23 ديسمبر، 2024 6:56 م

جدل الأغلبية والشراكة بين الفرقاء

جدل الأغلبية والشراكة بين الفرقاء

ما ان وضعت “معركة” الانتخابات البرلمانية العراقية اوزارها حتى راح الفرقاء السياسيون يطرحون تصوراتهم وآراءهم بشأن صيغة تشكيل الحكومة المقبلة، ويمكن ان نسجل ابتداءً اربع سمات لذلك الجدل والسجال السياسي حول المرحلة المقبلة. السمة الاولى، ان ذلك السجال والجدل بدا حادا وانفعاليا منذ البداية، والسمة الثانية، التطرف في الاطروحات والمواقف، والسمة الثالثة، تداخل اشكاليات وسلبيات المرحلة -او المراحل السابقة- مع استحقاقات المرحلة المقبلة، اما السمة الرابعة فهي تذبذب مواقف بعض الكتل والكيانات السياسية وعدم تبنيها موقفا واضحا وثابتا بصرف النظر عن ما يمكن ان تجنيه من مكاسب وما يلحق بها من خسائر.
الفريق الذي يقول بمبدأ او خيار الاغلبية السياسية يتمثل بائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وبعض القوى المصطفة الى جانبه او التي ربما تصطف معه في مرحلة لاحقة.
ومن ابرز دواعي ومبررات تبني هذا الفريق خيار الاغلبية هو قوله بأن كل الاخفاقات والاشكاليات والخلل والضعف في اداء الدولة والحكومة خلال العشرة اعوام الماضية، كان سببه المحاصصة التي يرى انها كبلت الحكومة وجعلتها مرتهنة وخاضعة لاجندات ومصالح القوى السياسية المختلفة، والبديل بحسب وجهة نظر فريق “ائتلاف دولة القانون” يتمثل بتشكيل حكومة اغلبية سياسية تقوم على مبادئ احترام الدستور والالتزام به، والمحافظة على وحدة العراق، واقرار وتفعيل القوانين المعطلة والمعلقة مثل قانون النفط والغاز وقانون ترسيم الحدود الادارية بين المحافظات وقانون البنى التحتية، ويقول المالكي بهذا الشأن “ان تشكيل حكومة الاغلبية السياسية، امر كفيل بانتشال البلد من تعدد الازمات التي تسببها التقاطعات الحاصلة بين القوى والاحزاب السياسية، وهذا لا يعني تهميشا لمكون على اي خلفية قومية او طائفية، والكل سيشترك، إن مبدأَ الاغلبية السياسية لا يعني استبعاد مكون او مذهب او طائفة، وانما هو اتفاق على مبادئ وبرنامج يتم الالتزام به على اساس الدستور”.

ويمكن النظر الى الحكومة التي تصدت لزمام الامور خلال الاربعة اعوام الماضية، على انها حكومة شراكة –او محاصصة- بحكم وجود الاكراد والسنة وبعض قوى المكون الشيعي فيها، وفي ذات الوقت يمكن النظر اليها على انها حكومة اغلبية من الناحية الواقعية، خصوصا على ضوء الاصطفافات والتحالفات التي تبلورت قبل انتخابات الثلاثين من نيسان-ابريل الماضي، لان اغلب الوزراء هم اما من قوى ائتلاف دولة القانون او القريبين منها جدا، اضافة الى عدم مشاركة قوى اساسية في تلك الحكومة مثل المجلس الاعلى الاسلامي العراقي وتيار الاصلاح الوطني، وحركة التغيير (كوران) الكردية وغيرها.

الفريق الاخر الذي يدعو ويتبنى تشكيل حكومة شراكة تستند على قاعدة تمثيل واسعة تستوعب كل المكونات والعناوين ويكون لها برنامج عمل واضح ومتفق عليه وقابل للتطبيق، هذا الفريق يتمثل بالمجلس الاعلى الاسلامي العراقي (ائتلاف المواطن)، والقوى الكردية، لا سيما الحزبين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني بزعامة جلال الطالباني الغائب عن المشهد منذ عام ونصف العام بسبب المرض، ومعهما حركة التغيير بزعامة نوشيروان مصطفى، والتيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، وتيار الاصلاح الوطني بزعامة رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري، الى جانب قوى سياسية سنية.

هذه القوى- وان كان البعض منها قد اشترك في حكومة 2010 برئاسة المالكي- ترى ان العراق يحتاج في المرحلة المقبلة الى حكومة شراكة وطنية حقيقية، تضع حدا لسياسات الاقصاء والتهميش التي مارسها المالكي وائتلافه الحاكم، واكثر من ذلك فإنها تفصح صراحة عن رفضها تولي المالكي ولاية ثالثة، وهذا الرفض هو في الواقع يمثل الوجه الاخر لرفض خيار ائتلاف دولة القانون بتشكيل حكومة اغلبية سياسية.
ورغم وجود قدر من التباين بين مواقف تلك القوى الا انها تلتقي وتتفق على نقاط عامة وجوهرية.

فرئيس المجلس الاعلى وزعيم ائتلاف المواطن، يقول “ان البعض يقول حكومة اغلبية سياسية، والبعض يقول حكومة شراكة وتوافقية، ونحن نقول المهم ان يكون فريقاً متجانساً برؤية موحدة، وان يكون فريق عمل متصالحاً مع بعضه البعض، فليس المهم اغلبية او شراكة، المهم ان يكون لدينا مشروع نتفق عليه وخطة عمل واضحة وصلاحيات محددة وإرادة حقيقية”.

اما رئيس اقليم كردستان فيشدد على خيار الشراكة ويؤكد ان البلد لا يمكن ان يدار من دون الشراكة، ويهدد انه بغياب الشراكة فإن الاكراد سيتجهون الى الانفصال، ويقول في لقاء له مع مبعوثة الاتحاد الاوروبي السفيرة يانا هايباسكوفا والسفراء المعتمدين لدول الاتحاد الاوروبي لدى العراق “ان الانتخابات تمثل الفرصة الأخيرة للعراق، فإذا طبقت الشراكة الحقيقية على أرض الواقع فهناك أمل أن نبقى معاً، وانه لا بد من تطبيق الشراكة الحقيقة عمليا لمشاركة اقليم كردستان في الحكومة العراقية المقبلة، ولا بد من تطبيق الدستور العراقي ليشعر المواطنون في العراق بأنهم مشاركون في الحياة السياسية”.

بينما يصرح رئيس مجلس النواب وزعيم ائتلاف متحدون للاصلاح، انه سيتعامل مع الجميع الا رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي.

   ويتحدث التيار الصدري من خلال عدد من شخصياته بنفس الاتجاه الرافض لتولي المالكي ولاية ثالثة، وهكذا بالنسبة للاطراف الاخرى في هذا الفريق.

ولعل التدقيق في المواقف والتوجهات المشار اليها يوضح ان البعض يؤكد على اهمية تشكيل الفريق المنسجم والمتجانس وفق رؤية واضحة ومحددة، سواء في اطار مبدأ الاغلبية او الشراكة، والبعض الاخر يهمه تلبية مطالبه، وضمان مشاركته ودوره في الحكومة المقبلة، والبعض الثالث، تتمثل اولويته في رفض شخص المالكي ابتداء.

ورغم ذلك التباين والتفاوت الا ان الاتفاق والتوافق على ضرورة اجراء تغييرات حقيقية في منهج ادارة الدولة خلال المرحلة المقبلة، ربما بدا السمة الابرز، مع الاختلاف في الاليات والسياقات التفصيلية، وحتى المالكي نفسه يقر بضرورة اجراء التغييرات.

ويبقى التساؤل المطروح بقوة.. الى ماذا سيفضي ذلك الجدل والسجال بشأن الاغلبية والشراكة؟.

   لا شك ان الرغبات والحسابات والطموحات الخاصة بكل طرف شيء، والواقعيات السياسية شيء اخر. ولعل الاخيرة هي التي تفرض نفسها في النهاية من خلال التوفيق بين الرغبات والحسابات والطموحات المتقاطعة، وتجسير الرؤى والاطروحات المفترقة بالكامل في بعض الاحيان.

   عاملان قد يحولان دون المضي بخيار الاغلبية السياسية، الاول عدم تمكن اي كتلة من الحصول على عدد كبير من مقاعد البرلمان يتيح لها التحرك بقوة من دون الحاجة الى اطراف اخرى قوية ايضا، لتشكيل حكومة اغلبية، فائتلاف دولة القانون حتى وان حصل في افضل الاحوال على مائة مقعد فإنه يبقى بحاجة الى اكثر من ستين مقعدا لاجل المضي في خيار الاغلبية، ويحتاج الى التفاهم والتوافق مع الاخرين على من يتولى منصب رئيس الجمهورية وكذلك منصب رئيس البرلمان.

والعامل الثاني يتمثل في تعقيدات المشهد العام، وطبيعة النسيج الاجتماعي العراقي المتشكل من عناوين قومية ومذهبية وطائفية متعددة، الذي يفرض ان يكون هناك تمثيل حقيقي لكل المكونات في ادارة الدولة اذا ما اريد تجاوز المشاكل والازمات الراهنة، ولعل رئيس الوزراء نوري المالكي طرح في كلمته الاسبوعية المتلفزة يوم الاربعاء قبل الماضي مفهوما مختلفا لحكومة الاغلبية بدا قريبا جدا من الواقع القائم على الارض، وبدا متطابقا مع ما ينادي به خصومه ومنافسوه والساعون الى قطع الطريق عنه امام ولاية ثالثة. وهذا المفهوم الجديد المطروح من قبل المالكي، يعكس في جانب منه ادراك الاخير لصعوبة-او استحالة-العمل بمبدأ الاغلبية كما هو متعارف عليه في ظل الانظمة الديمقراطية المستقرة التي لا تواجه ما يواجهه العراق من مشاكل وتحديات داخلية وخارجية، واحتقانات وتصادمات حادة بين فرقائه السياسيين.

ائتلاف دولة القانون اذا قرر السير في ما يراه ويريده فإن ذلك يعني استمرار مسلسل المشاكل والازمات، ودوامة الصراع العقيم بين الفرقاء، هذا في حال تمكن من تشكيل حكومة اغلبية، في ذات الوقت فإن خصوم ائتلاف دولة القانون في حال اصروا على ما يطرحونه فلربما يصطدمون بخيارات صعبة ومعقدة.

اغلب الظن، ان العراق بظروفه واوضاعه الحالية لا يمكن له يغادر صيغة الديمقراطية التوافقية التي يتم الاخذ بها خلال المراحل الانتقالية والقلقة، وفي البلدان والمجتمعات ذات الهويات القومية والدينية والمذهبية والطائفية المتعددة، ومع ما فيها من اشكاليات فإنها يمكن ان تأتي بنتائج طيبة بوجود الرؤى والتوجهات والمنطلقات الصحيحة مع النيات السليمة.

قد يتمنع البعض، وقد يذهب البعض الاخر الى تجريب هذا الخيار او ذاك، الا ان الجميع سيجدون انفسهم في نهاية المطاف ملزمين بالتفاهم والتوافق، وتطويق واحتواء القدر المعقول والممكن من الاختلافات والخلافات والتقاطعات.
وربما يحتاج الساسة العراقيون الى تسعة شهور لذلك، كما حصل قبل اربعة اعوام، وربما يحتاجون الى اكثر من ذلك!.