18 ديسمبر، 2024 8:05 م

جدلية الصراع مابين الرمز والواقع في مسرحية (عزف نخلة ) للكاتب علي العبادي

جدلية الصراع مابين الرمز والواقع في مسرحية (عزف نخلة ) للكاتب علي العبادي

تشكل الهوية في المسرح العراقي الحديث احد أهم تحولاته وانشغالاته ،وذلك لردم حاجز التشظي والتهشيم الذي أصابه اليوم بفعل الفشل الثقافي والاجتماعي الذي نمر به حيث لم يحدث أبدا ان مر المسرح بهذا الإهمال  عبر تاريخه الطويل من لحظة ولادته الأولى في مدينة اشور 800 قبل الميلاد والى وقت قريب  ، لذلك ظل هاجس الهوية والتأصيل هو الهم الأول للمشتغلين فيه ، وقد ساهم هذا السعي الحثيث عن هذه الهوية في أعادة أنتاج دلالات رمزية ترتبط ارتباط عضوي ونفسي بجذور تاريخية واجتماعي تتصل بعمق هذه الهوية المتمثلة بتراثنا الفكري  والثقافي المشبع بالرمزية و الذي تعرض هو الأخر  للكثير من الاندثار والتدمير، ومن هذه الدلالات الرمزية (النخلة ) التي شكلت عبر تاريخها الطويل بعدا رمزيا وثقافيا مميزا حتى أنها باتت تشكل احد أهم أركان الهوية العراقة في يومنا هذا .
تعتبر مسرحية (عزف نخلة ) للكاتب علي العبادي واحدة من المسرحيات التي تسعى للبحث عن هذه الهوية الضائعة عبر تمثلها الرمزية والدلالي، تدور مشاهد المسرحية بين أم فقدت ابنها الوحيد في الحرب ورجل يحاول إيهامها بعودة ابنها من جديد لكن لا يأتي منه غير فردة بسطال لشهيد اقصته الحرب وافجع قلب أمه  لتضعه الأم في المهد كبديل لابنها المفقود كرمز يدين فكرة الحرب وفضح حجم الألم، فالبسطال  هو كل ما تبقى من ابنها الضائع   لتنتهي المسرحية بالصمت والهذيان وصراع  بطعم الهزل والسخرية من الواقع اليومي .
يضعنا الكاتب في بداية المسرحية  أمام لحظة تقليدية لصورة الأم العراقية المسكونة بالهم والخوف من المستقبل يصفها الكاتب( صالة وسطها مهد  الأم تهز بالمهد ) لكن سرعان ما يصدمنا الكاتب عبر الحوار مابين الأم والرجل الذي تعمد الكاتب بنزع اي صفة  عنه سوى سمة الذكورة  لاعتبارات فنية ورمزية سنبينها لاحقا ، تتضح هذه الصدمة في جدلية الحوار والصراع  الأم مع الرجل (منذ سنوات وأنا أهز الصندوق هذا الصندوق ، تارة أراه مهد وتارة نعش وتارة اخرى سراب  -الرجل – وستهزين ما بقي من العمر) فالتداخل مابين النعش والمهد والسراب هو تداخل دلالي رمزي يختزل صورة الوجع والهم والإحباط الذي يشكل تراجيديا الموت الحتمي لكل أشكال الحياة  فرغم سوداوية المشهد لكن الكاتب استطاع من رسم كل تاريخ العراق القديم والحديث عبر سلسلة تحولاته السياسية  والتي تبدأ من المهد  الطفولة ، والشباب الخيال، والشيخوخة النعش /الموت  هي ثلاثية الوجع العراقي المبكية المضحكة  ،
اعتمد الكاتب أسلوب المفارقة والصدمة في بناء المشاهد مستعينا  بلغة رمزية عالية تحاول كسر حاجز الوجع والحزن والرتابة في النص ففي حوار مابين الأم والأب يتضح هذا الميل للكشف عن المفارقات اليومية في واقعنا المحطم بفعل الحروب ففي مشهد معبر جدا عن حالة الفشل الإنساني والوجودي الأم تركض باتجاه الرجل متوسلة إياه ( اقسم بكل مقدساتك وهذيانك وحرمانك ووجعك أن تكون صادقا معي ، وان لا تكون مزحة – الرجل ( اقسم لك بوجعك الأسطوري ، انه على قيد الانتظار ) فرغم معرفة الأم بأن كلام الرجل هو كذب لكنها تفترض عبر مخيلتها ان ابنها سيعود لتنتهي المفارقة بخضوع الأم لشروط الرجل الذي يظل يتلاعب بالأم الى نهاية المسرحية .
استطاع الكاتب من توظيف جيد للرمزية الواقعية وذلك عبر إعطاء شخوص المسرحية عمق فني وثقافي مرتبط بجذور تاريخية وفكرية لازالت شاخصة ومؤثرة حتى اليوم حيث توزعت هذه الرمزية على كل المشاهد والتي تبدأ من العنوان (عزف نخلة )وتنتهي بالصراع الوجودي مابين الرجل والمرأة ، فصورة الأم جاءت المعادل الموضوعي لصورة النخلة في ثقافتنا عبر صيرورة تحولاتها التاريخية والاجتماعية لذلك كانت شخصية الأم ترمز للقدرة على التحمل والعطاء رغم حجم الوجع و التهميش الذي تعانيه كما النخلة العراقية التي رغم مكانتها الرمزية والدينية والثقافية ألا أنها تعاني من الإهمال والموت المستمر ، أما صورة الرجل والتي تعمد الكاتب من جعلها شخصية متلونة وقاسية تلعب على وجع المرأة الأم كانت ترتبط رمزيا بشخصية الشيطان التي استغلت دينيا وأسطوريا في موروثنا الثقافي والأدبي ، الرجل الشيطان الذي يتقمص ادوار مختلفة لخداع  البشر واستغلالهم لذلك كان يأخذ دور المساعد للأم  في محنتها ومرة دورة رجل دين يحاول تكفيرها ومرة صعلوك يعيش على وجع الآخرين ،لذلك عمد الكاتب تجريده من اي صفة  ذات جدوى سوى الكذب والخداع ، فهذا  الميل الواضح لدى الكاتب في  وضع صورة الرجل ضمن خانة الاتهام والنقد ربما لان ثقافتنا بنيت وفق رؤية ذكورية مفرطة لقمع  دور الأخر المتمثل  بالمرأة المهمشة وجوديا وثقافيا، والاستعادة وجودها سعى الكاتب الى إيجاد مركزية دلالية ورمزية تدعم دورها في الواقع لذلك كانت صورة المرأة الأم هي المعادل الموضوعي لصورة الأم العراقية الحزينة .
استطاعت المسرحية من كشف وتعرية المشهد الثقافي الذي نعيشه اليوم عبر نقد وتفكيك لمنظومتنا الذكورية والقيمية التي سلطت الضوء على جدلية  الصراع مابين الرمز والواقع وانعكاساته النفسية والاجتماعي على المشهد الأدبي والثقافي كما وكشفت المسافة الشاسعة مابين الرمز كهوية والواقع المتشظي الى عدت هويات متناحرة فيما بينها ،فالواقع  اليومي يعج بالمتناقضات الفكرية والأخلاقية حتى أن هذه الرموز قد أفرغت من محتواها الفكري والدلالي اي  لم تعد تصلح لشيء ذو جدوى حقيقي لان الواقع يزداد قمع وفشل يوم بعد أخر مما يتطلب منا نقدا فاعلا لكل أشكال القيم والمعايير الفكرية السائدة اليوم ..