لمناسبة اعلان تقريرها السنوي لعام 2013 ، اثار المؤتمر الصحفي لهيئة النزاهة موضوعا متجددا عن تقييم منظمة الشفافية الدولية لالتزام العراق بمعاييرها في محاربة الفساد ، حيث تكثر المناقشات في المحافل الدولية حول قياس الفساد والحد منه وفقا لاليات تتطور برامجها اعتمادا على مقدار التحديات والاستجابة المجتمعية لبلورة الوعي المطلوب لمواجهة هذه التحديات، وتعد الاتفاقية الاممية لمكافحة الفساد احد ابرز معالم خارطة الطريق الوطنية والاقليمية الدولية على حد سواء في رسم الخطوات الكفيلة في قياس الفساد والحد منه .
في هذه الورقة سنحاول تقديم المعطيات الاساسية لقياس الفساد والسعي لتحليلها وصولا الى الاستنتاجات الموضوعية التي يمكن طرحها على بساط البحث والمناقشة كأفكار محورية في مواجهة آثام الفساد واليات الحد منه .
المعطيات
تهتم المؤتمرات الدولية والابحاث التي تقدمها في سياق تحليل معطيات الواقع لمكافحة الفساد في موضوعين مهمين الاول يتمثل في حوكمة الدولة لمواجهة الفساد، والثاني في المساءلة الاجتماعية من خلال اشراك منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام لتعزيز ثقافة النزاهة ، وهما ما تناوله قانون هيئة النزاهة رقم 30 لعام 2011 ، وفي مراجعة ابرز هذه المعطيات ، يمكن ادراج الاتي :
اولا : في المذكرة التوجيهية الصادرة عن برنامج الامم المتحدة الانمائي،عام 2010 تحت عنوان ” المساءلة الاجتماعية من المبدأ الى التطبيق، تشير الى صميم فهم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للحكم الديمقراطي وللتنمية البشرية ، فالخطة الاستراتيجية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2008-2013) وإستراتيجيته العالمية لتعزيز المجتمع المدني والمشاركة المدنية (2009)، كلاهما يعطي أولوية لتعزيز المشاركة الشاملة وإقامة مؤسسات دولة متجاوبة كوسيلة لتعزيز الحكم الديمقراطي والمساءلة، حيث ينظر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى الحكم الديمقراطي باعتباره مجموعة من القيم والمبادئ التي ترتكز عليها العلاقات بين الدولة والمجتمع.
وتعرف هذه المذكرة “المساءلة” بأنها التزام مَن في يدهم السلطة بتحمل تبعات أفعالهم. فهي تصف الحقوق والمسؤوليات الموجودة بين الناس، والمؤسسات (وتشمل الحكومات والمجتمع المدني والأطراف الفاعلة في السوق) التي لها أثر على حياتهم، ففي الدول الديمقراطية، تساعد علاقات المساءلة على ضمان تمسك صانعي القرار بالمعايير والقواعد والأهداف المتفق عليها علناً، حيث يمنح المواطنون حكومتهم صلاحية فرض الضرائب والإنفاق وسن القوانين ووضع السياسات وإنفاذها، وفي المقابل يتوقعون منها تفسير وتبرير استخدامها صلاحياتها واتخاذ التدابير التصحيحية عندما تدعو الحاجة.
مشددة على انه في غياب إمكانية إقامة العدالة، لا يمكن للناس المشاركة برأيهم ولا ممارسة حقوقهم ولا مقاومة التمييز ولا إخضاع صانعي القرار للمساءلة. وبالتالي فإن سيادة القانون وإقامة العدالة والتمكين القانوني عوامل لا غنى عنها لتيسير عمل المساءلة الاجتماعية والمساهمة في خلق بيئة مواتية لتعزيز التنمية البشرية والحد من الفقر.
لذلك تنصح المذكرة على من المفيد أن نرى المساءلة الاجتماعية من منظور كل من المبادئ والممارسات،من خلال ثلاث مراحل في تناول ممارسات المساءلة الاجتماعية، الاول يتمثل في فهم السياق والبيئة ، والثاني يتجسد في العمل مع البرامج والمشروعات ، اما الثالث فيذهب الى الرصد والتقييم وتقييم الأثر والمراجعة ، ومن ثم العمل على إجراء “مراجعة للمساءلة الاجتماعية” للتأكد من وجود قنوات فعلية كي يعبر المواطنون عن آرائهم ويؤثروا على القرارات ويخضعوا المكلفين بالواجبات للمساءلة وكذلك قياس قدرة المؤسسات والمسؤولين الحكوميين على الاستجابة والخضوع للمساءلة. وكثير من القضايا المتناولة يشبه القضايا التي تناولها تحليل الاقتصاد السياسي المذكور أعلاه، ولكن الفحص البرامجي سيكون على الأرجح مركزاً على المجال المعين محل الدراسة لا على عمل النظم الرسمية وغير الرسمية بوجه عام.
