18 ديسمبر، 2024 2:01 م

جحيم الأيام // الحلقة الواحد والعشرون

جحيم الأيام // الحلقة الواحد والعشرون

في يومٍ شديد الحرارة كنا في قبر الأحياء نئن من شدة الحر فقد كان المكان لايطاق لضيقه وشدة الشمس النافذة اليه من كافة الجهات. دون سابق انذار صرخ الجندي الايراني يطلب منا الاستعداد داخل القاعة والوقوف بطريقة منتظمة لأن أحد الزوار المهمين سيأتي بعد قليل للاطلاع على أحوالنا.استبشرنا خيراً لعلنا نستطيع التخلص من هذا الجحيم الأزلي.تدافعت الأجساد النتنه لقلة وجود الماء.تلاحقت الأنفاس وجاء الضيف وراح يتكلم بطريقة اعتيادية تشبه المرات السابقة – من تخدير الأعصاب ثم الوعود الكاذبة – فجأة قال بأننا سننتقل إلى مكان جديد وسيكون بمثابة (ترمينال) أي محطة انتظار.من هناك ننتقل إلى بلدنا إن شاء الله ولكنه لا يدري متى سيكون ذلك الانتقال إلى البلد البعيد القريب من قلوبنا. بدأت الاستعدادات وفرح الجميع بهذا التحول غير المتوقع.شرعنا نحزم حقائبنا– أقصد أكياس الطحين التي عملنا منها حقائب.اصطفت السيارات في ذلك الجو الحار وحينما تحركنا شعرت أن أعصابي تكاد تتلاشى في الفضاء الفسيح لشدة الانفعال.لقد مضت سنوات طويلة لم أستقل فيها اية سيارة.كنا ننظر إلى بعضنا البعض غير مصدقين مايجري.كانت العيون تتلهف وتتحرك بقلق واضطراب.بعد نصف ساعة من المسير بعيدا عن بيت الخوف الذي كنا نسكنه عادت البسمة نسبيا إلى الشفاه ورحنا نتحدث عن كل شيء نشاهده في الطريق المؤدي إلى المعسكر الجديد.بالنسبة لي كانت نظراتي تلتهم الطريق التهاما وكأني لا أريد أن أضيّع لقطة واحدة.كان منظر الناس على جانبي الطريق يثير اشجاني ويحرك مشاعري إلى ما لا نهاية. حينما أشاهد امرأة في خريف العمر أقول مع نفسي ربما تكون شريكة حياتي الآن في عمرها بعد كل هذه السنوات.الحياة في قبور الأحياء لاتعترف بالزمن ولاتعترف بتواتر السنوات.كل شخص منا يحمل صورة خاصة للوضع الذي تركه قبل أحد عشر عاما ويتصور أن الزمن باقٍ على حالهِ وأن أبناءه لازالوا صغارا وان زوجته لازلت فتية في عمر الزهور. عندما تقع نظراتي على وجه صبي حطت عصا ترحال عمره على الخامسة عشرة ينشرح صدري وأخاطب ذاتي بأن ولدي أصبح عمره بعمر ذلك الفتى.في البداية أشعر بالفرح لكنني بعد قليل أشعر بكآبة شديدة في أعماق روحي. لا أتصور أن ولدي قد مرت به كل تلك السنوات وأنا بعيد عنه.يا الهي إن هذا الفراق يحطم كل ذرة سعادة قد تجد لها طريقا سريعا إلى فؤادي.

