# مقدمة: سنن التاريخ ومنطق القوة في المعادلة السياسية
حقائق التاريخ وسنن الاجتماع البشري تؤكد أن بقاء الاقوام و الأمم مرهون بقدرتها على امتلاك عناصر القوة والهيبة؛ فالعالم محكوم بمعادلة بسيطة وصارمة: من لا يمتلك القوة يُهزم، ومن لا يحمي مصالحه يُستباح… ؛ لم يكن هذا مجرد قانون سياسي وضعي، بل هو سنة كونية نصّت عليها الشريعة الإسلامية نفسها، حين أجازت للمسلمين خيار الصلح والتقية والسكوت متى ما كانت كفّة العدو أرجح، لأن المواجهة غير المتكافئة لا تنتهي إلا بمجزرة للضعفاء وتشويه لوجه الحق نفسه… ؛ ولهذا قيل قديمًا: لا تتكلم بالحق من موقع ضعف … ؛ فإنك تضعفه وتفقده مهابته… ؛ فالأصل الأول في حركة الإنسان والمجتمع هو حفظ النفس والمال، ولا سيما إذا كان الخصم قوياً متفوقاً… ؛ ولهذا لم تُجز الشريعة للمسلم مواجهة العدو إلا بعد إعداد العدّة والعدد، وتكوين قوة موازية، تضمن تكافؤ الصراع وإمكانية النصر… ؛ أما حين يكون ميزان القوى مختلاً اختلالاً بيّناً، فإن الشريعة لا تدعو إلى المواجهة العبثية، بل تأمر بالسكوت أو الصلح ؛ أوالالتزام بالتقية التي شُرعت لحفظ دماء المؤمنين الضعفاء من بطش الكفار الأقوياء … ؛ لان النتيجة محسومة سلفاً لصالح الطرف الأقوى، ولن تصبّ في مصلحة الحق أو الضعفاء… ؛ ولعل أصدق التعبيرات عن هذه السنن ما انشده الشاعر :
اقتضت نواميس الكون أن لا يعيش الضعفاء*** ان من كان ضعيفاً أكلته الأقوياء.
نعم تشير السنن التاريخية والقوانين الواقعية – بل والمبادئ الشرعية والعقلانية – إلى حتمية مراعاة موازين القوة في الصراعات السياسية… ؛ فالحفاظ على الأرواح والمكتسبات يظل الأولوية القصوى، خاصة عند مواجهة خصومٍ يمتلكون تفوقاً مادياً واستراتيجياً… ؛ اذ لا تدعو الحكمةُ السياسية ولا الشريعةُ الإسلامية إلى التصادم المباشر مع القوى الكبرى إلا بعد تحقيق شروط الموازنة: من تجهيز العُدّة، وتكوين القوة الرادعة، وبناء التحالفات الضرورية … الخ ؛ وفي غياب هذه الشروط، يصبح اللجوء إلى الحلول السلمية أو “التقية” الاستراتيجية (كمفهومٍ للحفاظ على الكيانات الهشة) خياراً إلزامياً يحفظ النفوس والحقوق من الإبادة والنهب , كما اسلفنا .
# الشواهد التاريخية : كربلاء وما بعدها .. التقية من موقع الحكمة
إنّ مَن يتأمل التاريخ الإسلامي، وبالأخص ما بعد واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين وأصحابه، وانتصار الجيش الأموي الجرّار … ؛ يجد أن أئمة آل البيت – الذين يمثلون قمة الوعي والحكمة – لم ينخرطوا في مغامرات عسكرية , و لم يخرج أحدٌ منهم بثورة … ؛ لأنهم كانوا يعلمون أن ميزان القوة مختل تمامًا لصالح بني أمية وبني العباس من بعدهم… ؛ ولذا شرعوا بمبدأ التقية لا باعتباره جبنًا أو تراجعًا، بل وسيلة لحماية ما تبقى من وجود الجماعة الشيعية الناشئة، بانتظار الظرف التاريخي المواتي …؛ وكان هذا الالتزام نابعاً من يقينهم بعدم التوازن في موازين القوة، بل وانعدام المقارنة بين الجبهتين ؛ حتى في العقيدة المهدوية، رُبط خروج الإمام المهدي بامتلاك العدة والعدد والقوة القاهرة ؛ فضلاً عن التأييد الإلهي، ليهزم أعداءه ويقيم دولة العدل … ؛ أي أن الشرط الأول لأي نهوض هو التكافؤ في القوة وليس الاندفاع العاطفي أو الشعارات و الثورات غير المحسوبة.