ثانيا: لتفادي العواقب الوخيمة للفساد على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على المستويين المحلي والدولي، حظيت إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد باهتمام دولي لم تحظ به أية إتفاقية دولية أخرى، وتأتي أهمية هذه الإتفاقية من أنها وضعت أساسا شاملا يمكن أن تبنى عليه الاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد، وأرست دعائم التعاون الدولي في مكافحة الفساد باعتبار أن ظاهرة الفساد لم تعد شانا داخليا وحسب كما كان في الماضي وإنما أصبحت ظاهرة دولية تحتاج في مكافحتها إلى تضافر كافة الجهود على المستويين المحلي والدولي.
ويقول ديفيد م. لونا مدير إدارة مكافحة الفساد وحوكمة الشركات بوزارة الخارجية الأمريكية ((بكل صراحة، بينت فضائح الشركات الأمريكية المتزايدة أنه لا توجد دولة خالية من الفساد. ولذلك فإن التعاون فى مكافحة الفساد يتطلب أن تتحمل كل دولة مسئوليتها مع جميع الدول الأخرى والحكومات ومنظمات المجتمع المدنى، وأن تتحمل الدول المتقدمة مسئوليتها عن ضمان الالتزام المستمر بزرع بذور ثقافة تقوم على الأخلاق والقيم وجنى ثمار التنمية)).
هذه الصراحة التي تكشف نماذج الفساد في الشركات الاميركية، يحتاج الى التوقف عند اهمية المصارحة بان حالات الفساد لا تعني فشل الدولة ، فاذا كانت الولايات المتحدة تتعرف بالفساد كظاهرة اقتصادية اجتماعية ، فكيف الامر في بقية دول العالم الثالث، وهنا لابد من التوقف عند إطار هذه التغيرات الجغرافية والسياسية، حيث يشير المسؤول الاميركي في محاضرة القاها في مؤتمر عقده المعهد الدولى للأخلاقيات العامة (IIPE) فى مدينة بريسبين الاسترالية فى 4 أكتوبر 2002 بالاشتراك مع الجمعية الاسترالية للأخلاقيات المهنية والتطبيقية (AAPAE) وجامعة جريفيث والحكومة الاسترالية، الى عامل آخر يمكن أن يساهم مساهمة إيجابية فى نجاح مكافحة الفساد وهو العمل الدبلوماسى متعدد الأطراف فى مختلف أرجاء العالم، ويلخيص المبادئ العامة التى وضعتها حكومة بلاده لدبلوماسية مكافحة الفساد في (1) وضع أعراف مقبولة دوليا فيما يتعلق بتحديد الفساد؛ (2) تشجيع قيام الحكومات بعملية تقييم ذاتى فيما يتعلق بالفساد الداخل فى نطاق حدودها؛ (3) الاعتراف بأن الفساد يمثل عقبة أمام التنمية وأن له مضاعفات محلية ودولية خطيرة؛ (4) زيادة التعاون الدولى.
التحليل
في ضوء ما تقدم من معطيات، فان أي منهجية تحليل وصفية او قيمية لفهم اليات قياس الفساد في البلدان النامية ومنها العراق، يتطلب فك رموز اليات قياس الفساد عبر مدركاته من قبل منظمات دولية ، لعل ابرزها منظمة الشفافية الدولية، او البنك الدولي،فضلا عن منظمة النزاهة العالمية ولكل من هذه المنظمات اليات قياس خاصة بها ، لكن الجميع يتشاركون في نموذج القياس ما بين الموارد المادية للدولة وقياس الفقر، اضافة الى استبيان الراي العام وفقا لمعطيات نوع المجتمع” حضري – صناعي” او “ريفي زراعي “لنوع الخدمات التي تقدم من قبل الدولة في التعليم والصحة والسكن ، فيما يقع ضمن لائحة الاعلان العالمي لحقوق الانسان، يضاف اليها الادراك الشعبي للرضا السياسي عن تداول السلطة ونوع الحكم والاصلاح المطلوب فيه .
كل ذلك يتطلب التوقف برهة عند طرفي المعادلة، في قسمها الاول المتمثل في المسائلة الاجتماعية، والثاني المتعلق بدور الدولة في مكافحة الفساد في اطار التزاماتها الدولية في كطرف في اتفاقية مكافحة الفساد للامم المتحدة، ناهيك عن رغباتها في الدخول الى اتفاقية التجارة العالمية “الغات”او الغاء الديون او جدولتها وفقا لسياقات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، يضاف الى ذلك التزامات الدول في المواثيق الدولية التي تتفرع عن نشاطات الامم المتحدة مثل اهداف الالفية الثالثة،او اتفاقية الجندر وحقوق الطفل او الانتقال الى الحكومة الالكترونية، كمدخلات لقياس اداء الدولة وفقا لمعايير الحوكمة التي تطبق عادة على قاعدة افقية وعمودية في قياس الاداء، لذلك تكون هناك معايير متعددة لا يتم تطبيقها على الدول النامية او الدول التي تمر بمراحل انتقالية،بانتظار الانتهاء من هذه المراحل ، ومن ثم تصاعد الاداء الخاص بحكوماتها بالشكل الذي يؤهلها للدخول الى نظام السوق العام .