وطال الطريق وحل الظلام وتعب الزملاء واسترخت الرؤوس إلى الوراء , بيد أني بقيت يقظا لا أستطيع النوم أبدا فكل جزء من أجزاء روحي كان يتطلع إلى الطريق ونظراتي تسجل كل مشهد حتى وإن كان لايستحق المشاهدة فكل شيء جديد بالنسبة لي.آلاف الأفكار الحزينة ترفرف فوق ذاكرتي تنسج خيوطا وهمية لا تلبث أن تتلاشى في الفضاء عند كل هزة مفاجئة لحركة الحافلة ثم تعود لتنسج خيوطها مرة أخرى.وصلنا المكان الجديد في تلك الليلة المرهقة.تزاحمنا حول المكان الخارجي وكل شخص يحاول أن لا يفقد صديقه القديم ليكون قريبا منه عند السكن.بدأت مراحل التفتيش الطويلة المرهقة وتناثرت حاجياتنا الصغيرة والكبيرة وبشق الأنفس دخلنا معسكر كهريزة . هو المكان الذي قال عنه المسؤول الكبير الذي زارنا قبل الانطلاق– سيكون محطة انتظار قصيرة إلا أن تلك المحطة القصيرة استمرت سنتان من العذاب المستديم.عذاب نفسي وجسدي في نفس الوقت. كانت الليلة الأولى بمثابة جحيم حقيقي للجميع.كان المكان متروكاً وقذراً جداً وشديد الحرارة.استقرينا في أسرّتنا القذرة.كان الإرهاق الشديد قد أخذ من كل واحدٍ منا مأخذاً. حاولت النوم لمدة قصيرة لكني قفزتُ مذعوراً جداً كأنَّ دبوساً حديدياً حاراً قد نفذ إلى أعماق قلبي.كشفتُ عن ساعدي واذا بحشرة صغيرة حمراء تمتص دمي. كنا نسميها – كالوسة – أي حشرة صغيرة حمراء تمتص دم الانسان وتلسعه بطريق مؤلمة جدا . قفزتُ من الفراش واذا بجيش من حشرات الكالوس يدّب فوق وسادتي دبيبا مرعبا حقا. شاهدت كافة الزملاء البؤساء في كافة زوايا ووسط القاعة المرعبة يفعلون نفس الشيء. كل واحد منهم يحاول ان ينقذ نفسه من لسعات متكررة لاتنتهي . ظل الجميع يقظاً حتى الصباح.كانت أخشاب الأّسّرة وحديدها مرتعا لهذا النوع من الحشرات . ياله من جحيم جديد نواجهه بكل الم.بدأنا نُخرج أسرتنا وفراشنا في الشمس المحرقة في محاولة يائسة لتنظيفها من تلك الحشرات واستغرقت هذه العملية عدة أيام .

الحياة في كهريزة

كان معسكر – كهريزة – بالنسبة لي نوع من تغيير الحياة على الرغم من أن كافة المعسكرات تتشابه ولاتختلف عن بعضها البعض بَيْدَ أنني وجدت نوعاً من التغيير نحو الأفضل قياسا بمعسكر برندكَ. لقد وجدتُ كتباً كثيرة تعود لأولئك المعذبون في الأرض الذين كانوا يعيشون هنا في هذا المكان المنسي.حصلتُ على عدد لابأس به من الكتب الأجنبية بلغات متعددة لكن فرحتي لم تكتمل فقد سحبوا تلك الكتب في لحظة لم تكن في الحسبان. كان المكان يوحي بالنسبة لي بشيء من التفاؤل الدفين ولكن عندما مضت أشهر قليلة دون أن يحدث شيء يدفعنا نحو الخلاص شرع ذلك الأمل يتلاشى يوما بعد آخر لدرجة أنني فقدت أي بصيص من نور يسارع في قذفنا خارج هذا المكان البعيد عن كل شيء يقودنا إلى مساحات الحرية المرتقبة.عدنا نعيش حياتنا السابقة الروتينية المملة في المعسكرات القديمة وبدأنا نمارس نفس الطقوس القديمة لندحر ساعات الملل الطويلة الرهيبة. قصص كثيرة حدثت في كهريزة لايمكن ان نذكرها جميعا ومع هذا سأقتصر على هوامش لا زالت عالقة في ذاكرتي ولم أستطع التخلص منها حتى هذه الساعة . كانت الحياة مثيرة نوعا ما بالنسبة لي فقد شاهدتُ – قوالب – الثلج وقد بدأت تنهال علينا كل يوم.من معسكرنا طفقنا نوزع قوالب الثلج إلى بقية المعسكرات.كل صباح كانت سيارة عسكرية كبيرة تتوقف عند باب معسكرنا في السادسة صباحا فيتسارع المعذبون في الأرض نحوها كي يحملوا قوالب الثلج الباردة على أكتافهم – أملا في الحصول على شيء مفيد ربما يوزعه الجندي المسؤول عن التوزيع – كأن تكون ثلاثة سجائر لكل شخص أو قليل من الخبز كأننا كلاب جائعة تتهافت على القمامة.حتى الخروج لتلقي المزيد من العذاب النفسي والجسدي – أي لتحميل وتفريغ قوالب الثلج يكون عن طريق – المحسوبية أو الواسطة- كما نقول في اللغة الدارجة. تكون للأرشد العراقي صلاحية مطلقة في تعيين أولئك الأشخاص الذين تقع عليهم مهمة القيام بذلك العمل. دون سابق إنذار جاءني الأرشد العراقي يوما ما وهمس في اذني في الساعة الحادية عشرة ليلا ( هل تريد الذهاب غداً لتفريغ قوالب الثلج من يدري ربما تحصل على شيء). فرحتُ بذلك المقترح وبقيتُ كل الليل أحلم بساعات الصباح الأولى ومتى تشرق الشمس وماذا سأحصل؟

