23 ديسمبر، 2024 3:19 ص

جدلية الذات/ الآخر في الذهنية العربية

جدلية الذات/ الآخر في الذهنية العربية

من هو الآخر على نطاق المجتمعات؟ هل هو الآخر الديني، اي اتباع الديانات الاخرى، ام هو الآخر الاثني والعرقي؟ وما هي المعايير التي تحدد الأنا والآخر، هل هي معايير دينية ام ثقافية ام اثنية؟ ثم هل تنزع الذات نحو رفض الآخر او احتوائه للتعاون معه، ام تميل الى التبعية اليه؟ وما هي الشروط التي تهيء لكل حالة؟
 ان اي واحد مختلف دينياً او عرقياً او ثقافياً، يمكن ان يكون الآخر بل هو في الواقع آخر بكل ما يعنيه الاصطلاح، وبالتالي يمكنه ان يؤثر ويفعل ويلعب دوراً، فيمكنه ان يكون صديقاً او عدواً مناقضاً او مماثلاً قابلاً للنفي والقبول… وفي ضوء هذا اتخذت اديان وايديولوجيات ومجتمعات ثقافية او قومية او غيرها، موقفاً مختلفاً من الآخر، بعضها رآه خيراً مطلقاً وبعضها الآخر اعتبره شراً مطلقاً، وذلك حسب درجات الوعي الفردي والجماعي والمصالح والمكان والزمان.
 دراستنا تتناول الآخر المختلف في الذهنية العربية، وكما ارتسمت في ثقافتنا، ودخلت وجدننا، واثرت في مواقفنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاخلاقية تجاه هذا الآخر، وكيف اثر او تأثرنا به. وستتناول في جانب من دراستنا صورة الآخر الاوربي في الثقافة العربية، كيف بدأ تكونها، وكيف تطورت الى ان اصبحت صورة نمطية لدينا نحن العرب في الوقت الذي اصبحت فيه صورة العرب نمطية ايضاً في الثقافة الاوربية وما تبع ذلك من مواقف او ما بُني عليه من علاقات ما زالت قائمة حتى عصرنا الحاضر.
 ان حكمة خلق الله بشراً متنوعين تتجلى في روعة لقائهم وتواصلهم، وبذلك يضفي التنوع جمالاً على العلاقات الانسانية وغنى لها. خاصة حين يؤسسها التقوى التي من معانيها خشية الله والسعي لمرضاته عبر ممارسة القيم التي دعا القلوب لتؤمن بها. ومن هذه القيم مبدأ العدل الذي يتجسد عملياً عبر مساواة الآخر مع الذات، والابتعاد عن الظلم، فلا يتم الغاء الآخر او تشويهه.
 ولا يجوز تخطي تلك التركة الخصبة من ضروب التفاعل الخلاق بين الذات العربية والآخر المختلف، والانسياق وراء الترويج لثقافة الكراهية، والعزل، والاقصاء، بل تقتضي المعرفة كشف الستار عن الرؤى الانسانية التي تقاسمها القدماء فيما بينهم من اجل التعايش المشترك مهما اختلفوا في اعراقهم وعقائدهم وثقافتهم.
 ولعل الحديث عن الآخر في الذهنية العربية يضمر بدوره حديثاً عن الذات. فمعرفة الآخر تطوي ضمناً الرغبة في معرفة الذات، ولطالما اكتنز تراث الذهنية العربية صوراً مترادفة تحيل على ثقافة نزوع انساني في سائر اشكال التعبير الادبي والفكري.
 
 لقد اصبح استنطاق الماضي جزءاً من رهانات الحاضر، يلوذ المفكرون بالماضي، اما لتأكيد جذر او للبرهنة على سابقة او للبحث عن توازن مفقود. وندر ان كانت العودة من اجل المعرفة. وكائناً ما كان السبب، فمن الواضح ان نسغ الماضي يتصاعد في تضاعيف الحاضر، فيتعالى بصورة فكرية وادبية ودينية متعددة الوجوه.
 لم يعد الماضي حقبة خاملة انقضى اوانها وتوارى اثرها، انما هو ذخيرة استثمرها المتنازعون في عصرنا لتأكيد مشروعيتهم، ولهذا انخرط الماضي في معمعة الحاضر ليكون طرفاً في صراعاته.
 ان اعادة قراءة تراث الذهنية العربية بطريقة واعية تضمن لنا فهماً اعمق لذواتنا، اذ نتمكن من الغوص فيها لنكتشف مجالها، فنعايش الملامح التي وهبت حياتنا اشراقة الحضارة وتلك التي جللتها ظلمة الهمجية… اننا لن نستطيع كشف ذواتنا وفهمها على حقيقتها الا عبر لقاء الآخر، فتبين مدى تألقها حين تنفتح عليه ومدى بؤسها حين تنغلق في جدران ظلمتها.. وبذلك تنبع النظرة للآخر من اعماق الذات فتصبح الصورة التي نشكلها عنه مرآة تعكس رؤيتنا لأنفسنا، فحين ننظر بعين القداسة لذواتنا وننزها عن الخطأ نبدأ عملية تشويه الآخر دون وعي منا، فنعلي شأن الذات على حسابه ونمعن اظهار سلبياته، فيطغى صوت الذات على الاصوات الاخرى، عندئذ  يحل التوتر محل التواصل الانساني وينتفي مبدأ التعارف التي نادى به الاسلام.
 ان معرفة الذهنية التي يشكلها الانسان عن ذاته وعن الآخرين.. هي انعكاس للذات سواء أكانت تجسد اختلافاً (الآخر مقابل الذات) ام لقاء (الآخر يشبه الذات) وبذلك، تعد هذه الذهنية فعلاً ثقافياً يقدم تفاعل الذات مع الآخر، فنعايش تفاصيل الحياة الاجتماعية والفكرية والروحية بكل صدقها وعفويتها، خاصة اننا نتلمسها عبر الادب الذي يطلعنا على مفاهيم الآخر وموروثاته الشعورية واللاشعورية، كما نعايش من جهة اخرى اوهام الدارس عن نفسه وعن الآخر، اذ كثيراً ما تسقط دراسة الآخر في مهاوي التعبير عن الذات وتقديسها ونفي الآخر.
 اذاً، تؤدي الكتابة عن الآخر الى تعريف الفرد على ذاته، فتبدو الذهنية التي يقدمها عن الآخر تعبيراً عما يعانيه من احباط ورهاب وهوس على المستوى الفردي والجمعي، فهي مجال للتنفيس عن عقد ومكبوتات يعاني منها الفرد والامة، اذ لا يمكن ان يكون الخيال الذي يشكل ابرز ملامح الذهنية (الصورة) مجرد اوهام لا علاقة لها بالواقع لانه يخضع لمؤثرات تاريخية وبيئية. بالاضافة الى تجارب واحلام شخصية. لذلك يمكننا القول بان دراسة الذهنية لا تهتم بواقعيتها وانما بكونها مطابقة لنموذج ثقافي موجود قبلها في الثقافة الدارسة وليس في الثقافة المدروسة مما يتيح لنا فرصة التعرف على اسسها وعناصرها ووظيفتها الاجتماعية.
 انه من المؤلم ان نسعى الى تشويه ذواتنا بايدينا اليوم… وقد يلاحظ الكثير منا ان تشويه الذات اليوم ينعكس سلباً على رؤيتنا للآخر، فيلجأ الى رسم صورة مشوهة له بمقدار ما نعظم انفسنا وننزهها عن الخطأ. لهذا نرى من الضروري فهم ذواتنا اولاً ثم فهم الآخر، اي كيف تبدت الذات العربية في تراثنا (ذهنيتنا)، ما هي جوانب ضعفها؟ وما هي جوانب قوتها، وكيف تعاملنا مع الآخر المختلف في العقيدة والعرق والمرتبة الاجتماعية.
 بين الذات والآخر المختلف، علاقة جدلية لا ينبغي الغاؤها او تجاهلها والسكوت عنها. فعلاقة كل منهما بالآخر هي ثنائية قائمة في طبيعة الحضارات… يُعد كل شطر منها شرطاً لوجود الآخر وفهمه، ووعيه، والاعتراف به.
 وجدلية الذات والآخر، تعني في الحالات كلها، انه يستحيل وجود الواحد منها من دون وجود الآخر او معرفة الواحد منها دون معرفة الآخر حتى اصبح كل من هذه الثنائية، عاملاً لمعرفة الآخر، فهما ذاتان منفصلتان في الوقت نفسه، مفترقتان ومتحدتان، وغدت العلاقة الجدلية بينهما جزءاً من كل منهما، وشرطاً لوجوده واستمراره.
 لا تكون الذات الا بوجود الآخر، وهذه بديهية، ويصعب بالتالي الاستدلال على الذات من دون معرفة حقيقية وشاملة بالآخر. ولذلك، نلاحظ دائماً ان الذات تسعى وتطمح الى معرفة الآخر من خلال الدخول اليه وتلمس بنيته، وتركيبه، ومواصفاته، وماهيته… لان ذلك، من المقدمات التي لا بد منها، والحاجات التي لا يستغني عنها لمعرفة الذات ذاتها ووعيها بها. فلا تستقيم الحياة الانسانية دون الوعي، من غير الاختيار الحي يجعل الانسان منفصلاً عن واقعه ومعتزلاً عما حوله… وعي لقدرة الذات على التعامل مع السياق الذي تتحرك فيه واكتشاف عناصره، ومكوناته، اي الآخر بالمعنى الواسع لمفهوم الآخر. فالقدرة على الخروج من دوائر الذات الى ما هو خارجها، تعني الثقة بالذات من جانب، تعني قدرتها على ان تمتحن بما تملك من رؤى وافكار من جانب آخر.
 فمن البديهي ان الوعي هو المحدد الرئيسي للآخر والقادر على تصوره او تلمسه ومن دون الوعي يستميل اقرار وجود الآخر ومعرفته. ولان عملية الوعي مركبة، فردية، جماعية، قبلية، قومية، دينية، اثنية… فان ماهية الآخر ومواصفاته، وفهمه، واساليب التعامل معه، تحدد في ضوء هذا الوعي والمرحلة التي تمر بها. ذلك، ان كيان الآخر ليس هو الآخر نفسه بل مفهومه وانعكاسه في الذات، وهذا يرتبط بالشرط التاريخي، اضافة الى الوعي الفردي، وصورة الآخر، وان كانت مجردة شكلاً، فهي في الواقع حصيلة شروط مادية، ونتيجة شروط خارجية، لا ذاتية، رغم تكونها في الذات. والآخر هو اكتشاف الوعي وحصيلة الوعي، ولذلك يرى البعض حتمية وجود الآخر عند العقلاء، وغيابه عند غيرهم.
 اذاً، لا يمكن فهم الذات بدون فهم الآخر، فينبغي الاعتراف بوجود علاقة شرطية وجدلية بين الذات والآخر، حيث يصبح الآخر شرطاً لتحرر الذات من ذاتيتها ولا تتحقق الذات في الواقع الا بالتفاعل مع الآخر. ولكن هذه العلاقة بين الذات والآخر، والتفاعل بينهما، ليسا امراً تلقائياً، بل هما امر صعب.
 وهناك، من يقول، انه لا توجد علاقة بالآخر الا على قاعدة غالب ومغلوب. ولذلك، فان جدل الحضارات او الثقافات، ينتج وعياً بالذات والآخر، ولا يستقيم هذا الوعي، اذا اكتفى بالذات من دون الآخر.
 ان اكتشاف الآخر عملية ممتدة في الزمان ولا تتوقف ابداً، وذلك بسبب التفاعل الانساني بين الامم والشعوب والثقافات في اوقات السلم والحرب على السواء، غير ان ذلك لا ينفي، ان هناك لحظات تاريخية فاصلة تشتد فيها الحاجة الى الاكتشاف المكثف للآخر ونحن نمر في الوقت الراهن على المستوى العالمي بلحظة تاريخية مثيرة نحاول فيها عرباً ومسلمين وغربيين ان نكتشف الآخر.
 الغربيون (ضمن الآخر المختلف) معنيون عناية شديدة باكتشاف الاسلام كدين واستكناه طبيعة المسلمين كبشر، واستطلاع ماهية الثقافة الاسلامية وسماتها البارزة، وتحليل دوافع البشر الذين يسلكون في ضوء قيمها وتوجيهاتها.
 والمسلمون المعاصرون معنيون ايضاً بحكم المعارك الضالعين فيها باكتشاف الآخر الغربي وتحليل طبيعة الايديولوجيات التي يتبناها ودوافع السلوك التي تصوغ الاستراتيجية الغربية ازاء العالم الاسلامي.
 ان الصراع العربي الاسلامي مع اوروبا خلال الالف سنة الماضية، اخذ اشكالاً متعددة، وكانت له اهداف متغيرة. وقد ترك هذا الصراع  مع التواصل المستمر العربي الاوروبي تأثيراً متعدد الجوانب في قرونه الخمسة الاولى، كان التأثير عربياً اسلامياً على اوروبا، وكانت هذه تتشبه بالعرب والمسلمين وتقلدهم، وتنقل علومهم وحضارتهم، اما في القرون الخمسة الثانية فقد انقلب الامر واصبحت اوروبا هي المثل والمعلم، وقد ادى هذا التواصل والصراع والمصالح وغيرها الى تشكيل صورة نمطية لدى كل من الطرفين عن الطرف الآخر، وهي صورة سلبية ومشوهة مؤذية لكل منهما، ومهما كانت اسباب تشكلها او جوانب صحتها ودقتها، ولها مرتكزات واقعية وتاريخية وموضوعية، فقد بقيت هذه الصورة  قائمة ولا شك في انها تحتاج الى بذل جهود جدية من كلا الطرفين لتغييرها ورسم صورة عصرية واقعية وموضوعية وصحيحة بدلاً منها.
 ان نظرة الآخر تبقى دائماً مصدراً للريبة، فان ما نراه سرعان ما يتحول الى شيء متطرف في ايجابيته او سلبيته، ويجري التعامل معه على هذا الاساس وهذه الريبة هي التي حالت دون ادراج هذه النظرة في خطاب نقدي للذات.