# ثورات مُجهضة وإرث من المرارة:
على الرغم من هذه القناعة التاريخية، اندفع الشيعة في مختلف أنحاء العالم، بدوافع العاطفة والحماسة أحياناً، إلى خوض ثورات وانتفاضات ضد الحكام والدول عبر التاريخ الطويل ؛ لكن الغالبية العظمى من هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع وقُمعت بعنف , وتسببت بمجازر ومشكلات عويصة ، مما خلّف آثاراً سلبية عميقة على أوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية …؛ وانعكس سلباً على وجودهم وحياتهم … ؛ وعزز من كراهية الحكام لهم وتهميشهم المتواصل من قبل الحكومات المتعاقبة… ؛ حتى غدت دماؤهم رخيصة في حسابات السياسة … ؛ بسبب عدم مراعاة معادلة القوة والاحتكام للسياسة الواقعية ، مما عمّق من تهميشهم وأتاح للحكام ذريعة لقمعهم كما اسلفنا … ؛ ومع ذلك، شهد التاريخ لحظات نجاح لافتة حين التزمت بعض الكيانات الشيعية بمنطق القوة والسنن التاريخية، فأسست إمبراطوريات ودولاً قوية… ؛ وهذا يؤكد أن المعيار في صحة الفعل الجمعي السياسي يكمن في اتباع قواعد القوة ومراعاة الحكمة والدهاء والحنكة السياسية … ؛ وليس الانفعالات العاطفية والتحركات الشعبوية الاعتباطية والشعارات المجردة .
# العصر الحديث: الفشل المتكرر والاستثناء الإيراني
لم يختلف واقع الشيعة في العصر الحديث كثيراً عن تاريخهم؛ فغالبية ثوراتهم وحركاتهم السياسية انتهت بالفشل، والثورة الوحيدة التي نجحت كانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، لأنها انطلقت من مشروع جامع، وترافقت مع ظرف تاريخي مواتٍ، وقوة شعبية وتنظيمية هائلة… ؛ والتزمت بمنطق القوة والتكتيك الاستراتيجي…؛ ، فضلًا عن القيادة الدينية الحكيمة والكاريزمية ؛ و هذه التجربة الناجحة أكدت أن الجمع بين العقيدة والقدرة الواقعية هو ما يضمن البقاء والاستمرار.
# مأزق الولاءات الخارجية وثمن التضحيات والتحديات الداخلية :
ومع ذلك، ظلّت الشعارات الطوباوية والانفعالات العاطفية تجر الشيعة إلى ساحات صراع أكبر من حجمهم… ؛ فقدموا آلاف الضحايا في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن وغيرها ، دفاعًا عن قضايا رفعوها بصدق وإخلاص، لكن المقابل كان الجفاء والنكران من خصومهم التاريخيين الذين لم يترددوا في رفع صور صدام في شوارع غزة، وبلغ الأمر أن شارك كثيرون منهم في العمليات الإرهابية داخل العراق بعد 2003، لاسيما العرب والفلسطينيين الذين قَدِموا تحت غطاء “الجهاد”… ؛ و هذه المفارقة المرة تكشف أن الدماء الشيعية أُريقت في قضايا ليست قضاياهم، وأن المحصلة النهائية لم تكن إلا الخسائر والمزيد من الاستنزاف.