عندما إنبثق الضياء الأول ليومٍ جديد وهب نسيم بارد نوعا ما وقفت شاحنة عسكرية مليئة بالكتل الثلجية وشرعنا نحمل قوالب الثلج على أكتافنا.كان نصيبي أن أنقل الكتل الثلجية إلى قاعة الحراس البعيدة عن مكان تواجدنا. بعد ربع ساعة من العمل المتواصل المضني شعرتُ بتنمل في كتفي من شدة البرودة.بعد الانتهاء من واجبي قال العريف الإيراني ( خذ هذه زهرة عباد الشمس ولاتدع أي أحد يراك ) شعرتُ بفرح كبير كأنني أعثر على كنز دفين.أخفيتُ الزهرة الكبيرة المليئة بالحب الأسود من الحجم الكبير في كيسي لمدة أسبوع . بعدها شرعتُ بإخراج قطعاً قليلة منها وأتناولها بسرعة. توالت الأحداث التافهة في حياتنا ولكنها لعبت دوراً مهماً في إجراء عمليات التغيير الداخلي لنا جميعاً.يوما ما جاء العريف المسؤول عن المعسكر ووقف في وسطنا جميعا وصاح بصوت مرعب بأنه في حاجة إلى خمسين شخصا للعمل خارج المعسكر.تزاحم المعذبون في الأرض وراح كل فرد يحاول إدراج اسمه للخروج للعمل – لأن هذه فرصة رائعة لشم النسيم والهواء خارج المعسكر المزدحم ومحاولة الإتصال بالعالم الخارجي وان كان عن طريق السباحة في محيط من خيال لاينتهي . كنتُ من بين الذين سيخرجون إلى الفضاء الواسع والضياع في أعمال مرهقة لاتنتهي . سار الموكب أو الركب خارجاً من الباب الكبير وكل شخص يحلم أن يحصل على شيء مفيد . كانت حرارة الشمس مزعجة جداً والطرق الخارجية شديدة التراب.تصاعدت ذرات التراب إلى الأعلى فشكلت طبقة من غبار كثيف جداً إمتزجت مع حبات العرق الناضحة من جباهنا ووجوهنا. كان التراب الناعم جداً يتهيج تحت اقدامنا كأمواج بحر في يوم عاصف والحراس المكلفون بحراستنا ينظرون الينا نظرات كلها احتقار وكأننا لا ننتمي إلى صفة البشر. كانت نظارتي الطبية تحجب الرؤيا بعض الشيء لأنها تلوثت بذرات الغبار الكثيفة لدرجة أنني اضطررتُ إلى إخفائها في جيب بدلتي الرصاصية. كان موقع العمل رهيب مخيف يُعيد للروح والنفس ذكريات سنوات طويلة من العذاب في هذه البقعة من العالم التي لا أعرف حتى موقعها على الخريطة. جملون شاهق جداً يوحي بالبؤس والشقاء في كل زاوية من زواياه الملطخة بالسواد الفاحم.كُتِبَ على جدرانها اسماء ساكنين – أسرى- لاتعد ولاتحصى..كأنهم من خلالها يسطرون ذكريات مريرة ومعاناة مرهقة.فهذا الشخص يستذكر أيامه في معسكرات الأسر المختلفة ويتمنى أن يعود إلى وطنه باسرع وقت ممكن.والآخر ينقش اسماء أولاده الصغار وتاريخ ميلاد كل واحد منهم كي لاينساهم واآخر يذكر كلمات مؤثرة جداً تجعل القلب يكاد يخرج من بين الأضلاع حزناً وغماً والماً.اسماء وذكريات منقوشة بدقة تهشم كل جزء من أجزاء الروح وتجعل أمل العودة إلى أرض الوطن ضرباً من ضروب المستحيل.لا أعرف لماذا راحت تأملاتي إلى شيء من التاريخ البعيد وقرأت يوما ما أن البؤساء من البشر هم من يدفعون ثمن صراعات القادة المتغطرسين . سُحقا لكل من تسبب في حربٍ على كوكب الأرض مهما كانت الأسباب. صاح العريف فجأة وانا لازلتُ غارقا في تأملاتي الحزينة أتطلع بيأس ناحية تلك الذكريات المنقوشة بدماء الأرواح التي ضاعت في مكانٍ ما على هذه الأرض ( انقسموا إلى عدة مجاميع وكل مجموعة تبدأ عملها من طرف معين…التزموا الهدوء …لا أريد ضوضاء …انتبهوا كي لايصاب أحدكم بضرر ما…الأدوية هنا تكاد تكون معدومة والأرسال الى المستشفى شبه مستحيل في هذه الايام ) .

كانت كلماته تقبض الروح وتحيل المعنويات إلى رماد تذروه الرياح وتجعل القوة الكامنة في الجسد تسافر مع الريح بلا رجعة. كانت هناك آلاف من الأسرّة الحديدية تحتل القسم الأعظم من الجملون و إلى جانبها الأخشاب التي توضع على تلك الأسرة.آلاف من المعذبون في الارض كانوا يستخدمون تلك الأسرة ويعانون يوميا معاناة لاتنتهي.هاهي الآن كلها مركونة في ذلك المكان المرعب كأنها جثث هامدة. أما القسم الآخر من الجملون فقد كان يغص بالبطانيات القذرة والفراش الإسفنجي الممزق من هنا ومن هناك , والجزء الاخير جُمِعَتْ فيه كافة الاواني البلاستيكية وحاويات الماء التي كان الأسرى يستخدمونها في حياتهم اليومية. توسعت حدقات عيوننا جميعا ونحن ننظر إلى هذا الكم الهائل من الأواني التي نحن في حاجة ماسة اليها. كل منا ترك عمله وانكب بشغف ورغبة لعزل إناء أو أكثر يضعه جانبا على أمل أن يصطحبه معه عند الرجوع إلى مقبرة الأحياء. شرع العريف يصرخ بأعلى صوته أن نترك كل شيء لأنه لا يجوز اصطحاب أي شيء. كان يؤكد لنا بأنه سيفتش كل واحد منا بدقة عند إنتهاء العمل ومع هذا لم يهتم لكلامه أي شخص منا. كان العمل مرهق جداً وخطر في نفس الوقت فقد كنا نحمل الحديد على ظهورنا إلى ساحة بعيدة وتحت أشعة الشمس المحرقة.أصيب بعض الأشخاص بجروح في الساق واليد والرأس بسبب سرعتهم في العمل.قبل غروب الشمس بدقائق صرخ العريف بأعلى صوته طالبا منا ترك العمل وعدم اصطحاب أي شيء مما كنا قد تركناه جانبا لنحمله معنا عندة العودة في نهاية اليوم. لم يهتم أي فرد من أولئك المعذبون في الأرض لتحذيرات العريف المسؤول عنا جميعا وراح كل شخص يركض نحو حاجياته التي ركنها جانبا ويخفيها تحت ملابسه الداخلية بطريقة مضحكة جدا.لم أصطحب أي شيء إلا – دولكة ماء- متوسطة الحجم ذات غطاء ولونها رمادي – لازلت أتذكر اللون حتى هذه اللحظة – والحقيقة كنتُ أحلم بالحصول على واحدة من هذا النوع طيلة عشر سنوات.أخفيتها في ملابسي الداخلية بطريقة متقنة – ولو أن بطني برزت إلى الأمام بشكل ملحوظ.عند الباب المؤدي إلى قبر الأحياء- المكان الذي نعيش فيه –وقف جيش من الجند يفتشون كل شخص بدقة ويُخرجون من جيوبه وملابسه الداخلية أشياء لاتعد ولاتحصى . تكدست الأواني والملاعق والأقداح واشياء أخرى عند الباب الخارجي وكل شخص تم تجريده من غنيمته كان ينظر إليها بحسرة والم شديدين. حينما جاء دوري وقبل أن يلمس الجندي المكلف بالتفتيش همست في اذنه ( سأعترف لك بكل شيء عن غنيمتي.أنا في حاجة ماسة لهذه – الدولكة- لأنني أريد أن استخدمها لشرب الماء واستلام الشاي. لم أجلب اي شيء آخر. أرجو أن تسامحني هذه المرة فقط . ساذكر لك اسمي وحاول أن تحفظه واذا شعرت أن هذا يسبب لك مشاكل في المستقبل تعال فوراً إلى مكاني وخذها. أعرف انها شيء تافه بالنسبة لك لكنها بالنسبة لي شيء كبير).