ما الذي يتطلبه الأمر كي نكون بشراً بكامل وظائفنا الإنسانية؟
في المجتمعات الحيّة، يُقاسُ رقيّ الإنسان بمدى انفتاحه على التعبير، تخيّله، محبته للجمال، وحضوره الرمزي داخل التاريخ. أما في المجتمعات المأزومة، فإن الوظائف الإنسانية تتعطل واحدةً تلو الأخرى، وتصبح الفنون أول ضحية تُقدّم قرباناً على مذبح الخوف، والتعصب، والعُصاب الجماعي. العراق ليس استثناءً، بل بات نموذجاً.
ماذا يعني أن تُرمى جدارية الفنان الكبير غازي السعودي في حاوية نفايات؟
ما حدث لجدارية الفنان الراحل غازي السعودي — أحد رموز الفن العراقي الرافديني الحديث — حين تم اقتلاعها كأنقاض وإلقاؤها في حاوية النفايات، ليس حادثاً معزولاً ولا خطأً إدارياً. إنه فعل رمزي متعمَّد؛ يُجسّد موقف السلطة من الفن ومن الذاكرة الجمعية.
يجب أن نتذكر دوما أن أول ما يُصاب بالعطب حين تتعرض المادية الثقافية لأي مجتمع إلى انتهاك ممنهج، هو جوهر الإنسان. من هنا تبدأ سلسلة الارتدادات الكارثية: الفكر يتشظى، والدين يتحوّل إلى أداة أيديولوجية، والأخلاق تُختزل في طقوس، وتتحول الفنون إلى صراخ باهت في وادٍ مقفر. هكذا تنهار المجتمعات من داخلها، لا من خارجها.
العراق اليوم لا يعيش أزمة سياسية أو اقتصادية فحسب، بل أزمة وجود إنساني ممتدة. السلطة السياسية فيه — بتناقضاتها الأيديولوجية والتكوينية — قد أخفقت، لا بالصدفة، بل بتعمدٍ مؤسسي، في صيانة ما تبقى من هوية وطنية جامعة. فبدل حماية التراث الإبداعي والتاريخي، شرعت بتفكيكه، وباتت تتعامل مع رموز الفن والثقافة بوصفها فائضًا عن الحاجة، أو رجسًا ينبغي اجتثاثه.
ماذا يعني أن تُرمى الأعمال الفنية في حاوية نفايات؟
هذا ليس فعلًا عارضًا، بل رسالة: الفن، بما يحمله من إرثٍ رافدينيّ وإسلاميّ وعربيّ، لا مكان له في مشهدٍ سياسيّ مأزومٍ بالخوف من الجمال، ومصابٍ بهلعٍ وجوديّ من الذاكرة.
الفن، كما تعلم الأمم الحيّة، ليس زينةً أو رفاهًا، بل هو سجلّ حضاريّ، وشاهدٌ على أن المجتمع قادر على التعبير عن ذاته، لا عبر العنف، بل عبر الخيال. حين يُحارب الفن في العراق، فإن ما يُحارب حقًا هو جوهر الإنسان العراقي. يُراد له أن ينسى، أن يتوحّش، أن يتحوّل إلى أداة طائفية أو عشائرية أو قومية دون عمقٍ إنسانيّ.
الفن ليس زينة ولا كماليات، بل مرآة. والفرد الذي يخاف مرآته، يخاف ذاته. هذه قاعدة وجودية صاغها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حين قال: “نحن نحطم المرايا لا لأننا نكره انعكاسنا، بل لأننا نكره ما نظن أنه الحقيقة.”
ما تخشاه السلطة هو أن تعكس الجداريات واللوحات والموسيقى والقصائد صورة العراق الحقيقية: المتعددة، الثرية، الجميلة، والمؤلمة في آن. ولذلك يتم تصحير الذاكرة، وتعقيم الفضاء العام من كل ما هو فني، وإحلال الشعارات المفرغة محل الإبداع الصادق.
لقد تحوّلت السلطة إلى مقبرة جماعية للقيم، وأمست المشاريع الفنية عرضة للوأد لا بالتقشف المالي، بل بالعداء الرمزي لها. وما أكثر المتواطئين: إعلاميًا، دينيًا، اجتماعيًا، فكلّهم ــ بوعيٍ أو بلا وعي ــ يروّجون لأنموذج الإنسان المقطوع الجذور، اللاهث وراء “الانتصارات الرمزية”، بينما يُشطب تاريخ أمّة بأكملها ويُستبدل بخطابات فارغة تُسوّق الماضي بوصفه بديلاً للحاضر، وتغتال أي بذرة مستقبل.
المفكر المغربي عبد الله العروي حذّر من تحول الثقافة إلى سلعة سياسية، وقال: “حين تتحول الثقافة إلى خطاب تعبوي، تفقد معناها كأداة وعي.” وفي العراق، تحوّلت الثقافة — أو بالأحرى تم تحويلها — إلى متحف مكسور، وشواهد قبور بلا شواهد.
فكيف لأمةٍ أن تحافظ على هويتها إذا حاربت فنها؟ كيف لأجيال أن تتشرّب معنى الوطن، إذا ما حُرمت من رموزه الفنية والمعمارية والموسيقية؟
إنّ هذا التخريب المتعمد للذاكرة الفنية لا يُمكن فصله عن الانهيار الأوسع في البنية القيمية، حيث أصبح التفاضل بين الناس قائمًا على الطقوس والشعارات، لا على الإبداع أو الجهد أو الخدمة العامة. صار الدين، كما الأيديولوجيا، أداة للتفوق الزائف، لا للتكافل، وبات الفن يُقاس بمدى “ملاءمته” لمزاج السلطة، لا بعمقه أو صدقه.
كما أشار المفكر علي شريعتي، فإن “الاستبداد حين يتديّن، يصير أكثر قسوة لأنه يُقدّس أدواته.” وقد شهد العراق هذا النمط بوضوح: فالفن بات يُصنّف لا بناءً على قيمته الجمالية، بل على مدى خضوعه للرقابة الدينية أو الأيديولوجية.
العراق، بلد الاختناق الحضاري، صار نموذجًا مأسويًا لانهيار التوازن بين المادي والرمزي، بين الحاجة إلى الخبز والحاجة إلى الحلم. والضريبة، كما هو واضح، لن يدفعها الحاضر وحده، بل الأجيال القادمة التي ستولد في فراغٍ هائلٍ من المعنى. ستنمو بلا ذاكرة، بلا نماذج، بلا رموز؛ في مجتمعات محافظة حتى الاختناق، ومنحرفة حتى العدم. مجتمعات تمجد الشهادة وتخاف القصيدة. تحارب الصورة وتقدس الشعار.
قال جبران خليل جبران: “الفن هو الخطوة الأولى التي يتخذها الكائن الحيّ نحو الأبدية.” فإذا كان الأمر كذلك، فإن ما يجري في العراق ليس مجرد حرب على اللوحات، بل على الأبدية نفسها.
وإذا أردنا تشخيص هذا العطب لا بوصفه أزمة سياسة فقط، بل كسلوكٍ إنسانيّ، فإننا بحاجة لقراءة متأنية للطبيعة النفسية لمجتمعات تُمعن في محو ذاتها، وتقاوم الحداثة لا لأنها مستعمِرة، بل لأنها كاشفة. المجتمعات المأزومة ترفض الفن لأنها ترفض المرايا. الفن الصادق، كالفلسفة، لا يُجامل، ولا يتواطأ، ولذلك يُخيف السلطة.
في النتيجة، فإن السؤال الملحّ ليس عن جدوى الدفاع عن الفنون، بل عن جدوى وجود مجتمع بلا فن، بلا أرشيف وجداني، بلا خيال. كيف يمكن لمثل هذا المجتمع أن يعيد إنتاج ذاته؟ كيف ينشئ مواطنًا سليمًا نفسيًا وهو يحرمه من أدوات التعبير والذاكرة والحلم؟
ربما يكون الوقت قد حان لإعادة تعريف الهوية الثقافية: ليست هي التغني بالماضي أو رفع الرايات، بل هي قدرة المجتمع على إنتاج ذات قابلة للحياة، أي ذاتٍ تعي ذاتها، تحترم تاريخها، وتسمح لفنانيها أن يكونوا رواة الحكاية، لا ضحاياها.