23 ديسمبر، 2024 10:20 ص

قصّةٌ قصيرة
منذُ فترة طويلة ،َ يُغلقُ باب غرفته ونوافذها ويتوغّلُ في صمت ، تاركاً حبالَه تلتفُّ حولَ جسده  في عمق ظلام يجعلُهُ أسيراً للخوف والرعب ، تظلُّ أنفاسُه الساخنة تلامس سطوحَ الصمت الباردة ، الصمتُ المنكسرُ في آنية الخوف ،ويحاول الحصول على إغفاءة فوق طاولته العتيقة لكنّه لا يستطيع ، فيحتضنَ لهاثَ صدره ؛ ليسافرَ داخل ليلٍ طويل مُعْتم ، داخل ممرّاتٍ تبدأ في نقطة يجهلها في صدره ، يقفُ .. يصرخ .. يحسّ بأنَّ صوتَه يضربُ سقفَ الغرفة يتكسّر في إذنيه كأنّه قرعُ طبول ، يعاودُ البكاءَ ؛ ليخففَ من ثقل المعاناة ،  راحَ بكاؤه يُجلجلُ بشهقات أنثى .
منذ أيّام وهو يشعرُ بشيءٍ كبير ينهارُ في داخلة أكبر من الأسى أو الحاجة إلى البكاء يحطّمُ صدره ، شبحُ الموت الذي يتجسّدُ في ذهنه إثر كلّ تفكير يعيده إلى علاقاته السابقة بما حولَه ، تحت سماء مثقلة بغيوم الكآبة التي كانت تغفو في داخله ، إنّه إنسانٌ منعزل يجلس داخل غرفته يتناول أحدَ الكتب المركونة في الزاوية ، كتبٌ تعلوها طبقة من غبار الأيّام ، لم يكن في غرفته سوى هذه الكتب السوداويّة لسارتر ، قرأ ” الجدار ” فأصبحَ حاجزاً بينه وبين الآخرين ، حياته كلّها عبث وعزلة أراد أن ينزعَ الجدار من داخله أخذ الجدارُ يرتفع ويرتفع فيمتلئَ رأسُه بكلّ أسماء الضجيج ، أصبح أسير رغباته إذ رغب الركض حافياَ أمام أنظار الناس ، أن يكونَ تحت المطر بكامل ملابسه ،  يجول بنظره لكلّ الاتجاهات فيختارَ مكاناً متوارياً عن الأنظار .
يظلّ يخاطبُ نفسه من أين جاءتْ هذه الرغباتُ وهذا الانصياع للرغبات ؟ ! لا يدري
هناك شيء يحسُّ به لكنّه لم يستطع التوصّل إليه بعد ، فلا يسعه إلّا أن يأخذ مكانه في غرفته حيث يعود إلى نفسه ، تحتويه العزلةُ التي تنفجرُ في داخله ، لديه أصدقاءٌ كثيرون رحلوا كلّ ما يربطه بما حوله هو شبح يطارده أثناء حركته في الخارج .
 أمّا عدمُ النوم هذه المشكلة الرئيسة التي كانت تشغل ذهنه ، فقد وجدَ لها حلّاً ، فكان يقضي الليل متجوّلاً كالكلب الضال يعبُّ الخمر ويمضغ اليأسَ والهزيمة  يجوب المدينة طولاً وعرضاً حتّى الفجر وعندما يسيطر عليه النعاسُ يلجأ إلى مسطبة خشبية أو دكّةٍ إسمنتيّة يستلقي عليها للحصول على غفوة صغيرة ، أصبحتْ الكلابُ السائبة تعرفُه ، أحدهم يتأمّله دائماً  يجلسُ قبالته يتلصص بعينيه وهو ينظرُ إليه طويلاً يشاهدُ لعابه ينقط على وجه الأرض، يهزُّ ذيله كأنّه يريدُ التحدّثَ معه فيذهبَ لسانُه الطويل يتأرجح أمامَه عندما يشعر بأنّ لهاثَ الكلب أصبح بطيئاً وإنّ حنكه يفترش الأرض .
 يبدأ بمخاطبته أتريدُ أن تأخذَ لحمةً طريّة من رجلي أو بطني ؟! اِفعل ! 

أوهامٌ كانت تختلط في رأسه مع ظلام الليل ، المقيت ، الثقيل ،الذي ينقلب ألماً ، فيقف .. ينتفض للتخلّص من المشاعر التي في داخله ، بسماع أغنية للسيدة أمّ كلثوم ، ممراتٌ أطفأتْ مصابيحَها الأيّامُ السود التي لم تشرِقْ فيها شمسٌ منذ زمن بعيد ، لكنّه لا يقدر ، لم يُعدْ يرغبُ في التفكير بما حوله أو مجابهة الأشياء إلّا في تلك الدقائق القليلة التي يكون فيها منعزلاً ، متوارياً تماماً عن الأنظار ..
 قــال مرّة لأحدِ أصدقائه قبل أن يفقده : إلى متى  أطارد نفسي ؟!
 متى يدقُ الموتُ بابي وأستريح ؟ !
 فقط أريدُ أن أعرف لماذا أنا هكذا ؟
 لابدّ أن أعرفَ من أيّةِ نقطةٍ في داخلي ينبعُ الظلام ؟
آه .. أيّتها الحياة اِمنحيني بعضَ الفرح ؛ لأرمّم دواخلي المهشّمة !
اِبتسم صديقُه قليلاً إنّه يعرفُ أنّ في داخله خيوطَ  ضياء كثيرة ولكنّه فَقدَ دربَه إليها ، بسبب تلك الحرّيّة الإنسانيّة الوجوديّة التي تحمِلُ في طيّاتها بعضَ أنواع الجنون الذي يؤدي إلى القتل .. إلى الموت هذا الزائر الذي يسمّونه ومضةَ الانتهاء ، كـان يغضب ، الغضبُ يقطعُ خيوطَ اللهاثِ في داخله لا يدري كيفَ تمضي البقية الباقية من عمره ، وضعَ نفسه في مطبٍّ لا يستطيعُ الخلاصَ منه .
يخاطبُ نفسَه ماذا يراد من مقولة  ( أنا أفكّر إذن أنا موجود )
إنّ تفكيري قد توقّف لابدَّ أن أنهيَ حياتي ؟!
 هذه الحياةُ البائسة ، الراكدة ، المملّة ، لابدّ أن أجدَ لها حلّاً.
شاهد جداراً ممتدّاً على شاطئ النهر ، تسلّقه واستقرّ عليه كان جسده ينضحُ ظلاماً يصبّ في نهر الخوف  ، هبتْ رياحٌ ساخنة لفحتْ وجهه تطايرَ معها تراب خفيف مع بقايا قشٍّ يابس .
 نظرَ أسفلَ الجدار شاهدَ الجدارَ يرتفعُ ويرتفع ، اِرتبكَ ،فَقَدَ توازنَهُ راح هاوياً إلى أسفل طالتْ المسافة بين الجدار وهبوطه المستمر ، صرخَ غيرَ أنّ أحداً لم يسمعْ صراخه ، سقطَ في النهر لوّح بيده لكنّه اختفى ، ثمّ ظهرَ ثانية ، هرولَ رجالٌ كانوا بمحاذاة الشاطئ وهم يصرخون ويلوّحون بأذرعهم بيأس ، لم يكنْ باستطاعتهم عمل شيء ينقذه  ، فَقدْ اِختفى في النهر الجارف إذ حملته الأمواجُ  بعيداً  .