جدلية الاستثمار او الشراء وسردية السعودية “البقرة الحلوب” لأمريكا في عهد ترامب!

جدلية الاستثمار او الشراء وسردية السعودية “البقرة الحلوب” لأمريكا في عهد ترامب!

فجرت تصريحات ساكن البيت الأبيض الجديد الرئيس “ترامب” عند سؤال الصحفيين له في اثناء توقيعه على مراسيم رئاسية كان قد وعد بها أثناء حملته الانتخابية , جدلا واسع النطاق على جميع منصات مواقع التواصل الاجتماعي , ما بين منتقد ومتعجب ومستهزئ , حول من ستكون وجهته زيارته الخارجية الأولى “بريطانيا” ام “المملكة العربية السعودية” وبما ان عقليته التجارية دائمآ تطغى على توزان أي زيارة يقوم بها في منظور الربح والخسارة وليس الدبلوماسية , فقد قالها صراحة للصحفيين :”لقد قمنا بعمل جيد للسعوديين وولي العهد ,فإذا كان شراء منتجات امريكية بقيمة 600 مليار دولار فإن المملكة السعودية ستكون وجهتي الاولى , وسوف اطلب ان ترتفع قيمة المبلغ إلى تريليون دولار “.

ومن منظور هذا التصريح المالي الحاد وليس من منظور الدبلوماسية والعلاقات الثنائية المتوازنة بين البلدين فأن عقلية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عام 2017 غير عقليته عام 2025 فهناك فرق بين الزيارة الاولى للرئيس “ترامب” التي كان من خلالها يسعى جاهدا ويطمح من خلالها ولي العهد بأن لا يكون هناك أي رفض دولي خارجي على تنصيبه ,وبالأخص بعد مقتل الصحفي “جمال خاشقجي” لذا كانت الفاتورة في حينها التي قدمتها المملكة تبلغ 350 مليار دولار ولكن اليوم تختلف السردية جملة وتفصيلا عقلية وتفكير ولي العهد عن سابقتها , وبالأخص بعد أن ثبت أركان سلطة حكمه كولي للعهد وبانه اصبح مرشح قوي لخلافة والده بعد أن أزاح كل من يعترض طريقه ليصبح الملك القادم المنشود للمملكة!

صحيح أنه ما تزال جدلية المبلغ الطائل المرصود للاستمرار العلاقات بين أمريكا والسعودية ووضعها على سكة مسارها الصحيح يثير الكثير من التساؤلات :” هل هو سيكون شراء منتجات امريكية أم سيكون استثمار وشراكة استراتيجية مناصفة لمشاريع الطاقة والصناعات الثقيلة والتحويلية والانتاجية ؟ هذا ما لم يعرفه الرأي العام حاليآ ويحاول قدر الامكان البحث في ثنايا واسرار وخفايا هذه التصريحات المتناقضة بين ولي العهد والرئيس !.

ولكنها حتمآ تصطدم حول رؤية ولي العهد ” رؤية السعودية 2030 ” التي أطلقت في 25 نيسان 2016 والتي سوف يشترك في تحقيقها كل من القطاع العام والخاص مناصفة لجعل اقتصاد المملكة يعتمد على توطين الصناعة والانتاج والزراعة والخدمات المصرفية والسياحية بدلآ من القطاع النفطي ولتحقيق الأهداف الاستراتيجية نحو تنمية شاملة ومستدامة في المملكة حيث تستند أهداف الرؤية على 3 محاور رئيسية تتمثل بـ : مجتمع حيوي، اقتصاد صناعي وانتاجي مزدهر، ووطن طموح نحو المستقبل .

ولي وضع تمهيد حول الصورة الإعلامية الشائعة التي تربط بين السعودية وأمريكا بشكل خاص في عهد الرئيس “ترامب” ولأن كثيرًا ما تم وصف العلاقة بين الدولتين بأنها علاقة مصالح تجارية وأمنية بالدرجة الأولى وبعيدآ عن أي اعتبارات أخرى , ولكن في بعض الأحيان تم تصويرها من قبل بعض وسائل الإعلام الاجنبية بشكل ساخر أو نقدي على أنها علاقة “بقرة حلوب” حيث يتم استغلال الموارد السعودية النفطية دون أخذ العوامل السياسية والإنسانية بعين الاعتبار , وهذا التصور قد يتطلب تحليلًا معمقًا أخر لفهم الجوانب السياسية والاقتصادية لهذه العلاقة المعقدة , التي امتدت منذ بداية القرن العشرين وعقب تأسيس المملكة 1932 بدأت في التعاون مع الولايات المتحدة في مجال استخراج النفط ، وهو ما مهد بعدها لتوطين علاقة استراتيجية طويلة الأمد بين الطرفين , ومع هذا لم تكن هذه العلاقة خالية من التحديات، خاصة في فترات التحولات الجيوسياسية مثل أزمة النفط في سبعينات القرن الماضي ، وصعود وبروز الحركات الإسلامية المتشددة في الثمانينات وبالأخص في الحرب الروسية الافغانية والتي تطورت العلاقة بين المملكة وأمريكا الى حد فتح المساجد والمنابر على مصراعيها لغرض حث الشباب المسلم للذهاب والجهاد في أفغانستان لتخليص اهلها من الكفرة الملحدين الشيوعيين وبعدها انقلب السحر على الساحر في تتطور وتناسل من خلال كثرة الفصائل والاحزاب الاسلام السياسي والجهادي.

ولكن يبقى التحول الأبرز والمشهود له في هذه العلاقة كانت فترة رئاسة “ترامب” الاولى وعلى الرغم من استمرارية المصالح المشتركة، بدأت العلاقة تأخذ طابعًا أكثر وضوحًا فيما يتعلق بالتجارة والاقتصاد ، خاصة في مجالات السلاح والصفقات الاقتصادية، مما جعل الانتقادات تتزايد حول طبيعة وخفايا هذا الاستغلال السياسي والاقتصادي المتبادل في هذه العلاقة.

ويبقى السؤال بأن هل ما يزال ينظر الرئيس “ترامب” بأن السعودية تبقى بالنسبة إليه ليس شريك تجاري واقتصادي يعتمد عليه , وإنما شريك مستهلك فقط للمنتجات الامريكية أو كـ”بقرة حلوب” لغرض ادامة عمل المصانع الامريكية ,بالاخص مصانع المنتجات والمعدات العسكرية وحتى ولو لم يقلها صراحة ولكن افعاله وطريقة كلامه تبين وتذهب بنا بهذا الاتجاه دومآ .

وفي جدلية هذا السياق , فأن أحد أبرز السمات في عهد “ترامب” هو تعزيز المصالح الاقتصادية في السياسة الخارجية الأمريكية وكرجل أعمال قادم الى سدة الحكم والسياسة من عالم المال والأعمال, فأن لديه رؤية واضحة لزيادة الإيرادات الأمريكية من صادرات السلاح والطاقة، وهو ما كانت السعودية في موقع مثالي لتلبية جزء من هذه الرؤية لديه ومن خلال ما تضمنته زيارته الأولى إلى المملكة في أيار 2017 في إبرام صفقات ضخمة تتجاوز قيمتها 350 مليار دولار ومنها صفقات أسلحة ضخمة كان لها تأثير على وضع السوق العالمية وكان هدف الرئيس من وراء مثل هذه الصفقات الضخمة تعزيز وادامة اقتصاد الولايات المتحدة وتقليص العجز التجاري قدر الامكان ، وهو ما جعله في كثير من الأحيان يصر في معظم أحاديثه الصحفية ولقاءاته مع ناخبيه على أن السعودية يجب “تدفع لهم مقابل الحماية” الأمنية حيث كان أكثر صراحة من سابقيه من الرؤساء الأمريكيين السابقين في التأكيد على أن السعودية يجب أن تتحمل مسؤولية أكبر في تمويل وجود القوات الأمريكية في المنطقة ومقابل الحماية التي نقدمها لهم . وقد أثارت مثل هذه التصريحات الحادة بعض الانتقادات حتى من قبل حلفاء أمريكا التقليديين، الذين اعتبروا بدورهم بأن هذه السياسة قد تضر بالعلاقات الدولية في المستقبل و وبالإضافة إلى ذلك، تبنى “ترامب” سياسة أكثر تدخلاً وصراحة في الصراعات الإقليمية التي كانت تشارك فيها السعودية ، مثل حرب اليمن، حيث قدم دعمًا عسكريًا للمملكة بالرغم من الانتقادات الدولية حول حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والاهم في حينها كان اغتيال الصحفي ” جمال خاشقجي” مما أثار غضبًا دوليًا وأدى إلى انتقادات شديدة للقيادة السعودية ومع ذلك، فإن “ترامب” كان مترددًا أو غير مبالي في اتخاذ مواقف سياسية أو عقابية  حاسمة ضد المملكة وذلك بسبب المصالح الاقتصادية والتجارية والأمنية , مما جعل البعض يرى أن العلاقة فيما بينهما كانت تقوم على أساس مالي مادي بحت ,وليس وفق مبادئ دبلوماسية متعارف عليها بين الدول وحقوق الانسان , لان امريكا ورئيسها “ترامب” لم تكن تهمها مثل تلك المبادئ بقدر ما كان اهتمامها بالمال الطائل السعودي الذي يضخ في عجلة شريان الاقتصاد الأمريكي لادامة استمراره.

الرؤية الآخر لعقلية ولي العهد الأمير محمد تترجم الآن بأن تتوجه المملكة ليس فقط إلى أمريكا وحدها وإنما نحو تنويع شركائها الدوليين مثل ” روسيا والصين ” لغرض تقليل اعتمادها في المستقبل قدر الإمكان على الولايات المتحدة في ظل التغيرات التي تحدث في السياسة العالمية ويبرز من خلال هذا التوجه الجديد أيضًا في محاولاتها تقليل تأثير العزلة أو الضغوط الغربية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير أو توجه سياستها الاقليمية بمنطقة الخليج العربي والشرق الاوسط.

على الرغم من التغيير في الإدارة الأمريكية ، لكن نعتقد بإن المصالح المشتركة بين الرياض وواشنطن لا تزال قوية ، ولكن قد نشهد تغييرات تدريجية في كيفية وطريقة إدارة تعقيدات تحولات هذه العلاقة في عهد ترامب الحالي أو حتى في المستقبل وطريقه أن يتم محو سردية صورة “البقرة الحلوب” والتي تحولت إلى  نقطة جدل واسعة ، من حيث كانت تثير تساؤلات حول الاستفادة المتبادلة وحجم الضغوط التي تعيشها المملكة في السابق او ما تزال حاليا . ولكن مع التغيرات العالمية والإقليمية، سيظل السؤال الأهم: هل ستستمر السعودية متمثلة بولي العهد وملكها القادم في هذا الدور ؟ أم ستنتقل إلى مرحلة جديدة من التوازن الدبلوماسي والاقتصادي في علاقتها مع السياسات المفاجئة لساكن البيت الأبيض الجديد ؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات