“جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي” هو عنوان الكتاب الأحدث والأهم للباحث العراقي الدكتور علي المؤمن، والذي صدرت طبعته الأولى مؤخراً في (440) صفحة، عن مركز دراسات المشرق العربي في بيروت. ومن خلال قراءة موضوعية للكتاب واستقراء لما صدر في هذا المجال؛ يتضح لنا انه أول كتاب يبحث في الاجتماع السياسي الديني الشيعي العراقي المعاصر، وظواهره ومظاهره وتياراته العامة والخاصة؛ العلنية والخفية، والعلاقة الجدلية بين المنظومة الاجتماعية الدينية الشيعية التاريخية الموروثة الثابتة، والظاهرة الحزبية الدينية الشيعية المستحدثة؛ ممثلة بأول حزب ديني شيعي ( حزب الدعوة الإسلامية).
ويمثل هذا الكتاب أحد الحلقات المهمة في مشروع الدكتورعلي المؤمن لإعادة كتابة تاريخ العراق السياسي المعاصر، وحركته الإسلامية، وموقعها في هوية العراق الاجتماعية، وهو المشروع الذي بدأه منذ أوائل عقد الثمانينات من القرن الماضي. وقد كتب الدكتور المؤمن في هذا الإطار مجموعة كبيرة من الكتب والدراسات سبقت كتاب “جدليات الدعوة”؛ كان آخرها كتاب “صدمة التايخ: العراق من حكم السلطة الى حكم المعارضة” الذي صدر في العام 2010. إلّا أن ركيزة هذا المشروع كما يتضح من مجموع عناوين الكتب والدراسات هو حزب الدعوة الإسلامية. لماذا ؟
يجيب الدكتور علي المؤمن على هذا التساؤل في مدخل كتاب “جدليات الدعوة” بقوله: (( حين برز اسم حزب الدعوة الإسلامية بعد العام 2003 كأحد أبرز الأحزاب الحاكمة في العراق؛ كثر الحديث عنه في الأوساط البحثية والصحفية والإعلامية، بصورة غير مسبوقة؛ وصدرت في هذه الفترة عشرات الكتب والدراسات العربية والإيرانية والأمريكية والبريطانية والفرنسية التي درست تاريخه ومسيرته وسلوكه.
ولكن وجود المصادر المتعارضة والمعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة الأخرى، جعل معظم ما كتب يثير إشكاليات وتساؤلات حول الحزب أكثر من كونه يقدم مقاربات حقيقية وإجابات.
وظلت غالبية الإشكاليات تدور حول تاريخ تأسيس الحزب، ومؤسسيه، وطبيعة انتشاره وعبوره لحدود العراق باعتباره حزباً عالمياً، وعلاقته بالموضوع المذهبي والطائفي، أو ما يعرف بالعبور على المذهبية، والتحولات في الفكر التنظيمي والسياسي للحزب، والانشقاقات التي أدت إلى تقسيم التنظيم والدعاة، وتنظيمات حزب الدعوة غير العراقية وأسباب انهيارها، وممارسة الكفاح المسلح في مرحلة المعارضة، وسلوك «الدعوة» والدعاة داخل العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وتحول الدعاة إلى مسؤولين وحاكمين في الدولة العراقية.
وتزامن هذا مع إثارة الأحزاب والجماعات العراقية؛ سواء المنافسة داخل العملية السياسية في العراق الجديد، أو المعارِضة للعملية السياسية، أو الإعلام العربي المعارض لنظام العراق بعد العام 2003؛ معلومات دعائية عن حزب الدعوة، لعبت دوراً مهماً في رفع منسوب الإشكاليات والتساؤلات.
وساهمت مقولات ومذكرات بعض الدعاة الأوائل – ممن انشقوا عن الحزب أو خرجوا على نظريته، ودخلوا في حالات تعارض مع قيادات الحزب أو منهجه -؛ في تراكم الحالة الضبابية على مسيرة الحزب؛ لأنها مقولات – في التقويم الأكاديمي – تتسم بالإسقاطات الشخصية غالباً؛ فضلاً عن أن كثيراً من «الدعاة»، من خارج التنظيم وداخله، برزت لديهم أيضاً إشكاليات فكرية وسياسية، ترتبط بأداء حزب الدعوة بعد استلام السلطة، وعلاقة هذا الأداء بالفكر الإيماني والتربوي والعقائدي والتنظيمي والسياسي للحزب؛ وهي إشكاليات يرون في صلبها تعارضاً بين هذا الأداء والسلوك من جهة، ونظرية حزب الدعوة وفلسفة وجوده من جهة أخرى.
ومن هنا؛ وجدت أن الأمانة العلمية والمسؤولية التاريخية تدفعاني للكتابة حول هذه الإشكاليات والجدليات، ومحاولة تقديم مقاربات موضوعية حولها؛ زعماَ مني
بأنني بقيت ألاحق جدليات الدعوة لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً دون انقطاع، وأدرسها وأتعمق فيها. وأزعم أيضاً أنني استطعت تفكيك ومقاربة معظمها)).
لقد كانت باكورة نتاجات الدكتور علي المؤمن في هذا المجال مجموعة مقالات نشرها في العامين 1983 و1984 في الصحافة العربية في السويد وايران وبريطانيا، ثم دراسات نشرها في أواسط الثمانينات ونهاياتها، ثم ثلاثة مؤلفات كبيرة؛ أولها «سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق 1957- 1986» في (700) صفحة، والذي صدر في العام 1993، واستغرق العمل فيه أكثر من سبع سنوات، ويدرس ثلاثين عاماً من مسيرة الإسلام السياسي في العراق. والكتاب الثاني «سنوات الرماد»، ويدرس الفترة من 1987 وحتى 2002 (ستة عشر عاماً)، والثالث «سنوات الحصاد»، ويدرس الفترة من 2003 وحتى 2006 (أربع سنوات). أي أن المجلدات الثلاثة تدرس نصف قرن من تاريخ العراق السياسي المعاصر وحركته الإسلامية. كما نشر في نهاية تسعينات القرن الماضي دراستين عن الملف السياسي في مشروع الإمام السيد محمد باقر الصدر التغييري. أعقبه كتاب “صدمة التاريخ” في العام 2010. وخلال العام 2011 نشر تسع دراسات متسلسلة تحت عنوان: «حزب الدعوة الإسلامية من الشروق إلى السطوع»، ثم أربع دراسات بعنوان: «متلازمات حزب الدعوة الإسلامية» خلال العام 2014، وعدد آخر من الكتب والدراسات وعشرات المقالات الأخرى التي نشرها في الصحف العراقية والعربية؛ باسمه الحقيقي أو بأسماء مستعارة أو بدون. وأضاف الدكتور علي المؤمن حلقة تشويقية لمشروعه ـ كما نعتقد ـ حين أصدر رواية اجتماعية سياسية ملحمية بعنوان: «عروس الفرات» من (240) صفحة؛ تتحدث عن نضال الشعب العراقي؛ سيما “الدعاة” ضد نظام صدام حسين.
وقد كشف الدكتور المؤمن في كتابه “جدليات الدعوة” عن قرب صدور حلقتين جديدتين من مشروعه؛ الأول: كتاب تحت عنوان: «الحركية الشيعية العالمية»، ويكشف فيه لأول مرة أسرار وحقائق تنظيمات حزب الدعوة غير العراقية، ولاسيما
في لبنان وإيران والبحرين والكويت وأفغانستان. والثاني: كتاب تحت عنوان « رزية 2014 العراقية» حول ملابسات ما بعد الانتخابات النيابية في العام 2014، والتي أدت إلى سحب نوري المالكي ترشيحه لرئاسة الحكومة، وما أعقبه من تصدع داخلي كبير في حزب الدعوة خلال الأعوام اللاحقة.
و يتميز كتاب “جدليات الدعوة” عن كل العناوين البحثية التي طرحها الدكتور علي المؤمن حول الحركات الإسلامية؛ بأنه يدرس أدق تفاصيل الإشكاليات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي يواجهها حزب الدعوة الإسلامية؛ سيما أداءه بعد العام 2003، وهي إشكاليات يرى كثيرون أنها نتاج للتعارض بين أداء “الدعاة” من جهة، ونظرية “الدعوة” من جهة أخرى. أي أن الكتاب لا يؤرخ لحزب الدعوة أو يحلل مراحل حركته أو يترجم لشخصياته؛ بل أنه يطرح الإشكاليات والجدليات التي رافقت حزب الدعوة ويفككها ويقاربها موضوعياً.
