9 أبريل، 2024 2:48 م
Search
Close this search box.

جحيم الأيام / الحلقة الرابعة عشرة

Facebook
Twitter
LinkedIn

آه..حمداً لله لقد عادت عينيَّ تعملان كالسابق. فترة طويلة وأنا مُعطل تماماً عن قراءة سورة واحدة لا بل سطراً واحداً من القرآن الكريم. في البداية لم أقرأ فقد خشيتُ أن تعودا إلى مرضهما السابق. في اليوم التالي توكلتُ على الله وبدأت من جديد أحفظ صور القرآن كالسابق. كنتُ أقرأ ما لا يقل عن ثلاث عشرة ساعة يومياً. بدأت بالحفظ تنازلياً أي من الجزء الثلاثين ثم التاسع عشر وهكذا. حفظتُ سبعة أجزاء حفظاً جيداً ورحتُ أرددها مع نفسي كلما خلدت للنوم. أحياناً كانت عيناي تنغلقان من شدة التعب ثم يبدأ فمي في التراخي إلى أن أغوص في نومٍ جميل. الغريب أن نفسي القلقة بدأت تهدأ وزال الإضطراب عن روحي المعذبة. هناك شيء أخر ينبغي عليَّ ذكرهُ هنا للتاريخ ألا وهو قضية الأحلام التي كانت تراودني أثناء الليل بعد تلاوة القرآن. كنتُ أحلمُ أحلاماً عجيبة لم أكن أحلمها من قبل. كانت أحلامي واضحة جدا. كنت أصرخ بأعلى صوتي ” هذا ليس بحلم. هذا حقيقة.” كانت هناك طيورٌ تحملني فوق ظهورها وكنتُ أرى كل شيء بوضوحٍ تاماً. كانت تدور بي فوق أشجار النخيل والرمان في ذلك البستان الذي قضيتُ فيه كل طفولتي وصباي. وتستمر الأحلام الجميلة التي أتمنى أن لا أستفيق منها أبداً.

في يومٍ ما إقتادني الجندي القاسي القلب إلى غرفة التحقيق قبل صلاة الفجر وقبل أن أتناول طعام الإفطار الصباحي. وضعني في نفس الغرفة الخاصة بالتحقيق وأجلسني على الكرسي الخشبي ويداي وعيناي مكبلتان ووجهي إلى الحائط. أمرني بالجلوس وعدم الحركة لأن العقيد المسؤول عن التحقيق سوف يأتي بعد خمس دقائق. تضرعتُ إلى الله أن يكون كلامه صادقاً هذه المرة. تقدمت الثواني والساعات دون أن يظهر ذلك المحقق وبدأت كل عضلة من عضلات جسدي بالإنهيار. شعرتُ بجوعٍ شديد وعطش لايُطاق. بقيتُ أنتظر حتى سمعتُ صوت المؤذن يدعو إلى الصلاة عند الظهر وفرحتُ جداً لأنني إعتقدتُ أنهم سوف يأخذوني إلى الحمامات كي أتهيأ للصلاة. سأشرب الماء هناك من صنبور الماء ولكن لم يحدث أي شيء من هذا وذاك. عند التاسعة ليلاً أعادوني إلى زنزانتي دون أن يحققوا معي. عرفتُ أن الأمر كان مجرد تعذيب نفسي ولكن هذه المرة بطريقةٍ بشعة.

