23 ديسمبر، 2024 3:18 م

جدلية الانتماء في .. رواية السعيد في كابوسه الأقصى

جدلية الانتماء في .. رواية السعيد في كابوسه الأقصى

نص روائيا هائم في فضاءات السرد ، يحمل في ثناياه ثيمة رصينة استمدها الكاتب من واقعه المعاصر ، ارتكز عليها باقتدار وحرفة ليطرح كم هائل من الأسئلة ، عبر حركة أبطاله الثلاثة الذين اختار لهم وعيا ذاتيا ومكتسبا ، مكنه من السيطرة على جميع أدواته في بناء نصه السردي ، الذي كان حاضرا فيه بقوة عن طريق توظيفهم وجعلهم جسرا له ليطرح أفكاره ورؤاه الفلسفية والاجتماعية والسياسية .. في رواية (السعيد في كابوسه الأقصى) للروائي  ميثم الحلو ،والتي صدرت عن دار سطور للنشر والتوزيع ، سلط الكاتب الضوء على جدلية عاشها عاشها ثلاث عراقيين اختلفت دياناتهم ومشاربهم ، وبيئاتهم التي نشأوا  فيها ، إلا أن عقدة الانتماء لوطنهم وسعيهم إلى أن يشعروا بأنهم جزء منه هي حلقة الوصل بينهم ، هؤلاء الثلاثة الذي تزامن وجودهم في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ العراق المعاصر ، ليعيشوا رحلة المتناقضات والمعادلات المغلوطة على هذه الأرض ، عبر عنها الكاتب بنزيف سردي مؤطر بوعي لذاكرة خصبة استطاعت استحضار كل الجزئيات التي اتحدت وتراكمت لتنتج كل هذا البؤس والخراب الذي يعيشه العراقيون في يومنا هذا ، مستخدما لغة سردية حرة غير مقيدة بنمطية أدبية أو أسلوبا لغويا ، ليتيح لنفسه مساحة اكبر في اثراء منجزه الأدبي بالدلالات المادية والحسية ، فاستخدم لغة الشعر والنثر واللهجة الشعبية ،كأسلوب ناجع للتعبير عن حالة الدهشة والإحباط التي كان يعانيها أبطال روايته ،بغياب واضح لعنصر المكان في بعده السينوغرافي ، وندرة الوصف داخل السرد الروائي ،في محاوله منه لجذب أنظار القارئ إلى الغاية والهدف الأسمى لنصه الأدبي ، وحضور كبير لما يطلق عليه ( بالنزعة التيشيخوفية ) التي سيطرت على أحداث الرواية ، الميالة إلى معالجة السرد الروائي وحركة شخوصه وحالاتهم الإنسانية المعذبة ، فأختار اسم ( سعيد ) بلقبه العراقي ،لأبطال روايته  الثلاثة.
وجعل لكل واحد منهم ثيمة خاصة به ،وأخضعهم لجدلية ذات أبعاد نفسية واجتماعية خطيرة ومعقدة ، في قدرتهم على التشبث بأشيائهم الجميلة (الوطن ، الأهل ، الحبيبة ) .
 
الفصل الأول.. سعيد العراقي (المسلم ) ..
عاش في كنف أسرة متعلمة صغيرة محافظة ، كانا ابويه يعملان في التدريس في مدينة الناصرية ، وكانا يعانيان من صعوبة الاندماج مع بيئتها المحيطة بها ، التي فرضتها عليهم ظروف عملهما ، مارسا عليه نمط صارم من التربية ، جعلته يعيش حالة من التناقض مع الأشياء المحيطة به ، وبلورت شخصيته المتمردة الرافضة لأي حالة انتماء قسري تفرضها عليه العوامل البايلوجية والدينية ، عقدة الطفولة هذه والتي امتزجت مع واقع سياسي واجتماعي غاية في السوء في ظل الحروب والجوع والاضطهاد ..جعلته في حالة من التخبط الهستيري ،واستحالته الى أنسانا سلبيا ، وخلقت لديه الكثير من الأسئلة الأزلية المبهمة التي كان يرددها مع ذاته ، ويبحث لها عن إجابات كبيرة بحجمها ..
هل كنت تأمل أن يتغير شيء ما ؟..هل آمنت يوما بالمعجزات ؟..الأساطير ، خرافات المستوحدين في جبال الصحراء ؟.. هل آمنت بالبطولات بالفرسان بالمعارك الشريفة؟.
اجتمعت كل هذه التداعيات لتنتج أنسانا لامنتميا  حتى مع اقرب الأشخاص اليه..ماتت أمه دون أن تراه او حتى تحظى بتوديع منه..
(اقتنعت وهي على فراش الموت بالتوقف عن السهر ، لابد ان تنام طويلا فلم يعد سعيد هناك كي يحدد مغزى سهرها ،نعم لابد ان تنام الان ).
ومات أباه وحيدا نتيجة عمل إرهابي ، وحين حضر لدفنه وجد من سبقه إلى ذلك ..
(عندما ذهبت لتدفن أشلائه وجدت الآخرين من أقاربك قد سبقوك ، لم ينتظرك احد .. وقفت في عزائه فكنت كأنك أنت من تعزيهم ، مثل ضيف طارئ ).
إلا إن حالة اللاأنتماء تجسدت بقوة في طبيعة علاقته بحبيبته (تارا ) رفيقة رحلته الدراسية ، والتي خذلها لأكثر من مرة حتى تجاوز عمرهما الأربعون دون أن تمكنه شجاعته من الاقتران بها .. وحين طبلت منه السفر معها تعذر متعكزا على تعلقه بوطنه .. إلا إن هذا التعلق كان وهما وكذبة كبرى جعلها طوق نجاة ليهرب منها مرة أخرى كما فعل في السابق .. في حواره الأخير معها أخبرته هي بذلك ..
( لم تفكر لحظة في المغادرة ليس لأنك تحب وطنك ، فأنت وأنا والجميع لا نصدق ذلك .. لكنك كنت اجبن من أن تحاول ).
وبعد رحلة شاقة في دوامة الفوضى التي تجتاح العراق بعد 2003 يقرر التخلي عن كذبته الكبرى  ليترك وطنه دون رجعة مودعا له بهذه العبارة  ..(لم تُذكر في وصية العراق، ولم ينتظروك في تقسيم التركة ) .
 
الفصل الثاني .. سعيد العراقي ( اليهودي )..
سعيد شاب يهودي امتهن الطب ، من بقايا لعائلة عراقية يهودية  ، شاء القدر لها أن تتشبث  بالعراق حتى الرمق الأخير .. كان يعاني الغربة بسبب انتمائه العقائدي في مجتمع مسلم فرض عليه عزلة قسرية ،وأحاطت به  أسوار الشوك  من كل جانب، في مجتمع ينظر إليه بالريبة والخوف ، لأسباب كثيرة منها عقائدية وأخرى سياسية وأمنية ، لذلك أراد أن يصنع له وطنا وهميا في مخيلته ، كحالة تعويض عن شعوره الهائل بعدم الانتماء .. في حديثة مع نفسه ..
(هل يمكن أن تتبنى وطنا .. تعبث بأرضه وسماءه .. تشكله كما تشاء ، ترسم حدوده ، وتدع له أن يخربش على الجدران قدر ما تريد) ..( هل يمكن أن تغتصب وطننا ؟..ثم تقتله غسلا للعار او تتفرج عليه وهو يباع في أسواق النخاسة ؟.. هل تُكره الاوطان على البغاء ).
حين توفي أباه الطبيب خضوري ، هنا جسد الكاتب عقدة الشعور بالانتماء الحقيقي ، في مفارقة مثيولوجية تتكرر في أدبيات معظم الأديان وهي ( وحدة الوجود ووحدة المصير ).
(يستأجر سيارة أجرة ويطلب من سائقها أن يساعده في جلب تابوت لينقل والده المتوفي .. يسرع السائق إلى حسينية مجاورة ويجلب تابوتا .. يدرك سعيد ان الموت يذيب الفواصل ).
وفي محاولة منه لتجاوز عقدة الانتماء نرى سعيد يفرط في عقيدته من اجل الزواج من حبيبته المسلمة (غادة ) ، ليصنع له وطنا في قلبها ،فيحدث نفسه بعد أن أصبح مسلما ..( هكذا مات سعيد اليهودي في الأوراق الرسمية باسم الحب ).
إلا انه بالرغم من كل ما فعله لم يستطع التنصل من جذوره ، وبقي انتمائه اليهودي يشكل عائقا أمامه في الاندماج بمجتمعه رغم اقترانه بغادة وإعلان إسلامه الصوري .. غادر العراق معها إلى بريطانيا ليكملا دراستهما في الطب ،وأنجبا طفلا ذكرا سماه ( أديم ) في محاولة منه لجعل ابنه تميمة تبقيه متشبثا بوهم الوطن ..
قال لها ذات مرة سأسمي المولود أديم ..
 وماذا يعني ؟..
يعني كل شيء وجه الأرض ، الوطن ، القلب الذي تركناه هناك .
هاجس الانتماء الذي رافقه منذ طفولته جعله يقرر العودة إلى العراق في خضم الحرب الطائفية ، ليستوقفه الإرهابيون عند الحدود الغربية ويقتلون زوجته وابنه ويصيبوه بجروح خطيرة .. وفي غيبوبته ، يرى ابنه وقد كبر ليطلب منه الغفران لأنه لم يحقق حلمه في الانتماء   .. ولأنه ( لم يوف بوعده المكفول جينيا ان يستمر وشما في جسد العراق ).. فيقرر بعدها سعيد ترك العراق .
 
الفصل الثالث .. سعيد العراقي (المسيحي)..
سعيد العراقي شاب مسيحي ، تمتد جذوره إلى بابل وآشور ، هو ابن هذه الأرض ، نشأ في أسرة مسيحية متدينة ، جعلت منه ناسكا يطلب الغفران ويلجأ إلى الاعتراف في كل حركاته وسكناته ، وطأة غربة الذات كانت اقل وقعا عليه من بطلي الرواية السابقين، سعيد المسلم ، وسعيد اليهودي .. لأنه قرر باكرا ان يترك العراق ليعمل في ليبيا مدرسا ، هربا من وقع الحصار الاقتصادي آنذاك، ومن قصة حب فاشلة مع فتاة مسيحية جميلة ، ليستبدل غربة الذات بغربة الوطن ، الا انه عاد بعد سنوات طوال ليقرر الارتباط بفتاة مسيحية أخرى ، سرقتها منه يد الإرهاب باسم الدين ،في حادثة كنيسة النجاة ليلة خطبتهم، ليقرر، مغادرة انتمائه للعراق ، حفاظا على انتمائه لعقيدته .