لعلها مفارقة غريبة، ان يتوازي مسار التطبيع الذي تتحرك فيه وتحركه اسرائيل مع دول عربية وغير عربية عديدة-من بينها العراق-مع مسار التجسس عبر مختلف الوسائل والاساليب والقنوات. ولعلها مفارقة غربية ايضا، ان تتقاطع مخرجات هذين المسارين لتنتج ارباكا وارتباكا في داخل منظومات صنع القرار السياسي، ودوائر التخطيط الاستراتيجي، ومراكز العمل الاستخباراتي في تل ابيب، لاسيما مع الاتجاه الصاعد في اختلال موازين القوى والمعادلات لصالح المحور المضاد لمشاريع التطبيع ايا كانت تسمياتها ومسمياتها وعناوينها واشكالها.
واذا كانت مسارات التطبيع والتسويات السياسية بين اسرائيل وبعض الانظمة العربية، كالنظام المصري والنظام الاردني، لم تنتج سلاما وامنا واستقرارا حقيقيا لتل ابيب رغم مرور اكثر من اربعة عقود على انطلاقها، فبلا ادنى شك، فأن المسارات المتعثرة لمشاريع التطبيع الجديدة مع انظمة وحكومات عربية اخرى، مثل البحرين والامارات والمغرب والسودان وعمان، وربما اطراف اخرى، لن تبلغ النقاط والمحطات المطلوبة، في ظل الكثير من التحولات والمتغيرات الكبرى على صعيد المنطقة والعالم.
وبينما كان بأمكان تل ابيب طرق ابواب ابو ظبي والمنامة ومسقط والرباط والخرطوم مباشرة وفي العلن، فأنه لم يكن بأمكانها فعل ذات الشيء مع بغداد، مع ان الاخيرة تحظى بالاهمية الاكبر من سواها في كل المشاريع والمخططات الرامية لرفع الحواجز وازالة العقد بين اسرائيل ومحيطها العربي وفضائها الاقليمي، لاعتبارات تأريخية وجغرافية واستراتيجية وثقافية واجتماعية مختلفة.
وخلال العقدين الاخيرين، وجدت اسرائيل الظروف مواتية لها اكثر من اي وقت مضى لتحقيق اختراقات في العراق، عبر مساري التجسس والتطبيع. فالاحتلال الاميركي بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، وضعف منظومات الحكم، والتناحر السياسي، والارهاب، والمشاكل والازمات الاقتصادية والحياتية، واتساع نطاق ثورة المعلوماتية والاتصال، كلها كانت عوامل ساهمت الى حد كبير في تمكين اسرائيل من الحصول على مواطيء قدم في شتى مفاصل الحياة العراقية من دون ان تكون هناك مخاطر وتبعات كبيرة.
وربما كانت بعض- او اغلب- بوابات التطبيع الاسرائيلي مع العراق، هي ذاتها قنوات التجسس عليه، وقد كشفت فضحية برنامج بيغاسوس التجسسي التي تفجرت صيف العام الماضي، حقائق مهمة وخطيرة للغاية حيال اطراف وشخصيات عربية كثيرة، كان العراق جزءا منها. فأغلبية التقارير تحدثت في حينه عن إدراج رقم هاتف الرئيس العراقي برهم صالح في قائمة الأسماء الخمسين ألفاً المستهدَفة في برنامج “بيغاسوس” الى جانب قائمة طويلة من اسماء اخرى، البعض منها لاتصنف في خانة العداوة والخصومة الواضحة مع حلفاء واصدقاء اسرائيل، ان لم يكن مع اسرائيل ذاتها.
وفي الوقت الذي كانت تؤشر بعض الوقائع والاحداث الى ان تل ابيب تعمل جاهدة لاستغلال الواقع السياسي في اقليم كردستان بشمال العراق، الذي يتمتع بوضع شبه مستقل في اطار النظام الفيدرالي عن الحكومة الاتحادية في بغداد، لتهيئة وتمهيد الارضيات للتطبيع، فأنها استخدمته-اي الاقليم-بطريقة ما، ليكون محطة متقدمة لها للوصول الى العمق العراقي في الوسط والجنوب، علما انه قد تكون هناك محطات اخرى اكثر عمقا، ولعل السفارة الاميركية في بغداد، وسفارات اخرى من بين اهم واخطر محطات التجسس الاسرائيلية ضد العراق.
بتعبير اخر، ان إسرائيل بقدر ما تبذل جهوداً محمومة من أجل كسر جدار الممانعة العراقية في مواجهة التطبيع، تتحرّك أيضاً في كل الاتجاهات، وتوظّف جميع القُدرات والإمكانات بهدف تفكيك المنظومة العراقية، سياسياً واجتماعياً وأمنياً بمساعدة واسناد اطراف عربية واقليمية، مثل السعودية والامارات وتركيا والاردن وغيرها، من تلك التي تلتقي معها عند ذلك الهدف، وقد أنفقت المؤسسات السياسية والمخابراتية والإعلامية والدينية والثقافية في هذه العواصم كثيراً من الأموال والجهود والوقت، لبلوغ الهدف المطلوب، مع التأكيد على أن أبعاد التفكيك ومساحاته لا تنحصر في حدود الجغرافيا العراقية وأطرها، وإنما تمتدّ إلى ما وراءَها، كجُزء من مشاريع كبرى، كالشرق الأوسط الكبير، وصفقة القرن، والشام الجديد، والسلام الإبراهيمي، ناهيك عن مبادرات حوار الاديان، التي تتبناها جهات تبدو في ظاهرها اكاديمية ثقافية، لكنها في حقيقة الامر تعمل على تنفيذ اجندات سياسية ومخابراتية خطيرة.
ولان الاوساط والمحافل السياسية والمؤسسات الحكومية العراقية، اخذت تدرك خطورة المشاريع الاسرائيلية حيال العراق، سواء في الشق التجسسي او الشق التطبيعي، فأنها راحت تتحرك لمواجهة تلك المشاريع بصورة عملية متجاوزة حدود الكلام والتعاطي الاعلامي.
ولعل الارقام والحقائق والمعطيات التي تسربت خلال الاسابيع القلائل الماضية عبر مصادر امنية موثوقة عن وضع اليد على شبكات وعناصر تجسسية تعمل لصالح الموساد في العاصمة بغداد ومدن اخرى، يؤشر بوضوح الى جانب من الخطوات العملية لمواجهة المشاريع والاختراقات الاسرائيلية.
ففي منتصف شهر نيسان-ابريل الماضي، ذكرت مصادر خاصة، ان جهاز المخابرات العراقي اعتقل جاسوسين يعملان لجهاز الموساد الاسرائيلي في بغداد، هما ألمانية تدعى (مارلينا فوستر)، وتنتحل صفة صحافية، ومرافقها السلوفيني (ماتيي)، وينتحل صفة مصور صحفي، واكدت المصادر ان الشخصين المذكورين دخلا العراق عبر اقليم كردستان، وحصلا على تصاريح مختلفة من السلطات المعنية في أربيل، ونفذا انشطة محظورة في كركوك والموصل، ثم في قضاء سنجار التابع للموصل، ضمن الرقعة الجغرافية لمواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض(PKK)، وفيما بعد غادرا سنجار نحو العاصمة بغداد بعد انطلاق العمليات العسكرية التركية الاخيرة داخل الاراضي العراقية.
وقبل ذلك، تداولت بعض المنصات الاعلامية معلومات عن قيام السلطات العراقية بأبعاد مدير مكتب شركة بريطانية متعاقدة للعمل في إحدى المؤسسات الحيوية العراقية-لم يذكر اسمها-على خلفية شبهات بقيام الشخص المذكور، وهو مصري الجنسية، بأنشطة تجسسية لصالح جهة خارجية، حيث تم طرده ومنعه من دخول البلاد لمدة عشرة اعوام.
وتشير تقارير عديدة صدرت مؤخرا الى نجاح جهاز المخابرات العراقي بتفكيك عدة شبكات تجسسية للموساد في العراق خلال العامين الاخيرين، واعتقال اكثر من ثلاثين عنصرا تجسسيا يعمل للموساد، اغلبهم دخلوا اما بصفة سياحية او من خلال شركات استثمارية، ورغم ان تلك المعلومات، لم تتأكد من قبل جهات رسمية حكومية، الا انها تبدو قريبة الى حد كبير من الواقع، وهي بلا شك تعد ضربات قاصمة ومؤثرة لتل ابيب، تكمل ضربات سابقة تعرضت لها، من قبيل قصف الحرس الثوري الايراني لاهم واخطر مقرات الموساد في اربيل في الثالث عشر من شهر اذار-مارس الماضي، ناهيك عن الفشل الذريع الذي مني به ما سمي بـ(السلام والاسترداد) التطبيعي، الذي عقد بمدينة اربيل في الخامس والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر من العام الماضي.