لم أتناول أي شيء في تلك الليلة عدا الماء على الرغم من الجوع الشديد الذي كنتُ أشعر به. إضطجعتُ على البطانية الوحيدة وأغمضتُ عينيَّ كي أحاول تحطيم اليأس الذي راح يجوب كل زاوية من زوايا الحرمان والشوق الشديد إلى الحريةِ والعودةِ إلى عالمِ الأحياء. وأنا بين اليقظةِ والنوم راحت عباراتٌ كثيرة تتصارعُ داخل ذهني . لو كان عندي ورقة وقلم لسطرتها على الشكل التالي:

(واحترقت ْعناصر الكبرياء وماتت أماني الطفولة…عامت الآهات في محيطٍ من الضياعِ وتمزقت شرايين الطفولة. وأنتشر الحقد في غياهب السجن وتشوهت ذكرياتِ الأمومة. تركتهم هناك بلا أملٍ بلا وطنٍ بلا طعام ٍ يبحثون عن فُتاتٍ ويتمرغون في غربةِ الأبوّةِ وفقدان الحنان. وأمهم تبيع قطعةِ أثاثٍ صغيرة كي تُرْضِعَ طفلها الصغير الذي لا يعرف معنى الضياع وفقدان الأبوة. والعجوز الطيبةِ القلبِ تسيرُ في الحديقةِ وحيدة تنظرُ نحو الباب الخارجي تحلمُ بعودةِ القطعةِ الممزقةِ من شرايينها هناك في مجاهل النسيان. وهذا الأخ الكبير يدفعُ عربةً صفراء ويفترشُ الطرقات ينظرُ هنا وهناك لعل الضحيةِ المفقودةِ تعود من بين الحيطانِ والجدران تُذيبُ لوعة الروح كي تمزق معالم الخوفِ والفقدان. وهذا الابن الصغير ينظر إلى الباب الخارجي يُصغي السمع لكلِّ طارقٍ يطرق الباب عند الصباح والمساء. سئمَ طعامُ الجيران وراح يركضُ مختفياً كلما شاهد العجوز الطيبة القلب القادمة من بعيد تحمل فوق رأسها صدقةً لهؤلاء الأيتام. وتكبر البنت الصغيرة وتفهم أن هناك شيئاً مفقوداً في العائلة.”

تتوالى أحداث صغيرة داخل الزنزانة لكنها بالنسبة للسجين حالاتٍ مرعبة تؤثر في حالته النفسية إلى درجةٍ كبيرةٍ جداً. في مرة من المرات حاولت الإحتفاظ بنصف سيجارة كي أدخنها عند توزيع الشاي في الساعةِ الرابعةِ عصراً. وضعتها تحت الوسادة. على حين غره دخل أحد الحراس وراح يُفتش جميع الحاجيات الموجودة في الغرفة وهي البطانية التي أنام عليها والأخرى التي أتغطى بها والقدح والسطل.كانوا يدخلون للتفتيش بين فترةٍ وأخرى. حينما وجد نصف السيجارة راح ينظر اليها بعدم إرتياح وكأنني إخترقتُ قانوناً تم تشريعهُ منذ الأزل. سحقها وخرج وهو يُدمدم كلاماً لم أفهمهُ. وحلت الكارثة بي. تمت معاقبتي بحرمان أسبوع كامل من السجائر. لم ينقضي الإسبوع إلا أن ذقتُ الأمرّين. في كلِ مرةٍ يوزعون فيها وجبة الشاي أو الطعام أكاد أجن من الرغبة لرشفةٍ واحدة من أي نوع من أنواع السجائر. كنتُ أتعذب كلما سمعتهم يفتحون الصناديق الخاصة المعلقة على الجدار الخارجي للزنزانة والتي تحتوي على أشياء السجين. كنت أسمع صوت عود الثقاب حينما يُشعل لإيقاد السيجارة. كل وجبة طعام أقول لنفسي بقي كذا وكذا على فك الحصار عني.