وهناك عدة نماذج ما ببين نظام الصدمة الذي طبق في روسيا الاتحادية ما بعد سقوط جدار برلين، واسلوب العمل التدريجي المطبق في العراق الجديد ، لكن كلا النظامين في قياس الفساد يمكن ان ينتهي الى ذات الدلالات الاحصائية، حينما تتطابق منهجية التحليل الكمي مع معايير مدركات الفساد الدولية، وهنا تقع الكارثة في نتائج القياس عندما لا تكون هناك اليات لتبادل المعلومات بين الدول والمنظمات القائمة بعملية القياس او لا تكون هناك قياسات وطنية تحاكي اليات القياس الدولية ،بما يوصم استبيانات الراي العام بكونها مجيرة لصالح الحكومة وليس لصالح المواطن ، بمعنى انها لا تبين مدركات الفساد المؤثرة على حياة الانسان في هذه الدول ، بينما ما تقوم به هذه المنظمات الدولية من عملية استبيان، مثلما حصل في العراق في نتائج دراسة ” انعكاسات الفساد واقتصاد الظل في العراق” الذي ما زالت منظمة الشفافية الدولية تعتمد على الياته في قياس الراي العام منذ عام 2005 حتى عام 2013عندما انتبهت الى جهود هيئة النزاهة العراقية في التعامل مع مدركات الفساد وتطبيق العراق لمعايير الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد،فأصدرت تقريرها عن الفساد والحرب عليه في ربيع عام 2013 .
الاستنتاج
في ضوء كل ما تقدم يمكن تثبيت الاستنتاجات التالية :
اولا : ليس بالامكان فصل جهود مكافحة الفساد عن النشاط الدولي متعدد الاطراف في سياق الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والالتزامات التي يتوجب على البلدان الموقعة عليها لردم فجوة التباين القانوني ، لان تاهيل الدول لدخول النادي الاقتصادي الدولي يحتاج الى انمذجة اقتصاديات هذه الدول بما يجعلها اقرب الى التطابق مع مدركات النشاط الاقتصادي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي فتكون منظمة الشفافية الدولية مجرد منظمة مجتمع دولي تراقب معايير حوكمة هذه المدركات لصالح المستخدم وهو المواطن، كنوع من ردع الانظمة الرأسمالية على الاتيان بقرارات (متوحشة) يمكن ان تضر بالرفاهية في تلك المجتمعات التي تجاوزت العامل الثالث بخطوات كبيرة في التقدم العلمي والرقي الاقتصادي والسياسي .
ثانيا : يطرح السؤال عن رد فعل الدول النامية على ما سبق طرحه عن كطرفي هذه المعادلة لقياس الفساد ،هنا يمكن القول ان هناك عدة انماط من الاستجابة فهناك دول اعتمدت النظام الرأسمالي اصلا في بناء اقتصادها مثل الكويت ، وهناك دول تمر بمراحل انتقالية مثل دولة فلسطين ، لذلك تحتاج الى المنح الدولية لاستكمال هذه المراحل ، ولان المانحين الدوليين يشترطون ذات المدركات لمكافحة الفساد ، فان استكمال العملية الانتقالية يتطلب تكوين قيادات اجتماعية لمكافحة الفساد، تراقب الدولة فضلا عن مؤسسات الرقابة الحكومية والقضائية،اما النمط الثالث، فهو ما يحصل في حالة الانتقال من اقتصاد اشتراكي الى اقتصاد السوق،فيحتاج الى المنح الدولية لبناء مؤسسات هرمية جديدة ، لكن التزاماته القانونية الدولية والاعتبارية المحلية،تحتاج الى توافق سياسي كبير لنفاذ اليات طرفي المعادلة الجديدة ، من اجل نيل ثقة المجتمع الدولي بان ما تقوم به مؤسسات مكافحة الفساد والتزامات الدولة امام المانحين الدوليين ، يتطابق بنسبة كبيرة مع ذات الاليات التي تطبق في مجتمعات تجاوزت حالة الانتقال وثبتت اقدامها على درب الشفافية بخطوات واثقة ، لها منهجية اعلامية واضحة تغادر اساليب الفشل التي اعتادت عليها بعض المؤسسات العراقية في التعامل مع فكرة ترويج النزاهة والشفافية بالشكل المطلوب .