وثمة من يرى ان التحرك الامني العراقي ضد الخروقات الاسرائيلية، يأتي في سياق تعاون وتنسيق عال المستوى مع اجهزة مخابرات اقليمية ودولية، مثل جهاز المخابرات الايراني، وكذلك السوري والروسي، وجزء منه يندرج ضمن مهام غرفة التنسيق الاستخباراتي الرباعي العراقي السوري الايراني الروسي، التي انشأت في اواخر شهر ايلول-سبتمبر من عام 2015 لمواجهة الارهاب التكفيري، وذلك بعد اجتياح تنظيم داعش للاراضي العراقية صيف عام 2014، وقبل ذلك تنامي نفوذه في سوريا.
الى جانب ذلك، فأن الحراك السياسي البرلماني الاخير بأتجاه قطع الطريق امام اي محاولات ومساعي للتطبيع مع اسرائيل، كان بمثابة وضع النقاط على الحروف، وقطع الشك باليقين-كما يقولون-ففي مؤتمر صحفي موسع قبل اسبوعين، اكد رئيس الكتلة الصدرية في البرلمان العراقي حسن العذاري، عن قيام تحالف (انقاذ وطن)، تقديم مشروع قانون للبرلمان يقضي بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وكان من بين ما قاله في المؤتمر الصحفي، “نعلن عن قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقطع الطريق أمام كل من يريد إقامة أي نوع من العلاقات مع هذا الكيان، وان الكتلة الصدرية مع الحلفاء في إنقاذ وطن رفعت مقترح مشروع القانون إلى رئاسة مجلس النواب، وان مقترح مشروع القانون يتضمن عشرة مواد، تشتمل كل واحدة منها على عدة نقاط”.
وهذه الخطوة، جاءت تعزيزا لموقف اعلنه في وقت سابق زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، من خلال دعوته الى تشريع قانون لتجريم التطبيع مع اسرائيل، قائلا في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي، “من أهم الأسباب التي دعتني إلى زج التيار الصدري في العملية الانتخابية مجدداً، هي مسألة التطبيع والمطامع الإسرائيلية بالهيمنة على العراق”.
ومن شبه المؤكد ان طرح مشروع القانون المذكور في البرلمان العراقي سوف يحظى بموافقة بمختلف القوى والكيانات السياسية، وحتى تلك التي ربما كانت تتبنى مواقف مرنة حيال موضوعة التطبيع، فأنها لن تتجرأ على السباحة عكس التيار ومخالفة التوجه العام، وما يؤشر الى ذلك، هو ان فكرة القانون انطلقت من فضاء التحالف الثلاثي(التيار الصدري-الحزب الديمقراطي الكردستاني-تحالف السيادة)، الذي غالبا ما وجهت وتوجه اصابع الاتهام لبعض اطرافه بالتسويق للكيان الصهيوني ومد خيوط التواصل معها، علما ان النقطة الجوهرية الاخرى في هذا السياق، تتمثل في ان تشريع قانون من قبل اعلى سلطة تشريعية في البلاد، بخصوص قضية حساسة وخطيرة، يعني فيما يعنيه قطع الطريق مستقبلا على اي جهة سياسية او غير سياسية، حكومية كانت ام غير حكومية، يمكن ان تفكر وتتحرك بأتجاه تجاوز الخطر الحمر، فضلا عن ان من شأنه تعزيز وترسيخ ثقافة رفض مع الكيان الصهيوني وكل من يدعمه ويسانده، وكذلك الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني.
وما يجدر الاشارة اليه هنا، هو انه على طول الحقبة الزمنية الممتدة من تأسيس اسرائيل عام 1948، كانت مواقف المؤسسات الدينية والسياسية والثقافية، والمنظومات الاجتماعية العراقية، واضحة في مناهضة ذلك الكيان، واكثر من ذلك، فأن المادة 201 من قانون العقوبات العراقي النافذ في عام 1969، نصت على انه “يعاقب بالإعدام كل من حبذ أو روج مبادئ صهيونیة بما في ذلك الماسونية، أو انتسب الى اي من مؤسساتها أو ساعدها ماديا أو ادبیا أو عمل بأي كیفیة كانت لتحقیق أغراضه”.
وقد كانت الرسائل البليغة التي انطلقت من العراق في مثل هذه الايام من العام الماضي، في سياق دعم واسناد معركة سيف القدس، ترجمة لعموم التوجهات العراقية بشتى عناوينها ومستوياتها، ولمجمل المزاج الشعبي العراقي من قضية فلسطين، والوجود الاسرائيلي، وطموحات ومشاريع ومخططات تل ابيب.