 اما ما يتعلق بأتباع الخطاب الديني المتطرف فقد سببت مواقفهم بشكل رئيسي قيام الحروب الدينية والمتذرعة بالدين خلال التاريخ. وبرغم ان الحروب الحديثة في الواقع هي خلافات سياسية او صراعات على مصالح اقتصادية او مالية او مناطق نفوذ او لحل نزاعات على مختلف اسبابها، فقد كانت تجري عادة تحت مظلة دينية وشرعية دينية. وكان التطرف دائماً يصيب اتباعه بالعمى المعرفي والاخلاقي، وعمى المحاكمة والرؤية الواقعية، بحيث لا يعترفون بالآخر ويصرون على الجهل به وتجاهله، ويرونه مارقاً او كافراً لا يمكن الوصول معه الى اتفاق او تسوية او قبوله او التعايش معه، ولا تستقيم الامور الا بأبادته. وقد ابتلت بعض الفرق الاسلامية بمثل هذا الخطاب المتطرف ورفضت الحوار مع الآخر او سماع رأيه او تفهم هذا الرأي.
 وقد امتدت حرب الآخر لتشمل صراعات قومية من خلال خطاب التطرف القومي، صراعات بين العرب والفرس، وبين العرب والترك برغم انهم جميعاً يدينون بالاسلام، وساعد ذلك تضخم الذات، ومنها الذات العربية التي يرى البعض انها ذات صبغة تضخمية لا تقبل الاستعلاء عليها بل لا تقبل شبهة الاستعلاء.
 ولا يختلف الامر كثيراً تجاه الآخر الكتابي (اليهودي/ المسيحي) الذي حدد القرآن الموقف منه، باستفاضة ووضوح لكن طبيعة التطور ومصالح الدولة (العربية) وراء الحكام والسلاطين والتخلف وتطرف الخطاب الديني والثقافة الموروثة من مرحلة ما قبل الاسلام، ادت الى اضطهاد اهل الكتاب هؤلاء، واتهامهم بالكفر والمروق ومعاودة الاسلام وفرض عليهم احياناً نمط سلوك وقيم واساليب عيش غير ما قرره القرآن، واتى به الاسلام وحسب رغبات واراء هذا الحاكم او ذاك من دون شرعية قرآنية او دينية في وقائع متعددة.
 ان الخطاب الديني المتعصب يرى الآخر من خلال المطلقات المسبقة التي جاء بها رجال الدين او فقاؤه بعد ان اصبحت ثوابت يقاس بها الآخر ويتحدد الموقف منه، فالآخر حسب هذا الخطاب شر مطلق وما من رؤية وسط او تقويم وسط يعتد بهما، لأن مرجعية هذا الخطاب هي النص المقدس او العمل المقدس.
 ويفسر النص المقدس غالباً تفسيراً ظاهرياً، ويخضع تأويله لجملة شروط وظروف ومصالح من دون الاهتمام بظروفه وزمانه، او بالاهداف التي جاء من اجلها، ولذلك، يكون هذا الخطاب وحيد الاتجاه عموماً يميل الى تجاهل الحوار والتفاعل، ويرفض العلاقة المتبادلة، وفي النهاية لا يعرف الآخر معرفة جدية وشاملة وعميقة بل غالباً ما يتصوره، لانه لا يحاوره ولا يسأله ليعرف رأيه بل يسأل نفسه ويجيب في آن واحد، ويفسر النص المقدس كما يفهمه هو او كما يريد ان يفهمه في حدود وعيه، وفي اطار معارفه فقط دون ان يطلع على معارف الآخرين ورؤاهم وتفاسيرهم ودون ان يفهمها او يعترف بها. ويصبح الآخر بالنسبة الى الخطاب الديني المتعصب هو العدو الذي يتحفز للانقضاض عليه، ويعتبر ان الآخر يستحق التدمير، ولذلك يخوض معه حرباً ابدية، ويركز على الذات تركيزاً مطلقاً واعمى.
 ان الارهاب الفكري الذي مارسناه في حق الآخر المختلف، هو ارهاب في حق ذواتنا ايضاً. ان نغلق نوافذ الحياة المتجددة، ونرضى ان نعيش في ظلمة الجهل، رافضين ثقافة التسامح التي اسست ازدهار حضارة اسلافنا.
• المراجع:
1- حسين العودات- الآخر في الثقافة العربية من القرن السادس حتى القرن العشرين، ط1، دار الساقي، بيروت، 2010.
2- ماجدة حمود- صورة الآخر في التراث العربي، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت) ومنشورات الاختلاف (الجزائر)، 2010.
[email protected]