ومن أهم الإشكاليات والجدليات الأساسية؛ التي ترتبط غالبيتها بموضوعات الاجتماع الديني والسياسي الشيعي، والتي قاربها الدكتور علي المؤمن في كتابه “جدليات الدعوة”:
1- الخلفيات التاريخية والحاجة الواقعية لإيجاد حراك تأسيسي في الوسط الشيعي العراقي وغير العراقي، وهو ما نتج عنه انبثاق فكرة حزب الدعوة الإسلامية، ومراحل تأسيسه، ومؤسسيه، ودعاته الأوائل، ولاسيما الفترة الممتدة من العام 1956 وحتى العام 1965، وخروج بعضهم من التنظيم، وخروج آخرين على النظرية، ومساحات الانتشار الجغرافي للحزب في سنواته الأولى، سواء داخل العراق أو خارجه، أو في أوساط الحوزات العلمية والجامعات.
2- التحولات في الفكر الفقهي والعقدي والسياسي والتنظيمي لحزب الدعوة وسلوكه الحركي، وعلاقة ذلك بالحواضن الاجتماعية، كالعوائل والمدن
والمجتمعات الحضرية والريفية؛ وأيضاً علاقته بفكر القيادات التي تسلمت زمام الحزب وسلوكياتهم وانتماءاتهم الاجتماعية وتخصصاتهم الدراسية.
3- انشقاقات حزب الدعوة، وعلاقة ذلك بمجموعة من العوامل؛ أهمها: طبيعة القيادة الجماعية ونوعية الهيكلية التنظيمية، وتأثير الفكر التربوي للدعوة على الدعاة، وأساليب صقل شخصياتهم كـ (قادة للأمة) كما يؤكد فكر «الدعوة»، وخلق حالة المسؤولية لديهم تجاه «الدعوة». إضافة إلى العامل الخارجي المهم، الذي برز بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران.
4- الأداء الحكومي والسياسي والتنظيمي والثقافي لحزب الدعوة الإسلامية وسلوك أعضائه بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، ومدى انسجام ذلك مع فلسفة حزب الدعوة ونظريته الايديولوجية وفكره العقدي والسياسي تحديداً.
5- إمكانيات التجديد في نظرية حزب الدعوة الإسلامية، والمواءمة الموضوعية بين «الحزب السياسي» و«الدعوة الدينية» في مرحلة الحكم؛ أي: حزب الدعوة كحزب سياسي، والدعوة الإسلامية كمنظومة عقائدية تبليغية؛ وذلك بسبب بروز إشكالية تقول: إن «الحزب» بعد العام 2003 نما على حساب «الدعوة»؛ مما أدى إلى ارتفاع منسوب «الحزب» وانخفاض منسوب «الدعوة».
6- إمكانيات استعادة حزب الدعوة الإسلامية منظومته العالمية، وإعادة بناء تنظيماته وأقاليمه ومناطقه غير العراقية داخل البلدان الاخرى، كما في مرحلة ما قبل العام 1984؛ سواء بأسماء أخرى أو بالاسم نفسه؛ مستفيداً من وجوده في السلطة ومن إمكانياته الجديدة الفاعلة؛ ليشكل ذلك دعماً متبادلاً لكل وجودات الحزب؛ وصولاً إلى دخولها العمل السياسي العلني.
7- علاقات حزب الدعوة الإسلامية – في جانبها النظري والتطبيقي – بالمنظومة الدينية الشيعية، وتحديداً المرجعية النجفية وحوزتها التاريخية من جهة، ومبدإ ولاية الفقيه ومصداقه من جهة أخرى؛ لأن هذه العلاقات من أساسيات موقف «الدعوة» الفكري، وما يترتب عليها من جدليات كثيرة؛ والتي بدأ بعضها مع نشوء الحزب، ثم تحولت إلى قضية القضايا بعد انتقال قيادة «الدعوة» ومعظم كوادرها وعملها المركزي إلى إيران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية.
وحزب الدعوة؛ كغيره من الجماعات الايديولوجية الشمولية؛ هي ظاهرة اجتماعية مركبة، وليس كالجماعات السياسية الصرفة التي تخضع لمناهج علم الاجتماع السياسي. فحزب الدعوة هو حزب ديني سياسي ثقافي؛ أي ظاهرة اجتماعية دينية سياسية ثقافية. وبذلك تحتاج دراسته إلى منهج مركب؛ يجمع بين مناهج الاجتماع السياسي والديني والثقافي. وهو المنهج الذي استخدمته في هذا الكتاب.