فالإصرار الشيعي – البعض – على الاندفاع خلف القضايا العربية والإسلامية، كفلسطين وسوريا ولبنان وغيرها ، جعلهم يدفعون أثمانًا باهظة… ؛ فقد قدموا الدماء والدعم، لكنهم جوبهوا من مجتمعات سنية وعربية بالجفاء ونكران الجميل، بل أحيانًا بالاستهزاء والتكفير… كما اسلفنا … ؛ فرغم تضحيات الشيعة الجسام، قوبلوا بالجحود والاتهامات الطائفية حتى من قبل من دُعموا… ؛ وهذا يؤكد حقيقةً مريرة: أن البيئات المذهبية تنتج أحزاباً وهُويّاتٍ وجماعات وقواعد شعبية متصارعةً جوهرياً، حيث يختلف “المقدّس” و”المارق” بين طرفٍ وآخر، لتنتهي الصراعات دوماً في مستنقع الطائفية الاسن .
إنّ مأساة الشيعة – بل مأساة الأمة العراقية برمتها – أنها غالبًا ما زُجت في صراعات الآخرين، من ثورة العشرين التي دفعتهم لمواجهة الإمبراطورية البريطانية العظمى بلا عُدّة ولا سند، إلى الانخراط في “محور المقاومة” الذي قادهم إلى صراع مفتوح مع الولايات المتحدة وإسرائيل، في وقت لم تكن فيه موازين القوى تسمح لهم إلا بخيارات تكتيكية محدودة… ؛ وهنا يتكرر السؤال التاريخي: هل يجوز لجماعة أو أمة أن تدخل حربًا أكبر من حجمها، ثم تستغرب نزول الكوارث عليها؟!
# الطائفية: مأزق التاريخ والمصير
نعم هذه الوقائع والاحداث تكشف حقيقة واقعية : أن الأحزاب الدينية في المنطقة تنشأ محمّلة بتراثها المذهبي، فلا يلتقي مشروع سني بآخر شيعي إلا في لحظة عابرة من التكتيك السياسي السطحي ، سرعان ما تنتهي إلى صدام… ؛ فما يراه الشيعي في التاريخ “طغياناً” يعدّه الآخر “مقدساً”، والعكس صحيح… ؛ ومن هنا، مهما دارت الأحداث، فإنها غالباً ما تنتهي إلى مربع الطائفية والتحجر الفقهي والتقوقع العقدي … ؛ وهذا التناقض يكشف حقيقة جوهرية: ان كل جماعة دينية أو مذهبية تؤسس أحزابها في بيئتها الخاصة، وتحمل رموزها ومقولاتها التاريخية التي لا تلتقي غالبًا مع الأخرى، مما يعيد إنتاج الطائفية بشكل متواصل…, كما اسلفنا .
ويبرز هنا إشكالٌ مركزي: هل من المعقول أن يبذل الشيعي دمه دفاعاً عن قضايا يتبناها شركاء وطنيون أو إقليميون ينظرون إليه بعين الشك والريبة، ويتعاملون معه على أساس طائفي مشحون بالكراهية؟
فالتجربة مع القضية الفلسطينية، مثلاً، تُظهر تناقضاً صارخاً: فعلى الرغم من الدعم اللامحدود والتضحيات الجسيمة التي قدمها الشيعة (في لبنان والعراق وايران واليمن وسوريا وغيرها) عبر عقود، ووقوع شهداء كثر (كحالات استشهاد قادة بارزين)، قابلت قطاعات واسعة في المجتمعات السنية والعربية هذه المواقف بالجفاء ونكران الجميل، بل وصل الأمر إلى الاستهزاء ببعض الرموز الشيعية الداعمة… ؛ والأمر لا يقتصر على الخطاب، بل شمل أفعالاً كالاحتفاء بذكرى اعدام صدام في غزة وغيرها… ؛ برغم جرائمه بحق العراقيين الشيعة وغيرهم ، أو مشاركة مقاتلين عرب (منهم فلسطينيون) في عمليات إرهابية ضد المدنيين الشيعة في العراق بعد 2003… ؛ او خروج مظاهرات شعبية مؤيدة للبعثيين والحركات والعمليات الارهابية والطائفية ومنددة بالشيعة ورموزها الدينية وبالعملية السياسية الجديدة في العراق … الخ ؛ هذا السلوك ليس شاذاً بالضرورة، بل قد يعكس حقيقة عميقة: فالأحزاب والجماعات الدينية والشعبية تنشأ وتتحرك في سياقاتها المذهبية الخاصة، حاملةً رؤاها التاريخية والفقهية المتمايزة، والتي قد تصل إلى حد التصادم كما اسلفنا .
