18 ديسمبر، 2024 7:08 م

جدلية المفكر والأديب: علي المؤمن أنموذجاً

جدلية المفكر والأديب: علي المؤمن أنموذجاً

رغم معرفتي الطويلة بالدكتور علي المؤمن، وعملنا المشترك في أكثر من مشروع بحثي وإعلامي في لبنان والعراق، ولا سيما حين كنت معاوناً له في “مركز دراسات المشرق العربي” و”المجموعة الدولية للدراسات والإعلام” في بيروت؛ لم کن أتوقع أن الدكتور علي المؤمن سيفاجئنا بکتابة قصة أو رواية أو نظم شعر، وذلك قبل أن أطّلع على روايته «عروس الفرات»، ولم أكن أعرف أن له مساهمات محدودة في القصة القصيرة والشعر؛ فقد عرفناه مفكراً وباحثاً ورئیس تحریر ومديراً ناجحاً، مهتماً بالشأن الثقافي والإعلامي والسياسي والفکري.
صحيح أن مبادرة السيد المؤمن لكتابة «عروس الفرات» تمثل إضافة جدیدة له، لکنها ــ من وجهة نظري ــ إضافة کمیة لا ترقی الی مستوی کتاباته في الشأن الثقافي والفکري والقانوني. ولا نرید هنا إعادة طرح السجال حول إمکانیة خوض الکاتب في كل أنواع الكتابة، وأن یکون له انتاجاً في مختلف حقول المعرفة، لأن سمة التخصص التي سادت في مجال الکتابة والمعارف، أغلقت باب هذا السجال، ولم یعد للکاتب الموسوعي المکانة التي کان یحتلها في السابق، حين كانت العلوم متشابكة ومحدودة.
ربما كانت ظاهرة الكاتب الموسوعي أو المبدع الموسوعي، الذي يكتب الرواية والشعر والسيرة والأنساب والتاريخ والسياسة والكلام والفقه والفلسفة والرياضيات والطب والهندسة والموسيقى، شائعة ومتعارفة وناجحة في الأوساط العربية والإسلامية خلال العصور السابقة، وخاصة في العصر العباسي، ونماذجها الأبرز البيروني والفارابي وابن سينا، إلّا أن توسع العلوم والمعارف وتعمقها في التفاصيل ثم تفاصيل التفاصيل، جعل من الصعوبة، بل المستحيل، استمرار هذه الظاهرة، لأن لكل حقل من هذه الحقول بات فيه تخصصات فرعية، وكل تخصص فرعي باتت فيه فروع دقيقة كثيرة. ولذلك؛ أصبح هناك فصل حاسم بين الاشتغال في حقل العلوم الإنسانية من جهة، وحقل العلوم البحته من جهة أخرى، والتجريبية والتطبيقية من جهة ثالثة، ولم يعد هناك من يجمع بينهما في نتاجاته. ثم تطور الأمر الى الفصل بين العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية نفسها، وبات لكل حقل إنساني واجتماعي تخصصات فرعية أيضاً.
وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، ظهر موسوعيون كبار في العلوم الإنسانية؛ فكان هناك أدباء فقهاء، وقاصون مفكرون، وشعراء متكلمون، سواء في الأوساط العلمية والثقافية العربية والإسلامية، وخاصة في العراق ومصر وايران والهند، أو في الأوساط العلمية والثقافية الأوربية، ولاسيما في فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وقد عززوا حضورهم المعرفي والثقافي من خلال النتاجات الموسوعية التي جمعت بين العلم والفكر والأدب والشعر. ورغم ما كان يتمتع به هؤلاء الكتّاب الموسوعيون من ذكاء حاد وعبقرية وقدرة على التفكير في أكثر من علم في وقت واحد، إلّا أنهم ـــ في النتيجة ـــ أضاعوا فرصة التخصص الدقيق، لأن الاشتغال على أكثر من حقل معرفي، يتسبب في تشتيت جهد الكاتب، وفقدانه قدرة التركيز والابداع في حقل محدد. وبالطبع لانقصد بالكتّاب الموسوعيين هنا الظاهرة التي برزت في أوروبا خلال ما عرف بعصر النهضة، بل نقصد المعنى العام للمصطلح.
والذي يؤكد تكريس حالة النزوع نحو التخصص في أوساطنا، ما شهدناه خلال العقود الخمسة الأخيرة من ابتعاد علماء الدين والمفكرين الإسلاميين عن حقول الأدب والشعر والخطابة، بمن فيهم من يجيد هذه الحقول ويبدع فيها، بل ظل علماء الدين الشعراء يتجنبون نشر أشعارهم بأسمائهم الحقيقية، كي لا يوصفون بالشعراء، وكذا يتجنبون الخطابة المنبرية كي لا يقال عنهم خطباء. وبغض النظر عن صواب أو عدم صواب هذه النظرة؛ إلّا أنها قد تكون موضوعية إذا كان فيها انحياز لمبدأ التخصص، ولم تكن استنكافاً وتقاعساً عن ممارسة المسؤولية الاجتماعية الدينية.
