كاتب عراقي/ ماجستير في الأدب العربي
يجنح الروائي للخيال في محاولته نظم أفكاره في حبكة مُحكمة ومؤثرة، وهو في ذلك يقترب من الممكن والواقعي أي إنه يريد في النهاية أن تكون حكايته داخلة ضمن حدود المعقول لكي يُحقق درجة التأثير المنشودة في القراء، دون التخلي بالطبع عن الطبيعة الشعرية للغته الأدبية. ولعل من نافلة القول التأكيد على أن هذا الكلام ينطبق على الرواية الواقعية ولا ينسحب بالضرورة على الأعمال الأدبية التي تتخذ من العوالم الغرائبية واللاواقعية ميدانًا لها.
وحينما ناقش الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو مسألة تأثير الاعمال الروائية على مشاعر القراء في كتابه “اعترافات روائي ناشئ” أرجع السبب لخضوع هذه الروايات لمبدأ الاحتمالية فذرف القراء للدموع الغزيرة وهم يقرأون مأساة آنا كارينيا لتولستوي يُشبه في بعض جوانبه ذرفنا للدموع بمجرد التفكير باحتمالية تعرض شخص عزيز علينا للخطر والاذى، فتأثرُنا باحتمالية اصابة هذا الشخص العزيزيُماثل احتمالية حصول مأساة حقيقية لشخصية تُشابه وتُماثل آنا كارينيا، ومن هنا تبرز أولى ملامح العلاقة الجدلية بين الحكايتين الحقيقية والمتخيلة.
ثم ينتقل إيكو للتساؤل عن سبب تعاطف القراء مثلًا مع مأساة آنا كارينيا وعدم تعاطفهم بذات القدر مع مأساة سكارليت أوهارا بطلة رواية “ذهب مع الريح” لمارغريت ميتشل، والسبب في ذلك لا يعود ـ من وجهة نظره ـ لكون سكارليت أوهارا امرأة لعوب وأنانية وعلى قدر من الخبثفقط وإنما لأن الرواية أيضًا لم تكن تهدف لاستدار دموع الجمهور حول هذه الشخصية كما هو حال آنا كارينيا. فالعمل الفني يملك أدوات وأسباب التأثير البالغ في القراء إن شاء الكاتب تحقيق ذلك. ولكن هل يعني ذلك أن راوي القصة الحقيقية أو المؤرخ يكون مجردًا من وسائل التأثير في القراء أو أن ما يكتبه يكون بريئًا من كُل قصد للتأثير؟الجواب هو قطعًا لا ولكن راوي القصة الحقيقية والمؤرخ يكون مُقيدًا في تعبيره ويسعى للالتزام بتفاصيل القصة التي يدعي ويزعم واقعيتها، ويشير بول ريكور في هذا الجانب إلى أن ما يميز النص التاريخي عن أي سرد أدبيهو كون هذا النص خاضعٌ للتأريخ الرقمي وموثقًا تواريخ الأحداث بشكل تسلسلي وتام، والأمر الآخر أن هذا النص غالبًا ما يكون مدعومًا بالآراشيف والوثائق التي يحشدها الكاتب ليثبت مصداقية قصته، في حين يكون الأديب متحررًا من هذه الالتزامات.
وعلى صعيدٍ آخر فإن إحكام الروائي لحبكته وتحقيقه درجة عالية من الإيهام بواقعيتها يجعل كثيرًا من القراء يتوهمون صحة وقوع أحداثها، ولهذا يشير إيكو لكثرة الرسائل التي تلقاها من القراء بعد نشر روايته ذائعة الصيت “اسم الوردة” يزعمون فيها أنهم وجدوا أو زاروا الدير الذي جرت فيه أحداث الرواية ومنهم من يطلب معلوماتٍ أكثر عن المخطوطة التي زعم الروائي أنه وجدها ونقل مضمونها في روايته، ويعقب أيكو على ذلك بالقول أنه لا يستغرب ورود مثل هذه الرسائل من قراء سُذج لا دراية كافية لهم بالأعراف الأدبية، ولكن ما أثار استغرابه هو ورود رسائل من اشخاص يبدو أنهم على قدرٍ من الثقافة والإلمامبأصول وقواعد الكتابة الأدبية، يذكر فيها أحدهم أنه قد زار المتجر الذي اشترى منه إيكو المخطوطة!
ويخلص إيكو للقول إن الكثيرين غير قادرين على التمييز بين الواقعي والمتخيل، وأنهم ينظرون بجدية للشخصيات والاحداث المتخيلة كما لو أنها حقيقية، ما دامت تجري في حدود الممكن والواقعي.
وكما إن القصة المتخيلة تقترب من الحقيقية في واقعيتها حتى لا تكاد تُميز بين الأثنين، فإن القصص الحقيقية بدورها تقترب من المتخيلة في اتقان حبكتها حتى لتبدو عملا أدبيًا متكاملًا مثيرًا للانتباه. ولنا في قصة ماري انطوانيت (1755 ـ 1793) مثالًا واضحًا لما ذكرنا فأوروبا التي قد اثقلتها الحروب الطويلة بين آل هابسبورغ وآل بوربون في كل من المانيا وإيطاليا وهولندا قد وجدت فسحة من الأمل بقرار العائلتين طي صفحة الصراع وإتمام السلام بينهما بمصاهرة تدشن العلاقة الجديدة بين الطرفين، واختيرت الأميرة ماري انطوانيت ذات الأحد عشر ربيعًا لتكون زوجة للأمير الشاب لويس السادس عشر وريث العرش الفرنسي، ويبدو أن القدر الذي اختار الأميرة الصغيرة لتضطلع بهذا الدور التاريخي الذي اعقبه صعود درامي كان يُخبئ لها سقوطًا مدويًا، إذ سرعان ما ستنقلب الأوضاع بعد تبوء زوجها للعرش وتندلع الثورة الفرنسية التي اطاحت بسلطة آل بوربون.