وتوزعت موضوعات كتاب “جدليات الدعوة” على ستة فصول ومجموعة من الملاحق. يحمل الفصل الاول عنوان: «بدايات الدعوة وجدلية الاجتماع الديني الشيعي»، وتم تكريسه لبحث الخلفيات التاريخية والفكرية والسياسية والاجتماعية لتأسيس حزب الدعوة، ومسارات التأسيس ومشاكله وملابساته النظرية والاجتماعية، وشخصيات المؤسسين والدعاة الأوائل وانتماءاتهم الوطنية والاجتماعية، وتاثير ذلك في تحديد نظرية حزب الدعوة ومساراته العملية.
واستعرض الفصل الثاني الذي حمل عنوان: «نظرية حزب الدعوة الإسلامية وجدليات التطبيق»؛ المفاصل الأساس في نظرية حزب الدعوة وفكره وثقافته، وكشف عن ملابسات الفصام بين بعض المفاصل النظرية وسلوك الحزب والدعاة، ودرس المرتكز الأساس في نظرية حزب الدعوة؛ أي المرتكز الديني العقيدي الايديولوجي، وما لحق به من إشكاليات بعد العام 2003، ومشاركة الحزب في حكم دولة غير إسلامية وفي إطار مبدإ وضعي (الديمقراطية) وفي ظل احتلال أجنبي.
وفي الفصل الثالث: «جدلية الوطنية والعالمية في نظرية الدعوة»؛ قارب الباحث المرتكز العالمي في نظرية حزب الدعوة، الذي يستند إلى عالمية الإسلام في البعد النظري، وعالمية النجف الأشرف في البعد الواقعي؛ لانتماء «الدعوة» إلى مدرسة النجف الأشرف في مجالي الاجتماع الديني والاجتماع السياسي. إضافة إلى ما آل إليه التنظيم العالمي للحزب بعد العام 1982.
وفي الفصل الرابع: «جدلية علاقة حزب الدعوة الإسلامية بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه»؛ درس الدكتور علي المؤمن العلاقة الجدلية بين نظرية حزب الدعوة وواقعه التطبيقي وبين مبدأي المرجعية الدينية وولاية الفقيه ومصاديقهما النجفية والإيرانية؛ كونها جدلية وليست إشكالية؛ وإن كانت جدلية ملتبسة.
وفي الفصل الخامس: «جدلية الانشقاقات في حزب الدعوة الإسلامية»؛ تم التركيز على ظاهرة الانشقاقات في حزب الدعوة وأسبابها. واستعرض الفصل أهم الانشقاقات في مسيرة حزب الدعوة؛ مع التركيز على هاجس انشقاق السلطة في آب/اغسطس من العام 2014؛ والذي لو كان قد حدث لدمّر معه العراق والشيعة وحزب الدعوة.
وحمل الفصل السادس عنوان: «العراق المأزوم وموقع حزب الدعوة الإسلامية في جدلية الحل»، ويتعرض إلى حقائق أزمات العراق المتأصلة في تاريخه السحيق وديمغرافيته وجغرافياه، وفي موضوعات علم النفس الاجتماعي، والاجتماع الثقافي والسياسي. وهي الأزمات التي ساهم في كشفها صراع حزب الدعوة مع واقع الدولة العراقية منذ العام 1958، ثم تفجرت بشدة بعد سقوط نظام صدام في العام 2003، على شكل براكين ذات قوة تدميرية هائلة: طائفية وعنصرية وإرهابية وسياسية وخدماتية واقتصادية وثقافية وإدارية وجغرافية. وهي أزمات لاعلاقة لها بنظام صدام أو التغيير الذي حصل في العام 2003 وحسب، بل هي أزمات متجذرة في التاريخ والواقع العراقيين؛ ولم يكن نظام صدام سوى مظهر فاقع ومولد لهذه
المظاهر، وفي الوقت نفسه قوةٍ كاتمةٍ وخانقةٍ لها. ويبحث الفصل أيضاً في إمكانيات حل هذه الأزمات بالطرق العلمية والواقعية.
القراءة الموضوعية لكتاب “جدليات الدعوة” تؤكد حقيقة أن لاغنى لمطابخ القرار السياسي الداخلي والخارجي عنه، ومراكز البحوث والجامعات، والباحثين والكتاب والمثقفين، وكل المعنيين بالشأن العراقي والشيعي. فهو يقدم فهماً علمياُ لما يدور حالياً من جدل وصراع سياسي داخلي واقليمي حول هوية العراق في مضمونها الإجتماعي السياسي الديني.