23 ديسمبر، 2024 6:47 م

جدلية الاستيعاب والتغيير

جدلية الاستيعاب والتغيير

ان وقوع المجتمعات في حالة من فقدان الوزن اثر الهزائم التي تتعرض لها يبدو شأناً انسانياً يمكن فهمه واستيعابه ولكن ان يقع الفكر في نفس الحالة او في دوامة من التخلف او الغباء الايديولوجي او الاستسلام القدري دون ادراك لحجم المتغيرات التي تفرض نفسها على مختلف الصعد فهذا امر في غاية الحيرة والخطورة في نفس الوقت.
المفروض ان المجتمع العراقي يمتلك من مقومات بقائه ومن عناصر حيويته ما يجعله ليس فقط بقادر على حماية نفسه وانما ايضاً له الامكانية في الاستجابة ايجابياً لما يجري من تحولات ويقتضي الامر نوعاً من اعمال الفكر المتوازن لاستنباط الصيغة الملائمة للمقاومة حتى ولو المقاومة السلبية لمنتجات الهزائم… وربما ما هو اكثر من ذلك كاستنباط نماذج للتكيف الايجابي التي يمكن ان تساهم مستقبلاً في الخروج من المأزق.
ولهذا تصبح مهمة التفكير في مستقبل المجتمع فرضاً وواجباً على كل من يستطيع ان يساهم في ذلك مثقفاً كان او سياسياً، ودون الاستسلام لوقائع يفترض انها حتمية حالياً ومستقبلاً. وبهذا الصدد قد يكون لزاماً على من يتصدى لهذه المهمة ادراك ان هناك نوعاً من النسق الجديد في العلاقات الدولية والاقليمية يتشكل وان مثل هذا النسق لا يعتبر فرضاً قدرياً وانما هناك فرصة ولو محدودة للمساهمة في تشكيله وتوجيهه. كما ان هنالك ايضاً نوعاً من الفكر الجديد يستحث المرء للتعامل معه ومحاورته وربما المساهمة في الاضافة له.
ليس من اغراض مقالي هذا الحديث عن النسق الجديد في العلاقات الدولية، وليس من مهمته ايضا المساهمة في تحديد الفكر الجديد حيث انه ايضاً لم يستكمل طرحه مع انه يتناول موضوعات تطرح بصورة متكررة كالديمقراطية وحقوق الانسان والتكامل الدولي والقضايا العالمية، وما الى ذلك… انما يستهدف التذكير بالخطاب العراقي الآن الذي تبلور بصورة شبه تفصيلية من حيث العناوين والاتجاهات بعد الاحتلال (9/ نيسان/ 2003) محاولاً ايضاح المفهوم العراقي (الرسمي) حول الدولة (النموذج). وقد طرح هذا الخطاب افكاراً حول البعد السياسي للدولة العراقية وقواعد عملها داخلياً وعربياً واخلاقياً ودولياً، وقد جرى ايضاح ذلك في اكثر من مناسبة، واما ما يلفت النظر ويستدعي محاولة البحث والتحليل في هذه المرحلة هو ما جاء من اضافة على هذا الخطاب في الرسائل التي وجهتها (الحكومة العراقية) الى من يهمه امر العراق بهذا الشكل او ذاك سواء من هم في الداخل او في الخارج…. رسائل تعيد النظر في الادارة والاقتصاد والامن والسياسة في ضوء التصور الحضاري المتطور للدولة باعتبارها دولة القانون والتحديث والعدالة والنزاهة وتكافؤ الفرص وغيرها… من القيم الضابطة للقرارات والتطبيقات خلال المرحلة المقبلة من حياة العراق (الدولة).
ومع ان رسائل الحكومة تستدعي النظر بعمق بكل ما جاء فيها الا ان النظرة الاجمالية لها تفيد بانها جاءت استكمالاً لشروط الاستجابة العراقية للتحولات التي حدثت عربياً واقليمياً (اسلامياً) ودولياً انطلاقاً من وعي عميق لحيثيات هذه التحولات، واستشراقاً لافاقها من خلال قدرة عراقية خاصة على المتابعة مع حساسية خاصة ايضاً ازاء التجديد في المفاهيم والاساليب التي يجب اتباعها والالتزام بها في التعامل مع الوحدات العربية والاقليمية والدولية ذات العلاقة.
ان ادراك التغيير في البيئة العربية والاقليمية والدولية وفي ضوء العلاقات المستجدة سياسياً واقتصادياً وحتى امنياً…. يستوجب ان يدخل العراق في مجال المنافسة في كل المجالات، ونظراً لشدة المنافسة فانها تتطلب اكبر قدر ممكن من قواعد الضبط والتوجيه، وهذا ما عبرت عنه الرسائل الحكومية طيلة سنواتها الماضية ولا سيما ما يتعلق بالشأن الاقتصادي والسياسي والامني…. ولكن اليس من الممكن ايضاً ان يصار الى بناء استراتيجية اكثر شمولاً بحيث تتناول السياسة التربوية  والتعليمية والسياسة الاعلامية والتثقيفية على وجه الخصوص. ففي ظل العالم المتصل والمجتمع المدني المفتوح يصبح من الضروري ان تتأكد الثوابت الاساسية والقيم الاجتماعية التي تحفظ للشخصية الوطنية قدرتها على الصمود والتصدي والمنافسة والنجاح. وفي هذه الحالة يجب تحديد مبادئ جديدة للنمو في ضوء اهداف محددة ايضا للمجتمع وفي سياق تطور محدد المعالم يضمن مستقبل المجتمع وخصوصيته.
 ان ادراك اهمية العامل الانساني في العراق يدخل في مقومات مسيرة التحديث العراقية، كما ان العامل السياسي كان دائماً موضع اهتمام وفاعلية، وعليه تعول امكانية بقاء العراق واستمراره وضمان دوره، وايضاً كان العامل الاقتصادي موضع رعاية على الرغم مما اعترضه من عراقيل وانحرافات، الا ان المرحلة الجديدة تقتضي وضع ذلك كله في اطار استراتيجية متكاملة لمختلف المجالات لاستخراج ما هو خفي في ذات الانسان العراقي وما يختزنه من طاقة وقدرة على الصمود والنمو والتقدم، واذا كان من الصعب تحويل حالة الشعور بالاحباط والعجز التي تسيطر على اذهان الغالبية العظمى من العراقيين الى حالة من الانتاج والثقة في ضوء انماط التفكير السائدة، فان هذا الامر يبدو اكثر احتمالاً فيما لو وضع المشروع العراقي للبناء الذاتي للدولة النموذج في اطار المشروع الحضاري العربي وليس هناك ما يفرض ان ينقطع التواصل بين المشروعين حتى لو افترضنا ان للقوى الدولية والاقليمية شروطها وسياساتها، ففي النهاية لا يمكن تصور الشخصية العراقية خارج ذاتها الحضارية والثقافية، وهي بحكم التجربة التاريخية قادرة على صياغة الاستجابة الظرفية المناسبة وبنفس الوقت المحافظة على مقومات الفعل التاريخي الاعم والاشمل. فالحياة وفقاً لهذا الفهم لا تعدو ان تكون علاقة جدلية بين الاستمرار والتغيير وبين الخصوصي والعام.
[email protected]