تنشأ الجدلية من تنازع المفاهيم في ساحة الذهن ، وينتهي النزاع بالغلبة والظهور لأحدِها بعد أن يصبحَ أمرًا مفروغًا منه في الواقع الخارجي ، وجدليتنا هنا ليست من نمط الجدل بين اللفظ و المعنى أو الشكل والمضمون ، وإنما هي جدليةٌ من نمطٍ آخر ، هي جدلية بين الوجود والعدم ، أو بمعنى أكثر دقةً جدلية البدايةِ والنهاية .
ولعلَّ منشأ الصراع والتنازع في هذه الجدلية متأتٍّ من ارتباطها بالإمام الحسين ( عليه السلام ) متفرع ٌ من الاختلاف في بنية الذهنية المعرفية العقدية وتشكيلها ، تنازعٌ بين مفهومين متقابلين الأول بالضد من الثاني ، بيدَ أن هذا التنازع لا يخرج عن دائرة ( العقيدة الإنتماء ) .
في المسير إلى كربلاء الإمام الحسين يتوجه الملايين لزيارته ، بعد أن يعقدُ كلُّ واحدٍ منهم العزمَ ويقدمُ حوائجَه متوسلاً به إلى الله جلّ وعزّ في إنجازها ، ومها تكن أهميةُ هذه الحوائج وتنوُّعِها من شفاءِ مريضٍ أو توسيعِ رزقٍ وغيرها من الحوائج الدنيوية ، فإنّ السائر ما إن يصلَ إلى مرقده الشريف حتى يشعر بالراحةِ والاطمئنانِ في بلوغِ هدفه بقضاء هذه الحاجة قبل أن تُقضى ، وسرعان ما تخبوا تلك الشعلة الايمانية المتقدة التي كانت مستعرةً طيلةَ أيامِ المسير، وهنا تلفظُ مسيرةُ التكامل والعطاءِ أنفاسِها الأخيرة .
وهذا الانطباع الذهني المقرون بالسلوك العملي هو السمة السائدة في ظاهرة المسير إلى كربلاء، و هو الطرف الأول لهذه الجدلية ، ويقف في الجهة الأخرى من حلبة هذا النزاع من يرسم صورةً أخرى في التعاطي مع هذه الظاهرة ؛ إذ ينطلقُ في رفضِه لكلِّ المتبنيات التي يُختَم بها ذلك الحماس المتأججُ في نفوس الثائرين ، فالزيارة هنا لاتنتهي بل هسي مستمرةٌ ، ولا من حاجةٍ تُلتمس سوى البقاء مع الحسين وما أعظمها من حاجة ، وأنى لنا البقاء معه ، إلاّ إذا منحنا هذا المسير بطاقةَ السفر وجواز الركوب في سفينة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) التي اشتراها الإمام الحسين للجميع ودفع ثمنها يوم عاشوراء ، هي سفينة الإصلاح التي سنجوب بها بحار العالم ناشدين إقامة العدل والمساواة .
فنحن بالخيار في استهداف أحد سلوكين ؛ إما أن يكون الحسينُ وسيلةً لنا في إنجاز ما قصُر به وسعُنا عن إنجازه من حوائج الدنيا وملذاتها، وبعدها تُقطع علاقتُنا به ، وهنا لا يكون المسيرُ وسيلةً وإنما يكون غايةً في نفسه ، أو أننا نختار الثاني الذي به تستمر علاقتنا معه عليه السلام فيكون المسير إلى كربلاء لنا نورًا ينير بصيرةَ قلوبنا ويشحذُ همتَنا إلى تطبيقِ الإصلاحِ وتحقيق أهداف الإمام الحسين ، وهنا يكون المسيرُ وسيلةً إلى غاية أسمى هي مرضاةِ الله تبارك وتعالى فتكون مسيرةً باقيةً لا تنتهي وعطاءاً لاينفذ.
إنّ هذه الرؤية في كيفية التعاطي مع هذين البعدين ( الغاية والوسيلة ) على مستوى الاختيار بينهما لم تكن غائبةً عن القرآن الكريم ؛ إذ أشار إليها في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) وهي تمثل الجانب الأول من هذه الجدلية لأنها أمور زائلة ؛ إذ هي غاية ما يصبوا إليه الإنسان وتبلغ الذروةَ في الاهتمام لدى أغلب الناس ، أما الجانب الآخر فجاء تباعًا (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) [آل عمران: 14-15] فالمسير إلى كربلاء ينبغي أن يكون وسيلةً لتحصيل رضوان الله لا غايتهُ الدنيا فحسب ،وينبغي أن يُعلم بأنَّ تحصيلَ الجانب الثاني في المسير ( رضوان الله ) يمكن أن يُحققَ لنا كلَّ ما أغفلناه من ملازمات الجانب الأول ( ملذات الدنيا ) ؛ وقد أشار رسولنا الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى هذا المعنى بقوله : ((ومن جعل الاخرةَ أكبرَ همِّه جمع اللهُ عليه همَّه وأتته الدنيا وهي راغمةٌ )) بحار الأنوار.
نحن لانريد شيئًا من الحسين من ملذاتِ هذه الدنيا المتفانية ؛ لأنها تنهي ارتباطَنا به وينقطعُ بنا الطريقُ وهنا يحصل الافتراق عنه ، إنمانريد البقاء معه لأننا عشقناه بكل ما للعشق من معنى ، ولديمومةِ هذا العشقِ الحسيني ينبغي أن لاتغيب عنا في مسيرتنا الإنسانية أهدافُه التي سعى إلى تحقيقها وقد اختزلها في دائرة الإصلاح ( الذات – الأسرة – المجتمع ) ، وبهذا المعنى ننتمي إلى ساحة الخلود ، شكرًا لك ياحسين لأنك ألهمتنا معنى الخلود وأخذت بأيدينا إلى مطاف الإنسانية وعلمتنا كيف نحيا ونعيش أما كيف نموت فنحن نعرف .