لقد سمعت من السيد المؤمن مسوغاته بشأن العبور على قاعدة التخصص، ودوافعه لکتابة «عروس الفرات» ونشرها، بعد أن عرضها عليّ قبل طباعتها، وهي مسوغات ودافع موضوعية جديرة بالتأمل، أهمها حجم تأثير الرواية في النفوس وسهولة قراءتها وسرعة انتشار مضامينها وأفكارها، وإمكانية تحويلها الى عمل درامي وسينمائي، وهي ميزات لاتتوافر في الكتاب الفكري والتاريخي والسياسي. ويذهب الأستاذ المؤمن الى أن رواية «عروس الفرات» هي المظهر الروائي الأدبي لكتابه «سنوات الجمر»، وخاصة السنوات الأربع الأكثر التهاباً التي مرت على العراق والنجف، أي من 1979 وحتى 1982، وهي السنوات التي روت عروس الفرات وقائعها الموجعة والكبيرة، وهو السر الذي اكتشفه بعض النقاد أيضاً، ومنهم الدكتورة أمل الأسدي والدكتور ميثم حاتم والسيد محمد الموسوي، وفق ما اطلعت عليه في كتاباتهم التقويمية والنقدية حول رواية «عروس الفرات».
حين أطلعني الدكتور علي المؤمن على رواية «عروس الفرات» قبل طباعتها؛ تعزّزت قناعتي بأن يكتفي بهذه المغامرة، وإن كانت ستتكلل بالنجاح، بفضل الله وحسن نية الكاتب والجهد الذي بذله، وعدم تكرارها، وأن يتمسك بمبدأ التخصص، لأن المفكر والباحث الناجح في الشأن الفکري، یصعب علیه أن يوازن بين الفكر والرواية في عصر التخصص، مع كل ما رأيته من أهمية للرواية، حتى في الجانب الفني، فضلاً عن الجانب التوثيقي التاريخي.
ربما تكون رواية «عروس الفرات» بذاتها استثناءً نسبياً من قاعدة التخصص، من خلال لغتها الإبداعية العذبة ومنهجها الروائي الاحترافي، وكأنّ علي المؤمن كتب قبلها عشر روايات؛ لكني أرى أن النوازع النفسية للدكتور المؤمن هي التي كتبت الرواية، وليس قلمه، كونه جزءاً من الرواية، ومعايشاً لتراجيدياتها وأحدائها الكبيرة، وهذا هو السبب الأساس في سرديتها الإبداعية وصورها المدهشة.
وبما أن هذه الرواية تمثل استثناءً من القاعدة، كما ذكرنا؛ فليس من الضروري أن يكون الدكتور المؤمن روائياً ناجحاً بعد «عروس الفرات»، وأن يكتب روايات أخرى من خارج واقعه النفسي، تكون بالمستوى الأدبي نفسه، خاصة وأنه أطلعني على مسودتي روايتين أخريين، إحداهما بعنوان «وداعا رافائيل»، وهي رواية سياسية تدور أحداثها في إحدى دول أمريكا الجنوبية في سبعينات القرن الماضي، والأُخرى عنوانها «بقايا زينب»، وهي رواية سياسية اجتماعية تاريخية مثيرة، تدور أحداثها في العراق في الفترة من 1968 الى 2004. وقد وجدت في رواية «بقايا زينب» إبداعاً جديداً مختلفاً، لأنها تمثل أيضاً الواقع الذي عاش الدكتور علي المؤمن تفاصيله، أي أنه ـــ كما في «عروس الفرات» ـــ جزءاً من الرواية وأحداثها، ولذلك؛ أرى أن مغامرته الثانية ربما ستتكلل بالنجاح أيضاً، لكن هذا لايعني دفعاً له باتجاه الاستمرار في خوض مغامرات الخروج على التخصص. أما رواية «وداعا رافائيل»، فقد كان رأيي فيها سلبياً، لأنها لاتمت إليه وإلى فكره وواقعه ومناخاته الاجتماعية والسياسية بصله، ولايمكن أن يعيش النوازع النفسية والعقدية الحقيقية لأبطالها وشخوصها، ولذلك؛ تمنيت عليه أن لايحررها وينشرها.
لانزال ننتظر من مفكرنا وباحثنا الكبير السيد علي المؤمن المزيد من العطاء في مجالات تجديد الفكر السياسي الإسلامي وبعث الهوية الإسلامية الأصيلة وإعادة كتابة التاريخ السياسي المعاصر للعراق والمنطقة والاجتماع السياسي والديني والثقافي الشيعي، وهي مجالات تكمل بعضها في الموضوع، وتسير باتجاه الاهداف نفسها. والله الموفق.