#تضحيات بلا مردود؟ تساؤلات مصيرية:
وعلى هذا الأساس، يبرز السؤال الجوهري والذي يعاد مرارا وتكرارا : هل أجدى نفعًا أن تُراق دماء الشيعة دفاعًا عن قضايا خارجية، بينما لم يحصدوا سوى مزيد من الأعداء والخسائر؟ الواقع يؤكد أن النتائج جاءت عكسية: سقوط أنظمة حليفة، صعود الجماعات الإرهابية، خسائر بشرية جسيمة، واستهداف مباشر للشيعة في كل مكان.
وهذه المعادلة المعقدة دفعت عقلاء الشيعة إلى التساؤل المر: هل الدماء الزكية التي أريقت في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها دفاعاً عن قضايا يُفترض أنها عربية أو إسلامية، ودموع الثكالى وصياح اليتامى … ؛ قدّمت فائدة حقيقية على الصعيد الإسلامي “الوحدوي” أو حتى الوطني؟
تشير الأدلة إلى أن النتائج كانت مخيبة للآمال في كثير من الأحيان… ؛ ففي سوريا، لم يُكتب للنظام أن يسقط بالكامل فحسب، بل فتح الباب لجماعات إرهابية عاثت فساداً، وسقط خلالها المئات من الشيعة وقادتهم، واستمرت الضربات تتوالى عليهم… ؛ وهذا لا يعني أن الشيعة كانوا سبب الأزمة، بل يؤكد أنهم خاضوا حروباً غير متكافئة، تفوق حجمهم وقدراتهم بكثير… ؛ مما دفع البعض من الشيعة إلى الدعوة للبراغماتية السياسية، بعيداً عن الشعارات العاطفية… الخ .
اذ يرى بعض المحللين أن انخراط الشيعة العميق في قضية سوريا -مثلا-، وهي ليست قضيتهم المركزية، كان مغامرة غير محسوبة بدقة… ؛ فبعد نجاحات تكتيكية محدودة، تسرّب الغرور لبعض الأطراف، فتصوروا امتلاكهم “مفاتيح الدنيا”، واختاروا خيار المواجهة المفتوحة مع الأقوياء، متجاهلين حجمهم الحقيقي وقدراتهم المحدودة، مما كبدهم خسائر فادحة ولا يزال يهدد وجودهم السياسي في أكثر من ساحة.
# الحاضر: بين محور المقاومة واستراتيجية الاستنزاف
انطلاقاً من هذا، خاض الشيعة في العراق ولبنان واليمن وسوريا وايران معارك متواصلة تحت عنوان “محور المقاومة”… ؛ اذ اختار محور المقاومة المواجهة المباشرة مع القوى الكبرى وحلفاءهم الإقليميين … ؛ صحيح أن تلك المواجهات منحتهم زخماً سياسياً مؤقتاً، لكنها زجّت بهم في حرب غير متكافئة مع القوى العظمى… ؛ ومنذ تلك اللحظة، قررت قوى الاستكبار الدولي – بحسب تسريبات مؤكدة – استهداف الإسلام السياسي الشيعي برمته: من إيران إلى حزب الله في لبنان، إلى الفصائل في العراق، إلى الحوثيين في اليمن… ؛ لقد تورط الشيعة في حرب أكبر من حجمهم بكثير… ؛ فالمواجهة مع أميركا وإسرائيل ليست معركة ظرفية، بل مشروع استنزاف طويل الأمد يهدف إلى إنهاكهم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وربما تصفية وجودهم السياسي ككل… ؛فرغم الانتصارات التكتيكية، فإن هذه الاستراتيجية الغربية والاستكبارية جعلتهم هدفاً مركزياً لمخططات الإضعاف:
– استهداف النظام السياسي في العراق عبر تفجير وضعه الطائفي والداخلي .
– إسقاط النظام السوري (حليفهم الأساسي).
– حصار إيران وعزلها دولياً.
– تصنيف الحوثيين وحزب الله كمنظمات “إرهابية” والعمل على تصفية القادة والعناصر وضرب البنى التحتية .
وهذه الحرب الشاملة تُثبت أن الخوض في صراعٍ أكبر من القدرات الذاتية، دون حساباتٍ دقيقةٍ للتبعات، يُعرض المكتسبات للخطر.
دفعت هذه التجارب المريرة، وما رافقها من عقائد وشعارات تسببت بمآسٍ للشيعة عالمياً، عدداً من رجال الدين والمفكرين الشيعة (بمن فيهم منتمون لأيديولوجيات يسارية وعلمانية وليبرالية) إلى الدعوة لمراجعة جذرية… ؛ فهم يحثون الجماهير والقادة والمؤسسات الدينية الشيعية على اعتماد العقلانية والواقعية والبراغماتية السياسية، وتقييم التحديات بمنطق علمي بعيد عن الشعارات العاطفية والشعبوية والتي تُستنزف في قضايا الآخرين… ؛ فمن غير المعقول أن يندفع الشيعي لنصرة قضايا السُّنة والعرب، بينما يُقابل موقفه دوماً بالريبة والكراهية… ؛ لذلك وجد عقلاء الشيعة أن التضحية بالدماء والمستقبل والمقدرات من أجل قضايا الآخرين ليست سوى نزيف عبثي، لأن الآخر – عربياً كان أو سنياً – سرعان ما يعود إلى تكفير الشيعة أو إقصائهم.
#القوى الكبرى وحساباتها القاسية:
تقف القوى الدولية الكبرى بالمرصاد، تتحين الفرص للانقضاض على دول المنطقة وشعوبها… ؛ وكما أسقطت هذه القوى عملاءها السابقين حين لم يعودوا نافعين (كطالبان وصدام ؛ و المحسوبين على التيار السني واللذين كانت أمريكا ذات يوم تدعمهما)، فكيف يكون مصير من يعاديها ويقف في وجهها؟
وقد لخص الدبلوماسي هنري كيسنجر هذه القسوة بقوله: “أن تكون عدوًا لأمريكا قد يكون أمرًا خطيرًا، لكن أن تكون صديقًا هو أمر قاتل”.
فالقوى الكبرى لا تعرف صديقًا دائمًا ولا عدوًا دائمًا، بل مصالح دائمة… ؛ ومن يظن أن دماءً قدّمت أو تحالفات عابرة قد تغيّر قرار القوى الكبرى فهو واهم… ؛ فهذه القوى الاستكبارية لا تتوانى عن الانقضاض على أصدقائها قبل أعدائها في بعض الاحيان … ؛ والتجربة العراقية خير دليل ؛ ففي ثورة العشرين اصطدم الشيعة بالإنكليز بتحريض عثماني – سني ؛ فكانت النتيجة هيمنة أقلية طائفية على العراق 83 عامًا… ؛ ثم تكرر السيناريو بعد 2003 حين اندفعت بعض الفصائل الشيعية لمواجهة الأميركيين، ما سمح بخلط الأوراق وضياع الفرص… ؛ والنتيجة: استنزاف متواصل، و استهداف للنظام السياسي الجديد في العراق … .
