8 أبريل، 2024 6:20 ص
Search
Close this search box.

جحيم الأيام / الحلقة السابعة

Facebook
Twitter
LinkedIn

غابت الشمس ولف المنطقة الجبلية ظلام يحطم ألأعصاب وبين فترة وأخرى نسمع صوتاً لمحرك إحدى السيارات ألأيرانية على الطريق الضيق الملاصق لذلك الجبل المواجه لنا..وخرير المياه المتدفقة في الوادي تحطم أجنحة الصمت وتضيف رعباً أخر للأضطراب الذي شمل كل ألأشخاص الجالسين على ألأرض مرهقين جائعين . بعد ساعة جاء الجندي ألأيراني وصرخ بأعلى صوته” بلانشو” أي إنهضوا وطلب منا ان نقف في صفٍ واحد. كان يتكلم الفارسيه ولكن أحداً لم يفهم ماكان يريده. في النهاية عرفنا أنه يريد أن يوزع لنا العشاء. جاء جندي أيراني أخر يحمل مجموعة من أرغفة الخبز وأخر يحمل صفيحة معدنية من الحلاوة الشكرية كما نطلق عليها وهم يطلقون عليها حلاوة سازي . راح الجندي ألأول يوزع رغيفا من الخبز الخفيف جدا ويطلب منا التوجة الى الجندي ألأخر حيث يقوم بوضع قطعة صغيرة من تلك الحلاوة على رغيف الخبز ويقول لكل واحد يستلم ذلك:” إذهب هناك وأجلس على ألأرض وتناول عشاؤك”. نظرتُ الى قطعة الخبز وقطعة الحلاوة الصغيرة وقلتُ لنفسي:

…” ياالهي ..هل أن هذا كل ما سأتناوله الليلة ؟أحتاج الى خمسة أرغفة من هذا النوع وعشرة قطع من هذه الحلاوة كي أشبع.”. ظل كل واحد منا ينظر الى الجالس قربه ويهز رأسه لايصدق مايرى. قال أحدهم:” سأتناول النصف وأترك لنصف ألاخر للسحور، يجب أن أصوم. من يدري قد لايجلبوا لنا سحور.”.وبالفعل لم يفعلوا ذلك وكأنهم لايعرفون أننا في شهر رمضان . زحف الليل البارد نحونا ووزعوا لكل واحد منا بطانية ونمنا في العراء. لم أستطع النوم لحظة واحدة فقد كانت المنطقه جبلية شديدة البرودة . أنقضى الليل وجاءت معاناة أخرى عند الصباح. تحركت ألأجساد الملقاة على ألأرض بلا رحمة. حاول كل شخص ان” يُدبر” نفسه كما يقولون. نظر اليّ جعفر بعينين مرهقتين من شدة السهر والبرد قائلاً:

…” ياالهي لقد نفذت سكائري ..ماذا أفعل؟ أستطيع ألأستغناء عن ألأكل والشرب ولكن لاأستطيع ألأستغناء عن السيكارة اللعينة”. دون وعي أدخلتُ يدي في جيب قمصلتي العسكرية وأعطيتهُ علبة سكائر بغداد كاملة. نظر اليّ بذهول وهو يقول:” ياالهي من أين لك هذا؟ لماذا لم تقل لي بأنك تملك سكائر؟”. إبتسمت اليه بشرود وقلت له” دخن ولا تسأل..إنها هدية لك”. راحت أصابعه تخرج عودا من الثقاب بأرتجاف ملحوظ وفي لمح البصر راح الدخان يتصاعد الى الفضاء متلاشياً في سماء الغربة والوحشة والترقب وألأنتظار. بعد أن تسربتْ رائحة الدخان في عروقه وأستعاد رباطة جأشهِ وسيطر عليه هدوء نسبي قال بتحسر:

…” كم أتمنى أن أتناول قدحاً من الشاي ألأن؟” رأسي يدور وعلاجه الوحيد قدح من الشاي”. نظرتُ الى وجهه بهدوء وقلتُ:

…” هل تستطيع أن تجد لنا علبة معدنية صغيرة؟ سأوفر لك قدح الشاي الذي تتمناه”. قال بعدم تصديق وكأنه أحس بأنني أمزح معه:

…” ولكن كيف ستصنع الشاي؟.حسنا سوف أذهب للبحث عن علبة معدنية قديمة بين تلك الصخور”. بعد نصف ساعة عاد والفرحة قد سيطرت عليه نوعا ما. قال بتهكم:” خذ ياأستاذ هذه ثلاثة علب فارغة ..ماذا تريد أيضا؟” قت له مبتسما:” إذهب وأغسلها جيدا وأجلب لنا ماءأً كافيا من ذلك الوادي وأن شاء الله سوف تحتسي قدحا من الشاي اللذيذ”. ذهب دون أن ينبس ببنت شفه كأنه تلميذ يمتثل لأوامر معلمه.

بسرعة البرق فتحتُ حقيبتي الصغيرة وأخرجتُ كيساً من الشاي وكيساً أخر من السكر ووضعته أمامي أنظر اليه بسرور تام وكأنني أتطلع الى كمية من المجوهرات النفيسة. صرختُ مناديا بعض الزملاء “..رياض..محمد..رضا..إذهبوا لجمع الحطب سنصنع شاياً. ..إذا كنتم ترغبون في تناول قدحاً من الشاي اللذيذ؟”. ذهب الجميع لجمع الحطب. عاد جعفر يحمل الماء بالعلب الثلاثة. قال:” هذا هو الماء..فلنرى ماهي الخطوة التالية؟” قت له:

…” خذ هذه القداحة وأشعل ذلك الحطب الذي جمعه الزملاء”. في اللحظة التي شاهد فيها كيسا الشاي والسكر جحظت عيناه غير مصدقاً وهو يقول:

…” واو..من أين جلبت هذا؟ قلت له :

…” إذهب ألأن وساعدهم وسوف أحكي لك قصة الكنز فيما بعد”. في غضون وقت مناسب كنا نجلس حول تلك النار اللذيذة في ذلك الطقس البارد. حينما شرعنا نحتسي الشاي من تلك العلب المعدنية بدأ بعض الجنود يتجمعون حولنا طامعين في إحتساء رشفة صغيرة من الشاي. قدمنا لبعضهم وظل البعض ألأخر ينظر الينا كأنهم مشردين في إحدى ممرات المدينة الخاوية. قلت لجعفر:

…” هل تتذكر عندما إشترينا هذه الكمية من الشاي والسكر حينما كنا في ذلك الجامع الصغير؟ لقد خرجتم مسرعين من الغرفة عندما سمعنا مكبرات الصوت تأمرنا بالخروج نحو الشاحنات. قلت لبعض الزملاء أن يحملوا ماتبقى من السكر والشاي فقد نحتاجه يوما ما إلا أن احدهم قل لي :” إترك كل شيء فأننا سائرون نحو المجهول..ماذا نفعل بالسكر والشاي”. دون وعي رحت أجمع السكر والشاي ووضعته في حقيبتي. نظر إلي جعفر وهو يقول” بوركت يداك”. إرتفعت الشمس وأنتشرت أشعتها على المنطقه الجبلية وصار الجو دافئاً نوعا ما. تجمع الجنود على شكل مجاميع..كل مجموعة إفترشت ألأرض وراحو يتبادلون أطراف حديث متنوع وهم ينتظرون مصيرهم المجهول وأين ستكون الخطوة التالية. طالت فترة ألأنتظار وتقدم النهار وتمدد بعضهم في محاولة لأستجداء بعضاً من الراحة. على حين غرّه شعرتُ برغبه لاتقاوم للأختلاء بنفسي فقد أحسست بأنقباض داخلي شديد. شعرت أنني أكاد أنفجر من شدة ألأشتياق لأسرتي الصغيرة. دون أن أخبر أياً من زملائي توجهت نحو الوادي العميق حيث المياه تتدفق بصوتٍ هادر. جلست عند حافة المياه أحدق النظر في المياه المنكسرة فوق الصخور. بين مده وأخرى يأتي عود خشبي أو قطعة صغيرة من ألأشجار تتقاذفها المياه كما تتقاذف الحياة مشاعري وروحي بلا رحمة. شاهدت شبح ولدي الصغير يطفو على سطح الماء في أوضاع وأشكال مختلفة..مره يضحك بصوت مرتفع ومره أخرى يبكي بحرقه ومره يقفز في فناء الدار ومره يركض خلف شقيقه ذو الثلاثة أعوام . كانت روحي ترتفع وتهبط مع كل صورة شبحية متكسرة فوق أمواج مياه الوادي التي لا تعرف الركود.

فجاةً هامت روحي على صورة معينه من تلك الصور ..شاهدت ولدي الصغير يبكي بحرقه وهو جالس عند الممر الداخلي للبيت وقد إرتدى سروالاً قصيراً وقميصاً ذو ألوان زاهيه يصرخ بأعلى صوته” فلنعد الى البيت..هذا ليس بيتنا..لااحب هذا البيت..فلنعد الى بيتنا”. حاولت إقناعه بشتى الطرق من أن هذا هو بيتنا الجديد وأنه افضل من ذلك البيت الذي يريد العوده اليه. كان حديثي معه قد زاد من حدة بكائه. قلت له بأنني سأشتري له لعبة جديدة ” دراجة نارية أو ماطور على حد قوله”. وبالفعل إشتريت له تلك اللعبة وكانت غالية الثمن وإعتقدت أنه سوف يفرح بها وينسى همومه الطفولية إلا أنه حينما أخذها مني ضربها بقوة على ألأرض وتهشمت في الحال وبذلك كأنه مزق النقود أمامي. لو كنت قد إشتريت له تلك اللعبة في البيت القديم لطار من الفرح. كان يشعر بالضياع في البيت الجديد رغم صغر سنّه. كان لايريد الضياع في ألأرض الجديدة لأنه أراد ألأحتفاظ بذكرياته القديمة هناك وشعر أن قدومه الى البيت ألأخر معناه بناء ذكريات جديدة وحياة جديدة وأصدقاء جدد. عند تلك اللحظة شعرتُ أن روحي تذوب وأشجاني تتفجر ولم أعد أقوى على التحمل. وصرخت بأعلى صوتي:” آه..وأرضاه..واوطناه..وابيتاه..واولداه..وأماه..أنا هائم ألأن على وجهي لن أراكم بعد ألأن..لن أرى سماء الوطن..ساعدني يارب على تحمل هذا ألأتون الحارق وهذه الرحلة الجهنمية. “مسحت دموعي وقلت بصوت مسموع:” إنا لله وإنا اليه راجعون”. حينما إستدرتُ الى الوراء كي أعود شاهدتُ جعفر جالساً عند حافة الصخرة القريبة والسيكاره لاتفارق فمه وظهرت قطرات صغيره من الدموع في عينيه. إرتبكتُ قليلاً وحاولتُ أن أغتصب إبتسامه صغيرة كي أبرهن له إنني كنت بصدد تأمل الطبيعه. لم يتحرك من مكانه وظل يحدق في وجهي كالمذهول. فجأةً نهض مسرعا وأحتضنني وراح يقبلني وهو يقول:” لاتبتأس ياصديقي العزيز” صمت قليلا بعدها أردف قائلا بصوت متقطع” لاتهتم، لقد سمعت كل مناجاتك الروحية..إياك وألأستسلام..صدقني سوف نعود الى ألأرض الطيبه مهما طال الزمن فقد واجهت خلال خدمتي العسكرية ظروفا أقسى من هذه التي نمر بها ألأن آلاف المرات. كنت أعتقد أن الزمن يتوقف وأن الشمس لن تشرق أبدأً. كان الموت على بُعد أمتار قليلة من جسدي الممدد عند حافة إحدى الصخور وأنني سوف أموت بعد ثوانٍ. كانت الغمامه تنقشع ويعود كل شيء الى حالته ألأولى. صحيح أنني لم أكمل الثالث متوسط ولكنني تعلمت من مدرسة الحياة أشياء كثيرة قد لا تكون أنت قد قرأتها في أي كتاب من كتب الجامعة. تعلمت شيئا واحدا فقط ولازلت متمسكاً به وهو إياك أن تفقد المعنويات. إذا فقدت المعنويات فأنك تتحول في لمح البصر الى إنسان معطل.هناك شيء أخر يجب أن تحمد الله كثيرا لأنك لازلت على قيد الحياة ولم يصاب أي جزء من أجزاء جسدك بأذى. ” صمت قليلاً ..كان يوقد سيكاره بعد ألأخرى.كان صوتهُ يرتعش. نظر الي مره أخرى وهو يقول مستطرداً بحديثه الطويل:

…” هل تتذكر السيد ألآمر وكيف ذبحوه؟ هل تتذكر جثة صديقنا الملقى عند حافة بوابة السجن الذي كنا فيه؟ هل تتذكر كيف كتب لنا الله سبحانه وتعالى النجاة من ذلك السجن وكيف تسلقنا الجدار وخرجنا من النافذة وتركنا خلفنا أكثر من خمسين سجيناً. من يدري قد يكتب لنا الله النجاة ونعود الى أرضنا. مئات ألأشياء إذا تذكرتها سوف تشكر الله لأنك لازلت سالما. من يدري قد تكون هذه ألأحداث في صالحنا. نحن نعاني ألأن مصيبه كبرى ولكن صدقني أن هناك ألأن في نفس هذه اللحظة آلاف الناس يتمنون أن يكونوا في هذا المكان وهذا الظرف. “. شعرت بالخجل أمام هذا الجندي الذي لايعرف الخوف أبداً. قبل أن أحاول قول شيء معين أخرج واحدة من المعلبات الجافة من جيب سرواله العسكري المرقط وقال بصوت منشرح:

…” لقد وزعوا لنا معلبات جافة – فاصوليا – واحدة لكل شخصين وبما أنك لم تكن حاضرا أثناء التوزيع قلت لهم أنا وانت في هذه العلبة. والآن كافة الجنود بما فيهم زملاؤنا منشغلين بضرب المعلبات على الصخور كي يفتحونها لأن الجنود ألأيرانيين لم يعطونا فاتحات لهذه العلب وقالوا لنا دبروا حالكم”.

جلستُ قرب حافة إحدى الصخور العظمى الى جانب جعفر الذي راح يفرك العلبة بسرعة فائقة وقلت مع نفسي ” كيف سيفتحها هذا الجندي العنيد؟”؟ كنتُ أرثي لحاله فقد كان العرق يتصبب من جبينه. بعد مدة مناسبه من الزمن صرخ بفرحٍ غامر وسرورٍ عامر:”

…” لقد فتحتها”.

4 – ألأنطلاق –

حينما شارفتْ الساعة على الثاثة عصراً ضعفت شمس الربيع وإزدادت برودة الهواء، جاءت عدة شاحنات عسكرية إيرانية وترجل منها بعض المسؤولين. طلبوا منا التجمع وراحوا ينادون علينا بأسماءنا وفي غضون ساعة كانت الشاحنات قد بدأت حركتها..التقدم نحو المجهول والعذاب. لم تكن هناك مقاعد في الشاحنات وكنا نقف داخلها متراصين كأننا قطيع من ألأغنام . كان المكان ضيقاً جداً لدرجة أن الشخص لايستطيع ألأستدارة بجسده . حاولنا الأستفسار عن مكان ذهابنا ولكن أحداً لم يجبنا وكانوا يأمروننا بالصمت. الطريق خطر جداً وكأننا نسير فوق جبال تناطح السحب . طريق ضيق محاط بجبال مرعبه جداً والوادي عميق لدرحة أنني عندما أنظر الى القعر لاأستطيع رؤية نهايتهِ. فضلت أن لاانظر الى القعر كي لاأصاب بالدوار. كان السائق يقود الشاحنه بسرعة هائلة لدرجه أنها كانت تتموج على الطريق بشكل لولبي . بين فتره وأخرى كنا ندق بأيدينا من داخل السيارة كي يخفف السرعة. توقف السائق وسألنا عن سبب ذلك الضرب. حينما طلبنا منه أن يخفف السرعة إمتعض وجهه ولم يُجبنا وعاد الى طريقتة ألأولى في قيادة السيارة. أصابنا اليأس وأستسلمنا إلى قدرنا وإلى مشيئة الله. كنت أقرأ مع نفسي سور من القرآن الكريم متضرعاً الى الله أن يحمينا من هذا الطريق المرعب وهذا السائق الذي لايهتم لسلامتنا قيد شعره . بعد ساعتين توقفتْ الشاحنات عند أحد المعسكرات وأعتقدنا أن رحلة العذاب قد إنتهت. حاول المأمور معنا أن يتفاهم مع أحد آمراء المعسكر ولكن ألأخير رفض أن يستلمنا. عاد المأمور معبس الوحه وأخبرنا بأنهم لايريدون إستلامنا وأعطى ألأمر للشاحنات للأنطلاق صوب معسكر أخر. وسارت الشاحنات ساعتين ونحن واقفين. توقفت الشاحنات عند إحدى المدن الصغيرة لأن المأمور أراد أن يشتري شيئا لنفسه وكان الجوع قد أخذ مني مأخذاً وشعرت أن معدتي تصرخ من ألألم . صرخ أحدنا نحو أحد ألأشخاص ألأيرانيين وكان واقفا بالقرب من أحد الدكاكين:

…” سأموت من الجوع..هل لديك قطعة بسكويت؟”. ولاأدري هل أن الشخص فهم صراخ ذلك المستغيث المسكين أم أن لغة ألأيماءآت قد أرسلت إشاره لذهنه وفهم ما كان يقصده ذلك البائس. دون توقع ركض الشخص المدني ألأيراني الى الدكان وجلب كارتونة متوسطة الحجم وحاول أن يعطيها لنا إلا أن المأمور صرخ به أن لايفعل ذلك بَيْدَ أن الشخص المدني لم يهتم له وقذف الكارتونة الى داخل السيارة وبسرعة البرق راحت ألأيادي الجائعه تتلقف البسكويت كأنها ذئآب جائعة.. وحصلتُ على قطعة واحدة ولاأدري كيف حصلتُ عليها؟ . بسرعة البرق وضعتها في فمي كأنني شحاذ قذر قد وجد قطعة من الخبز في أحد الشوارع المعتمة . إنطلقت الشاحنات مرة أخرى بأصواتها المرعبة وحركاتها المتمايلة تنهب الطريق الجبلي نهباً . الغريب أن كل ألأراضي التي سرنا عليها كانت جبلية ولم أر سهولاً ممتده إلا ماندر. راح ذهني يرسم خطوطاً وهمية لمستقبل مظلم . بعد خمس ساعات من الوقوف داخل الشاحنة اللعينة شعرتُ بتنمل مزعج . حاولت الجلوس داخل السيارة وناضلت كثيراً إلا أن كل محاولاتي ذهبت أدراج الرياح. كلما حاولت ألأنحناء كان أحد الجنود يصرخ:

…” ماذا تفعل؟ لايوجد مكان للجلوس”.قررت البقاء واقفا حتى أسقط مغشياً عليّ من ألأرهاق . تكررت مرات التوقف أمام المعسكرات وتكررت عمليات الرفض . كلما توقفنا أمام أحد المعسكرات كنا نتضرع الى الله أن يقبلوننا كي تنتهي هذه الرحلة الجهنمية وتنتهي معاناة هؤلاء المعذبون في ألأرض. في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل توقفت الشاحنات أمام معسكر صحراوي جبلي مخيف جداً.إنتظرنا داخل الشاحنات لمدة نصف ساعة، كنا مرهقين لدرجة الموت . أمرونا بالترجل والوقوف واحداً خلف ألأخر وشرعوا يُدخلوننا داخل المعسكر. كان المكان مظلماً جدا والارض مبللة موحلة من شدة ألأمطار الغزيرة التي كانت قد سقطت في الليالي السابقة. بدأ الجنود ألأيرانيون بالصراخ ” إذهب..إذهب.”كانوا يوزعون لنا نوعا من البطانيات الرديئة جدا ..مليئة بالأوساخ والطين لدرجة أنني قلت لأحد الجنود ” هذه ثقيلة بسبب المياه”..ولحسن الحظ إختطفها من يدي وناولني أخرى ولكنها كانت رطبة ولكن يمكن القول أنها أفضل نسبيا من السابقة.

هام الجنود ألأسرى في تلك المساحات الموحلة كل يبحث عن مكان مناسب لقضاء تلك الليلة المرعبة. كان الجو زمهريرياً..البرد القارص ينفذ الى داخل الجسد كسكين قاتلة. لم نكتشف طبيعة المكان إلا في الصباح. ذهبت ُ مع زملائي من نفس الوحدة العسكرية..للبحث عن مكان. اقترح رضا حلبوص أن ننام في أقرب مكان عند حافة الجدار من الخارج ، وبالمناسبة، لم ينم أحداً داخل القاعات فقد كانت مظلمة وقذرة جداً..وبالطبع لم تكن هناك أي علامة لوجود طاقة كهربائية في المكان الموحش. بسرعة البرق راح رضا يفرش ثلاث بطانيات على ألأرض وطلب منا أن نكون ملاصقين لبعضنا البعض كي نستمد الدفيء من بعضنا البعض. إستلقينا متلاصقين جداً لدرجة أنني كنت أشعر بأضلاع رضا ترتفع وتهبط أثناء التنفس. وضعنا جميع البطانيت فوق أجسادنا وحاول كل واحد منا أن يغطي وجهه. حاولت أن أفعل نفس الشيء إلا أن رائحة البطانيات الكريهة والرطبة جعلت ذلك الشيء مستحيلاً. شعرتُ بالأختناق وكأنني أحاول أن أنتشل نفسي من بحرٍ لُجيّ. أبعدت الغطاء عن وجهي، وقلت لرضا بأنني لااستطيع أن أُبقي وجهي تحت البطانيه وقال لي بأنه يشعر نفس الشعور. أخرجنا وجوهنا كي نستطيع النظر صوب القمر الذي بدأ يشق طريقه بصعوبة بين الغيوم المتجمعة في السماء. ظل رضا يحدق في القمر ويراقب حركة الغيوم كأنه يبحث عن شيء بينها. أما البقية الباقية من الزملاء فقد راحوا يغطون في نوم عميق وكأن تأملات رضا لاتعنيهم على ألأطلاق. فجأةً قال رضا:

…” هل أنت نائم؟” حينما أجبتهُ بالنفي أردف قائلا بيأس وصوت متقطع:

…” لاأدري ماذا حل بمريم وأمها وجدَّتها الآن؟ مريم ثلاث سنوات..كنت أحملها بين ذراعيّ كلما توسط القمر كبد السماء.أخرج معها إلى البستان. لدينا مزرعة كبيرة في مدينة الحلة. عندما كنتُ أتغيب عن البيت مدة من الزمن أثناء ذهابي للجيش كانت والدتي تحمل مريم بين ذراعيها وتقف وسط فناء الدار المبني من الطين وتخاطب أحد الطيور عندما يغرد في الليل وتقول:

…” أيها الطير …متى يعود إبني …أبو مريم؟” كانت زوجتي تخبرني بذلك. أنا متأكد أنها تفعل نفس الشيء الآن فقد مضى على غيابي أكثر من شهر.هل سنعود مرة أخرى الى بيوتنا ياصديقي؟”. كانت الكلمات تخرج من بين شفتيه بصعوبة وكـأنهُ كان يحتضر وحيداً في صحراء مهلكة. بين فترة وأخرى كانت يده ترتفع الى عينيهِ كي تمسح الدموع التي بدأت تترقرق فيهما رغماً عن أنفه. هذا واحدٌ من البؤساء الذين لفظهم الزمن الصعب والقى به في هذا ألأتون الذي لايرحم. دون وعي قلت له:

يتبع ……

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب