتيجة معطيات غير تامة، وهو يتطلب مراجعة أيضاً وكذلك لا يكون محلاً للاستحقاق والتقييم.
والموقفان الأخيران كلاهما سلبيان من ناحية اتخاذ موقف دون معطيات تامة.

أو متردد نتيجة عدم توفر المعطيات التامة، وهذا يتطلب التردد.

فلا رفض النقل-ما لم نعرف نوايا الآخرين بدقة بإفصاحهم عنها أو بمعرفتنا المسبقة بهم- كاشف عن شعور وطني بالضرورة فلعله يكون نتاج ولاء لمحور ما! ولا هو كاشف عن عداء للمقاومة واصطفاف مع إسرائيل فقد يكون نتاج ولاء للوطن.

ولا القبول بالنقل أو السكوت عنه-ما لم نعرف نوايا الآخرين بدقة بإفصاحهم عنها أو بمعرفتنا المسبقة بهم- كاشف عن عدم الوطنية فقد يكون نتاج رؤية أو معطيات، ولا هو كاشف عن حرص على المذهب والناس فقد يكون نتاج اصطفاف مع طرف أو ضد طرف لا أكثر!

أقول متى نتخلى عن جرودنا البالية؟ أم إننا متمسكون بها كما تمسك اللبنانيون بجرود عرسال مع الفارق بين الجرود والجرود والفارق بين الموقفين، ومتى نتوقف عن تأجيج المواقف وصنع النزاعات واختلاقها؟ ومتى نتوقف عن نزع الصفات وخلعها-كالوطنية والولاء للمذهب- عن الآخرين وكأنها جرود يسهل سلبها بكل بساطة؟ ومتى نضع حداً واضحاً –أو نصف واضح حتى- بين ولاءاتنا المتعددة؟ ولست هنا أرفض الولاءات المتعددة بل أعترض على أولوياتها وتقاطعاتها الوهمية، ومتى نتوقف عن كيل الاتهامات ووصف المؤامرات-دون مؤشرات واضحة- ونحن ننتقد الفكر المؤامراتي وعقده ونحن غارقون بها حد النخاع؟!

الأمور تتطلب مراجعة وموازنة ومعرفة وتأني فلتنجلي الغبرة ولتكن لنا مواقف وفق معطيات أوضح والإعلام لم يقدم استقالته ولم يغلق أبوابه وسيكون بانتظارنا حينها!

أحدث المقالات