#منعطفات تاريخية وخيارات راهنة:
أدرك بعض شيعة العراق هذه المعادلة الخطيرة في لحظة محورية بعد 2003… ؛ فبعد قراءة “الغلطة التاريخية” لثورة العشرين (1920) – التي دفعهم إليها العثمانيون وبقاياهم السنية لمواجهة بريطانيا العظمى، مما أدى إلى تسلط الأقلية السنية على الأغلبية الشيعية لعقود – ؛ فاختاروا التعاون مع الأمريكيين لإسقاط نظام صدام – من باب مجبرا اخاك لا بطل – ، أملاً في تغيير الوضع نحو الافضل … ؛ لكن السيناريو تعقد لاحقاً… ؛ فبعد انخراط فصائل شيعية في مقاومة الاحتلال الأمريكي، ثم تشكيل “محور المقاومة” (إيران، حزب الله، فصائل عراقية، الحوثيون، نظام الأسد) لمقارعة أمريكا وإسرائيل، وجد الشيعة أنفسهم مجدداً في مواجهة مباشرة مع قوى استكبارية قررت – وفق تسريبات – استهداف “الإسلام السياسي الشيعي” بكياناته الرئيسية (إيران، حزب الله، الفصائل العراقية، الحوثيون)… ؛ وبدأت بواكير هذا المخطط بعملية إسقاط نظام الأسد في سوريا، مما أدخل المحور في حرب وجود طاحنة.
#الدرس والعبرة
إن قراءة هذه الوقائع تكشف أن الشيعة – عبر التاريخ وحتى اليوم – غالباً ما يكررون ذات الخطأ: الدخول في مواجهة مع الأقوياء دون امتلاك قوة كافية… ؛ فكانت النتيجة دماءً مهدورة، وأيتاماً وأرامل، وانكسارات متكررة… ؛ وفي المقابل، حينما التزموا منطق القوة والحنكة السياسية، أسسوا دولاً وإمبراطوريات، وكان لهم شأن.
إنَّ ما يواجهه الشيعة اليوم – ومعهم العراقيون عامة – ليس مجرد أزمة سياسية، بل معركة وجودية: هل يستمرون في الاندفاع وراء شعارات كبرى وصراعات إقليمية لا يملكون أدواتها، أم يتجهون إلى مراجعة عميقة وحسابات واقعية تحفظ بقاءهم وكرامتهم؟
لا بدّ من إدراك أن الحكمة السياسية تقتضي تخفيف الأعباء، والتخلّي عن الأوهام، وتحديد الأولويات بما يضمن حماية الداخل قبل الانشغال بقضايا الخارج.
فالسفينة المثقلة إن لم تُلقِ حمولة زائدة وسط العاصفة، فإن الغرق مصيرها المحتوم… ؛ ولعلّ هذا هو الدرس الأكبر: القوة معيار البقاء، والضعف طريق للفناء، وما لم يتدارك الشيعة – ومعهم العراقيون – مسيرتهم، فإن طاحونة التاريخ ستطحنهم كما طحنت من قبلهم… ؛ ولهذا، فإن الواجب التاريخي والسياسي اليوم هو إلقاء الأثقال الزائدة والتوقف عن خوض معارك الوكالة او حروب النيابة عن الاخرين، والانصراف إلى بناء القوة الذاتية وحماية الداخل…؛ فالسفينة المثقلة لا تنجو من العواصف، وإنما ينجو ربانها حين يُلقي بالأحمال ليحفظ بقاءها , كما اسلفنا .
## الخلاصة :
#الواقع المعاصر: فخاخ العاطفة واختبارات البراغماتية … ؛ ففي القرن الحادي والعشرين، تتكرر الإشكاليات ذاتها:
1. فخ الدعم غير المتبادل: التضحيات الشيعية في القضية الفلسطينية وغيرها – رغم ضخامتها – قوبلت بالتشكيك الطائفي، بل واستُخدمت ضدهم إعلامياً وسياسياً (كمظاهر تأييد صدام في غزة او عدم الاكتراث باستشهاد السيد حسن نصر الله بل والاستهزاء بمقتله …!! ).
2. الشرخ الهوياتي: الأحزاب الدينية تنتمي لبيئاتها المذهبية، مما يجعل “المقدس” عند فريقٍ “منكراً” عند الآخر… ؛ و هذه القطيعة الهيكلية تحول دون تحالفاتٍ مستقرة.
3. محور المقاومة: انتصارات مؤقتة وأثمان باهظة:
– تحقيق انتصارات تكتيكية (كالانتصار على “داعش”) لا يعادل امتلاك رؤية استراتيجية شاملة.