وكانت انطوانيت في مقدمة الشخوص الذين استهدفتهم الثورة، ووجهت إليهم سهامها، فوصفت بالذئبة النمساوية واتهمت باتهامات عديدة ليس اقلها اتهامها بممارسة زنا المحارم مع طفلها الصغير، وأُعدمت في نهاية المطاف عام 1793، ولكن بعد عودة الملكية المؤقتة عام 1815 جرى إعادة رسم صورة الملكة الراحلة في الأذهان ولكن هذه المرة بوصفها الأميرة البريئة والنقية التي راحت ضحية طغيان الموتورين، ويشير أحد كُتّاب سيرتها وهو الكاتب والروائي الألماني ستيفان سفايغ إلى أن انطوانيت لم تكن “قديسة” الملكية ولا “عاهرة” الثورة، وأنها في كل مراحل حياتها لم تتجاوز القدر المعقول من التصرف خيرًا أو شرًا.
ولكن ما لفت نظره في سيرتها هو روعة الحبكة وتسلسل الأحداث فانبهر ـ وهو الروائي المُتمكن من صنعته ـ بهذه السيرة الاستثنائية وكتب في مقدمتها متعجبًا “يا للفن، ويالعبقرية تسلسل المراحل، ويا للمسرح الفسيح الذي بنى فيه التاريخ هذه الدراما”.
ومن جهة ثانية لا نعدم أن نجد أمثلة موازية في تاريخنا العربي لشخصياتٍ عاشت حياة استثنائية وملحمية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قصة الأمير الأموي الشاب عبد الرحمن الداخل “صقر قريش”، الذي خاض غمار رحلة استثنائية في طلب المجد والسلطة فخرج هاربًا من الجزيرة السورية صوب دمشق ففلسطين ومنها لصحراء سيناء فالمغرب العربي ليحط رحاله في الأندلس جامعًا شتات أنصار الأمويين وليُدشن عهدًا جديدًا في الأندلس لم يكن له زادٌ فيه سوى شجاعته وإرادته وسيفه.
ولا شك في أن هذا النجاح الصعب قد سُبق بمراحل عديدة من الصعود والهبوط في سيرة الداخل، وكأنها تمثيل واقعي لعمل أدبي ملحمي، وهكذا تقترب الحكاية الحقيقية من المتخيلة في ملحميتها واستثنائية أحداثها.
وهنا يُمكن أن يُطرح تساؤل مشروع؛ هل تخلو القصص التي ندعوها بالقصص الحقيقية والتي تمثل سير شخصيات فنية وأدبية وعسكرية وعلمية من تسلل لبعض اللمسات الفنية التي أسهمت في إعادة صياغة بعض جوانبها؟ وإن الجواب على هذا التساؤل في عموميتهيمكن أن يكون بالإيجاب، ونستحضر هنا المقولة العربية القديمة والمتداولة في هذا الشأن “ما آفة الأخبار إلا رواتها” فنادرًا ما تخلو قصص العِظام وسيرهم من جانب المبالغة والأسطرة رغم أن القصة بحد ذاتها وبدون أي إضافات تبدو ملحمية واستثنائية، وفي هذا الإطار ينقل فرويد في مؤلفه “موسى والتوحيد” عن أ. رانك قوله في بحثه “أسطورة ميلاد البطل”، إن جميع الشعوب المتمدنة وبلا استثناءٍ تقريبًا وفي سعيها لتخليد ذكرى أبطالها وملوكها وعظمائها راحت تسبغ على تاريخ ميلادهم وفترات حداثتهم ملامح خارقة، تكريسًا لاستثنائية وريادة هذه الشخصيات، ومما آثار انتباه الباحثين في هذا المجال هو التطابق المذهل بين هذه القصص لدى شعوب متباينة تفصل بينها مسافات شاسعة جدًا.
هذا القول يكشف لنا مُعطيات عديدة يمكن أن تُسهم في تسليط الضوء على جوانب مختلفة من موضوعنا، وتتمثلبشمولية الاضافات والمبالغات في سير العِظام وبأثر رجعي لتشمل ساعة الولادة غير الطبيعية فضلًا عن النشأة الاستثنائية، والأمر الآخر هو كون هذه الإضافات عامة وشاملة حتى تكاد تكون سمة إنسانية شائعة وعابرة للأعراق والأديان والثقافات المتباينة والمنقطعة عن بعضها البعض.
وبهذا تتضح بعض أُطر العلاقة المتشابكة بين القصة الحقيقية ونظيرتها المتخيلة، عبر اقتراب القصة المتخيلة من الواقع بتحقيقها درجة عالية من الإيهام بالواقعية من جهة، وعبر تسرب مُعطيات وتفاصيل متخيلة للقصص الواقعية لتمثل لمساتٍ فنية تجميلية لهذه القصص من جهة ثانية.