كانت لغتي الفارسية قد تطورت نوعا ما ورحتُ أتكلم بسرعة لدرجة إنني لم أترك له مجال للحديث أو الإجابة.نظر في عينيَّ كانت لحيتي طويلة والإرهاق الشديد يحط على وجهي بكل وضوح. دون ان ينبس ببنت شفة دفعني إلى الداخل وهو يطلب من زميله أن يتركني لانه كان قد فتشني . لم أصدق ما كان قد حدث.شعرتُ انني نجحتُ في إختبار صعب لا بل كأنني أمتلك العالم في تلك اللحظة.نسيتُ آلامي ومعاناتي تحت أشعة الشمس ونسيت ذلك الإرهاق الذي أخذ من جسدي مأخذاً كبيراً.كان كافة الزملاء يتجمعون عند الباب من الداخل ينظرون إلى حاجياتهم والأمل يسيطر عليهم بأنهم سيحصلون عليها بعد قليل لكن شيء من هذا القبيل لم يحدث. دخلتُ بسرعة البرق الى القاعة– وأنا أصرخ من شدة الفرح ( لقد عبرت الدولكة – لقد حصلتُ عليها أخيراً). جاء الاخ ثابت وقال لي ( مبروك كيف أدخلتها لقد أخذوا مني القوري والسطل وثلاثة مواعين …غداً سأعمل المستحيل لجلب واحدة مثل هذه التي جلبتها انت).الحق يُقال لقد استفدتُ منها كثيرا جدا.

استمر العمل أكثر من خمسة عشر يوماً وغض العريف المسؤول عنا طرفه بعض الشيء ورحنا ننقل أشياء كثيرة وازدادت أعداد الأدوات والأواني البلاستيكية التي بحوزتنا.وكنت اسمع العريف وهو يقول ( لا ادري لماذا تجلبون كل هذه الاشياء , ستنتقلون الى هذا المكان وستتركون كل هذه الأشياء في مكانكم دون أن تحملوا أي شيء).مع هذا لم نهتم لكلامه واستمرينا في نقل أشياء بين الحين والاخر. بين عشية وضحاها تم نقلنا من مكاننا ولم يسمح لنا بنقل أي شيء معنا عدا الأشياء الضرورية جداً لحياتنا في المكان الجديد.كانت عملية الانتقال إلى المكان الآخر بمثابة نوع من العذاب كما يحدث في كل مرة ننتقل فيها إلى مكان جديد. بقينا في كهريزة عاما كاملا تخللته أحداث محزنة وسمعنا أخبار كثيرة حول العودة ولكن جميعها كانت غير صحيحة. بالنسبة لي عشتُ حياة جديدة تختلف نوعاً ما عن حياتي في المعسكرات الأخرى. بدأتُ أكتب روايات طويلة كل واحدة أخذت مني وقتاً طويلاً وجهد وآلام ودموع لا يمكن أن أصفها في صفحة أو أكثر. كان الزملاء المقربون مني يتلاقفونها برغبة شديدة ولهفة عالية لأنهم كانوا يجدون من خلال تلك الروايات الخيالية متنفس لهم من واقع الألم المرير. كانت أغلب رواياتي تتحدث عن المشاعر الإنسانية النبيلة وعن معاناة الإنسان في حقبة زمنية معينة.عندما كنتُ أنهي واحدة يقول لي بعضهم ( متى تبدأ الرواية الجديدة؟).ملاحظة ( لو كانت هذه الحاسبة التي أكتب عليها في هذه اللحظة هناك معي ولو سُمح لنا في الحصول على أوراق وأقلام في تلك المدة التي أمتدت أحد عشر عاما لخرجتُ من قبر الأحياء وأنا أصطحب معي لا يقل عن مئة رواية وأكثر …الله اكبر …لكننا كنا نتحسر على ورقة وقلم…ومن عاش ظرفي يعرف ماذا أقصد ).في يومٍ بارد جاء المسؤول الكبير وطلب منا التجمع ليتحدث معنا. أخبرنا بأننا سنذهب لزيارة ضريح مقدس ومن هناك نعود إلى تربة الوطن البعيد.لم نصدق في البداية واعتبرنا الأمر مجرد طريقة أخرى لتطمين النفوس القلقة وإعادة بصيص من الأمل إلى أرواحنا المحبوسة في ركن من أركان هذا العالم الكبير. بعد قليل طلب مجموعة للذهاب معه لجلب الملابس الخاصة بالسفر.ارتعبنا حينما تأكدنا من صحة الموضوع. راح البعض يبكي وراح البعض الآخر يقبل البعض في حين راح البعض الآخر ينثر مالديه – من حبات القند أو السكر- كانت لحظات لا يمكن نسيانها مطلقا.وذهبنا للزيارة…لم أذق طعم النوم مدة طويلة من شدة الفرح والإنفعال والترقب والتحسب وكل شيء يتعلق بالقلق الروحي والنفسي. عند الحدود جاء الصليب الأحمر , سيدات يتكلمن اللغة الإنجليزية . وقفنا في طابور طويل.تكلمت معي إحدى مندوبات الصليب الأحمر وسألتني فيما إذا أريد البقاء أو العودة إلى أرض الوطن.أجبتها والحسرة تكاد تُحرق صري ( ومن منا لا يريد العودة إلى جذوره ومسقط رأسه وتربة الوطن الجميل ………) حينما شاهدت المندوبة عن الصليب لغتي الجيدة حاولتْ أن تسترسل معي في حوار قصير وقالت ( لماذا تريد العودة ..ولماذا لاتبقى في هذا البلد وتستطيع أن تذهب إلى أي بلد في العالم وتعيش فيه بقية عمرك؟ ) . لا أعرف لماذا وقفتُ أنظر في عينيها مذهولاً لذلك السؤال وفكرتُ كثيراً قبل أن أجيبها ..حاولتُ أن أصرخ بأعلى صوتي وأجعل كل فرد على تلك الأرض يسمعني وتخيلت نفسي أصرخ هكذا ( أريد العودة إلى جذوري إلى رائحة النخيل الممتدة على طول ضفاف الأنهار والسواقي…أريد أن اتكحل بآثار بابل والناصرية والموصل وأريد أن أشم أطفال العراق في كل مكان…أريد أن أستعيد جذوري في كل حارة من حارات العراق…هذه البلاد بالنسبة لي مجرد مساحات شاسعة من سجون لاتنتهي…ذكريات مريرة خطت نقوشها على شكل شلالات من الم مستديم وحزن لاينتهي وضياع عمر لن يعود…أحد عشر عاماً ضاعت هنا …كيف سأعوضها ومن أين أعوضها ومن يساعدني لتعويضها…أعرف أن حكومتنا هناك لن تهتم لي ولنا جميعا وسنضيع في الطرقات كما ضعنا هنا في المٍ ليس له له قرار…اعرف أنني أهذي لكنني لازلت أملك بقايا روحٍ تنمو وتصرخ لتعيش كما يعيش المرفهون في كل العالم…لا أعرف ماذا سافعل حينما أصل تربة بلادي؟ هل أستكين للقدر وأظل أحدق في سقف الغرفة وانتحب ليالٍ بلا توقف …أم أطير مع الطيور المغردة في الحقول والمزارع والبساتين وأنشد لروحي أناشيد الخوف والحسرة والجوع حينما كنت هناك لوحدي في زنزانة الموت…أم أخلق ثورة جديدة أشارك فيها شبابٌ أبطال لتغيير هذا الزمن المرعب…إسمعي..لن أرفض العودة إلى وطني لو منحني أحدكم أمريكا في يميني وفرنسا في شمالي على أن اظل هنا لما فعلت…) حينما طال صمتي تنحنت وقالت بسرعة ( حسنا إذهب إلى هناك مع الذاهبين إلى وطنك) هي لا تعرف انني كنت أصرخ في ذاتي صرخات لن تفهمها وإن ترجمها لها مترجمين يتقنون كل لغات العالم…..

يتبع……