أصبحتْ حالتي النفسية يُرثى لها فقد أحاطت بي ألياف اليأسِ من كل ِ حدبٍ وصوب. أيقنتُ أن حياتي ستنتهي هنا في هذا القبو المظلم. استسلمتُ لقدري وبقيتُ أحسب الساعات الباقية لعمري. إزداد إلتصاقي بالخالق العظيم ولم يعد يهمني أي شيء سوى قراءة القرآن والصلاة. الشيء الوحيد الذي كان يؤذيني ويحطم روحي هو ذكريات الطفولة. أصبحت تلك الذكريات لا تفارق ذهني لحظة واحدة. شعرتُ أنني أعيشُ في عالمٍ غريب. كم مرة حاولتُ التخلص من تلك الذكريات ولكني فشلتُ فشلاً ذريعاً. مثلاً حينما أجلسُ وحيداً في زاوية الزنزانة أتناول فطوري الصباحي المؤلف من قطعة صغيرة من الخبز اليابس وملعقة مربى لا تكفي لطفلٍ صغير. كانت صورة والدتي ووالدي وأشقائي لاتفارقني أبداً ونحن نجلس عند الموقد الناري في أيام الشتاء ونحن نحتسي الحليب والشاي وما قسمه لنا الله من طعام. ظلت تلك الصورة تراودني كلما جلستُ في الزاوية المظلمة لتناول الفطور الصباحي والغداء والعشاء.

في يوم ٍ من الأيام عند المساء على وجه التحديد سمعتُ صوتاً قادما من الجهةِ الأخرى لزنزانتي . كان أحدهم يصرخُ بأعلى صوته ويضرب رأسه بجدار زنزانته وهو يقول ” يا عبد القادر…يا عبد القادر..”. كان الملازم صالح قد فقد السيطرة على نفسه فراح يصرخ بأعلى صوته كمن تلبسه مسٌ من الجن. بالطبع لم أكن أعرف عنه أي شيء ولكني تعرفتُ عليه حينما عدنا للعيش معاً في معسكر ” …….”. ولسوء حظه توفي بطريقةٍ عجيبة بعد سنة من خروجه من الزنزانة. حينما كنا في ذلك المعسكر طلبوا منا ــ نحن العشرون نفراً ــ أن نرفع وننقل إحدى المناضد الكونكريتية الثقيلة جدا وكان الملازم صالح يقف إلى جانبي. كان يرفع بكل قوة واخلاص وكأنه إعتاد على طريقة العمل هذه طيلة حياته. في المساء راح يشكوا من ألم شديد في جسده .. وقبل المغرب كان قد فقد حياته إلى الأبد. نعود إلى الزنزانة. بعد يوم واحد من حادثة الملازم صالح وإذا بأحدهم يصرخ بي عند الصباح ” أنهض سوف تعود إلى معسكر “……..” استعد للذهاب إلى السيارة”. لم أهتم للأمر. إعتقدتُ أنه يحاول أن يعذبني نفسياً كما يحدث بين فترة وأخرى. قررت أن أتلقى الأمر بأعصاب باردة. ولكن في غضون عدة دقائق كنتُ مع مجموعة صغيرة داخل شاحنه مقفلة ومكبلين ومعصوبي الأعين.

الإنتقال لايعني شيء مهم بالنسبةِ لي في تلك اللحظة لأنني سأنتقل من زنزانة إلى أخرى..ولكن الشيء الذي كنتُ أتمناه وبصورة جدية هو الرحيل إلى معسكر فيه بشر,أي نوع من أنواع البشر. لقد سئمتُ العيش وحيداً.أريد أن يكون معي أي إنسان. توقفت السيارة وهدأ هدير محركها. ترجل الحرس. فتح الباب وراح يصرخ ” ترجلوا جميعاً”. تعثر بعضنا من شدة البرد والتعب. دخلتُ غرفةً دافئةً جداً. دون أن يفتح عصابة عيني سألني عن إسمي. بعد تدوين المعلومات الكثيرة عني سحبني الجندي الآخر إلى خارج الغرفة. وقف خلفي وهو يقول بالعربية ” حينما أنزع عن عينيك الرباط لا تلتفت إلى الوراء وسر إلى الأمام سيأخذك من هناك شخص آخر إلى مكانٍ آخر. إياك أن تتفوه بكلمةٍ واحدة عن فترة إبتعادك كل هذه الفترة. أي شخص يسألك أي سؤال قل له بأنك لا تعرف أي شيء. سنعرف إذا كنت تتحدث لأي شخص عن أي شيء.”.