– تحوّل “المحور” إلى هدفٍ مركزي للقوى الدولية والإقليمية (عقوبات على إيران، تصنيف الحوثيين وحزب الله “إرهابياً”، استهداف العملية السياسية في العراق).
# الأخطاء الاستراتيجية الفادحة
1. تضخيم الذات بعد انتصارات جزئية: أدى النجاح في معارك محدودة إلى وهم القدرة على مواجهة القوى العظمى.
2. الانخراط في صراعاتٍ هوياتية: المشاركة في حروب بالوكالة (كسوريا وغيرها ) استنزفت الطاقات دون تحقيق مكاسب جوهرية.
3. إهمال القاعدة الذهبية: “العدو المشترك لا يصنع حلفاء حقيقيين”: التحالف مع أنظمة استبدادية (كنظام الأسد) حول “المقاومة” إلى أداة في صراعات إقليمية.
# خارطة طريق: نحو سياسة عقلانية
لا تعني المراجعة الاستسلام او الانسحاب من الميدان السياسي والدولي والاقليمي ، بل صناعة استراتيجية جديدة … ؛ والمواجهة مع الأقوياء ليست خطيئةً إذا كانت مدروسةً ومؤسسةً على قوةٍ حقيقية… ؛ أما المغامرة بدفع الثمن من دم المستضعفين ومستقبلهم، فهي إهدارٌ للحقّ وللحياة معاً… ؛ و الحكمة – وليس العاطفة – هي التي تصنع التاريخ… ؛ وعليه لابد من اتباع الخطوات التالية :
1. إعادة تقييم وتعريف الأولويات: حماية الكيانات الشيعية القائمة (دولاً وجماعات) أولاً… ؛ ثم وقف التورط في صراعات خارجية لا تحقق مصلحة مباشرة .
2. التحالفات المرنة: بناء تحالفاتٍ مصلحيةٍ عابرة للمذاهب، بدلاً من الاصطفافات الأيديولوجية الصلبة… .
3. القوة الذكية: الجمع بين القوة الرادعة (عسكرياً/سياسياً) والدبلوماسية النشطة… ؛ وتفعيل القنوات السياسية مع الخصوم الإقليميين والدوليين … .
4. الاستفادة من التناقضات الدولية : استغلال الخلافات بين الخصوم (أمريكا – إسرائيل – الدول العربية)… ؛ وتوظيف صراعات القوى الكبرى لصالح المكاسب التفاوضية ؛ كالتقارب مع أطراف أوروبية وروسيا والصين لموازنة الضغوط الأمريكية – مثلا – او فعل العكس ان اقتضى الامر ذلك ؛ فالسياسة فن الممكن” وليست مغامرة في مستنقع المستحيل.
5. تحييد عامل الطائفية و تحويل الصراع من هوياتي إلى مصلحي , وطرح قضايا وطنية جامعة (كمكافحة الفساد والعدالة الاجتماعية) .
# الخاتمة :
في هذا المنعطف الخطير، حيث تتواصل الضربات ضد الكيانات الشيعية السياسية في إيران والعراق واليمن ولبنان، وتصميم القوى المعادية على المضي قدماً في مخططاتها الخبيثة ، يبرز السؤال الملحّ: هل ما زال متاحاً تدارك الموقف؟
يفرض الواقع ضرورة مراجعة حسابات دقيقة ومريرة، ربما تتضمن “إلقاء الأحمال الثقيلة من السفينة” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأصول الاستراتيجية الأساسية… ؛ فالحرب طويلة، والأمواج عاتية، والخيارات محدودة وقاسية.
فقد تتطلب النجاة التخلي عن الشعارات العاطفية والطوباوية والهلامية التي تستنزف الطاقات والمقدرات ؛ بالإضافة الى وقف التضحية بمستقبل الأجيال على مذبح صراعات الآخرين… ؛ و تحويل “الضعف” إلى قوة عبر التكتيك الذكي لا المواجهة المباشرة… ؛ فالتاريخ لا يرحم من يخالف سننه، والحكمة وحدها تصنع النجاة حين تعصف الأمواج.
وفي النهاية : لله الأمر من قبل ومن بعد، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.