في اللحظة التي نزع فيها قطعة القماش اللعينة شعرتُ ببرودة الطقس الشديدة. منذ تلك اللحظة كان الجندي قد تلاشى إلى الأبد. كدتُ أسقط على وجهي أثناء سيري فوق الجليد الأبيض الثلجي. تلقفتني يد شخص آخر وهو يقول” لا تهتم سوف تعود إلى نفس المكان الذي كنتَ قد فارقته قبل سنه وشهر”. حينما كان ينظر اليَّ كنتُ أغمض عيني وكان يسألني بتعجب عن سر هذا الذي أفعلهُ. عندما شرحتُ له عن الوضع هناك وأن السجين يجب أن لا يرى الجندي إبتسم وهو يقول بأن الوضع هنا يختلف تماماً ولا ينبغي أن أغمض عيني. قال:” تستطيع أن تنظر إليّ عندما تتكلم ولايهم إن رأيتُكَ أو رأيتني”. سكت قليلاً ثم نظر نحوي وهو يقول ” سوف نتعامل معكم بطريقةٍ تختلف عن تلك الطريقة التي إعتدتم عليها “. فرحتُ لسماع هذه الأخبار الجديدة التي لم أكن أفقهُ شيئاً منها منذ زمنٍ طويل. سرتُ إلى جانبهِ وقد لفني صمتٌ تام. كانت الأرض شديدة البياض كأنها إتشحت برداءٍ ناصع البياض. كنتُ أضع يدي اليمنى وأحياناً اليسرى فوق عيني لشدة بياض الثلج.

لم أشاهد منظراً كهذا من قبل. كانت قدماي تغوصان في الأرض الثلجية وأضطر بين فترة وأخرى لأنتشال ” نَعْليَّ” المنغرزتين في الثلج. لم اضع قدمي في حذاءٍ طيلة أحد عشر عاماً.كان الحذاء شيئاً ممنوعاً في معسكرات الأسر.على الرغم من الالام الجسدية والنفسية التي كنتُ أعاني منها في تلك اللحظة إلا أنني شعرتُ بسرورٍ لايوصف. أسباب سعادتي هي أولاً: أنني أسير الأن مفتوح العينين وأستطيع أن أمشي دون قيودٍ في معصمي. وهذا إنسانٌ يسير إلى جانبي وأستطيع التحدث معه دون أن اغمض عيني. ثانياً: أستطيع الأن أن أمد بصري إلى أبعد نقطة في الفضاء التي يمكن أن يصل اليها نظري دون أن أخشى أحداً. ثالثاً : وهذا الإنسان يسير بالقرب مني دون أن يدفعني من الخلف، أو دون أن يسكب الماء البارد فوق رأسي، أو يقرص ذراعي بقاطعة الأظافر …أو ..أشياء كثيرة أخرى لا أريد الخوض فيها مرةً أخرى.

من بعيد لا حت لعينيَّ المرهقتان أشباح رمادية تتحرك بصعوبة جيئةً وذهاباً وقد أحاطت بها أسلاك شائكة مرعبة وأطنان من الثلوج البيضاء التي تشبه القطن وهي تغطي الأسلاك والمساحات المحيطة بالمكان. كلما تقدمتُ إلى الأمام كلما إزدادت الأشباح وضوحاً. كانت ضربات قلبي تزداد كلما تقدمت نحو البوابة الحديدية الكبيرة . قبل أن أدخل من خلال البوابة سمعتُ صوتاً يقول بتهكم ” أهلاً بك في مقبرة الأحياء”. في اللحظةِ التي وطأت فيها قدميَّ أرض المعسكر المفتوح تقدم نحوي أفراد كثيرون. كنتُ في هذا المكان قبل سنة وشهر تماماً ولكني لم أجد أي شخص من أؤلئك الأشخاص الذين كنتُ معهم هنا قبل الرحيل إلى الزنزانة. حاولت أن أرد على التحيات بطريقةٍ مهذبة كي أواصل الحياة في هذا الأتون الذي لا ينتهي. فجأةً سمعتُ صوتاً مألوفاً كنتُ قد سمعته يوماً ما في معسكرٍ كنا قد عشنا فيه قبل فترةٍ طويلة. آه…إنه علي خميس وعلي صالح. تلقفتني أحضانهم وراحو يقبلوني بشوق شديد. سحبني علي خميس من يدي وأدخلني القاعةِ الدافئة نوعاً ما قياساً إلى الساحةِ الخارجية. تكدست الأجساد البشرية حولي وكل شخص يريد أن يعرف من أنا ولماذا جئتُ الآن؟ في أيِّ سجنٍ كنتُ؟ كان علي خميس يدفع كل من يحاول الإقتراب مني وهو يصرخُ بأعلى صوتهِ :” أخوان..أتركوه أنه الآن تعبان. سيتكلم معكم عندما يرتاح بعض الوقت. ابتعدوا الآن رجاءاً”. تراجع البؤساء وقد طارت آمالهم في الحصول على أي حديثٍ مني. في تلك اللحظة جاء الأرشد العراقي وطلب مني التوجه إلى غرفة الجندي المسؤول عن المعسكر الذي نُسِبْتُ اليه. دون مقدمات راح يوجه لي أسئلة لا تنتهي:

ــ أين كنت؟

ــ لا أدري.

ــ في أي سجنٍ وضعوك؟

ــ لا أعرف المكان.

ــ من كان معك هناك؟

ــ لا أعرف أي شخص ولم أر أي وجه.

ــ ماهي المسافة التي قطعتها السيارة من هناك إلى هذا المكان؟

ــ طويلة ولكنني لا أعرف المسافة بالضبط.

ــ هل أنت طبيعي الآن؟

ــ لا أدري ولكنني أشعر بآلام في جسدي.

ــ كم عمرك؟

ــ نسيتُ عمري منذ زمنٍ بعيد.

ــ هل أنت جائع الآن؟

ــ أنا جائع طيلة فترة وجودي هنا وهناك.

ــ هل تريد طعام الآن؟

ــ لا أشعر بأي رغبة للأكل.

ــ هل لديك سكائر؟

ــ أعطونني هذه قبل خروجي.

ــ ما هي المدينة التي كنت فيها؟

ــ لا أعرف إسم أي مدينة في هذه البلاد.

ــ هل تريد أن تستحم الآن؟

ــ أشعر ببردٍ شديد وليس لدي رغبة لأي شيء سوى النوم.

همس الجندي المسؤول إلى مساعده ِ وأشار الأخير بأصبعهِ دون أن يوجه لي أي كلام. خرجتُ من الغرفةِ أرتعش من شدة الأضطراب فقد تذكرتُ أسئلة العقيد التي لا أجد لها جواباً أحياناً كثيرة. جلستُ فوق فراش علي خميس لا أعرف ماذا أفعل؟ كنتُ منفعلاً جداً لدرجة أنني تمنيتُ مع نفسي لو أنني بقيتُ في الزنزانة بقية عمري كي لا أواجه هذا السيل البشري المتجمع حولي وكل واحد يريد أن يعرف من أنا ولماذا جئتُ إلى معسكرهم بعد كل هذه الشهور من الإختفاء؟ سألني أحدهم من بعيد :” هل كان معك عراقيين؟ أجبته بأنني لم أرَ أحداً ولا أعرف في أي معسكرٍ كنتُ. سمعتُ أحدهم يقول” المسكين لا يعرف حتى اسمه.”. تراجع الجميع وكل واحد منهم يتمنى أن يختلي بي كي يسألني أسئلة لا تنتهي. قال علي خميس ” منذ هذه اللحظة ستبقى معي . سنأكل سوية.أنا أعرف من تكون. مهم جداً بالنسبة لي أن أعيش مع شخص مثقف مثلك. من يدري قد أتعلم اللغة الأنكليزية أثناء وجودك معي.”.

بالفعل إهتم َ بي هذا الشخص.كان يجلب لي طعامي ويضعه مع طعامه ويعاملني بكل أدب وأحترام.كان لايسمح لي بتنظيف طبقي ـ المعدني ـ الوحيد. وسكنتُ في القاعةِ الأخرى ليست ذات القاعة التي يسكنها علي خميس. عند كل وجبة يأتي لدعوتي إلى سريره لنتناول طعامنا مع بعض. بعد العشاء كنا نجلسُ على سريره ونبقى نتسامر حتى ساعة متأخرة من الليل. كنا نتحدثُ في مواضيع مختلفة ولا نتطرق إلى السجون أبداً خوفاً من الجواسيس المنتشرين في كل مكان. قدمني إلى شخص إسمه ” أياد العاني وإلى شخص آخر إسمه عبدالله البياتي”. كان الأول من مدينة المنصور وقد سبق له أن عمل في إستعلامات المطار الدولي في بغداد . لقد عرفني مباشرة.شاب وسيم ومؤدب جداً ، يتحدث الإنجليزية ولكن بطريقة ٍ متوسطة. تقرب مني لدرجةٍ كبيرةٍ جداً وكان لايفارقني أبداً. شعرتُ أنه يشعر بالفخر حينما يتكلم معي بالإنجليزية. كان أحياناً يتحدث معي بصوتٍ مرتفع وكأنه يريد أن يقول للأخرين بأنه أفضل منهم جميعاً. أما عبدالله البياتي فقد كان مهندساً مدنياً ممتازاً تخرج من جامعة بغداد وهرب إلى خارج البلد لأسباب سياسية .

سارت الأيام الأولى عصيبة جداً في المكان الجديد بسبب برودة الطقس الثلجي والجوع الذي لا يرحم ، قذارة لا توصف وقمل لا يمكن السيطرة علية ابداً. معاناة لا حدود لها . رطوبة الفراش لا تُطاق. أمطار غزيرة وعواصف ثلجية.إرهاق جسدي ونفسي منذ طلوع الشمس حتى غروبها. إزدحام المكان بشكلٍ يُصيب الإنسان بالغثيان. حياة مرعبة حقاً. الزنزانة أحياناً أفضل بكثير على الرغم من المكان الضيق. مثلاً كل يومين نستطيع أن نستحم. أما هنا فننتظر فترة طويلة لنضع ” سطل” من الماء فوق أجسادنا. وحتى من ناحية الطعام ” في الزنزانة” يأتي الجندي ويقدم لنا الحصة الغذائية ـ حتى لوكانت قليلة ـ وبعدها ندفع الأواني الفارغة دون أن ننظفها. أما هنا في هذا القبر الكبير فيجب عليك أن تفعل كل شيء بنفسك. شيء واحد هنا أفضل ألا وهو الصحبة والمكان المفتوح.وسار قطار الزمن بطيئاً مملاً يحطم الذات ويُحرق الأعصاب. بعد فترة إسبوعين طلبتُ من الأخ علي خميس أن يتركني كي أستقل لوحدي. سألني عن السبب فأوضحتُ له أسباب عديدة إقتنع بها. أخيراً أصبحتُ أتناول طعامي لوحدي. بعد عدة أيام تقرب مني الأخ أياد وطلب مني أن نأكل سوية لأسباب عديدة منها أنه وجد بيني وبينهُ جسراً من التفاهم.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب