17 نوفمبر، 2024 1:42 م
Search
Close this search box.

جحيم الأيام / الحلقة الخامسة

جحيم الأيام / الحلقة الخامسة

…” إنهضوا جميعاً وتوجهوا إلى السيارات . سوف ننقلكم إلى السليمانية. ستكونون في مكان أمين”. بدأ بعض ألأكراد المدججين بالسلاح يدفعون الجنود وهم يتلفظون بكلمات غير محببة. تجنبا ً للأهانة وفي محاولة للحفاظ على الجزء القليل المتبقي من الكرامة إندفعتُ بسرعة مع الحشود المندفعة بأتجاه الباب الخارجي للجامع. كان الجنود يتدافعون لوضع أحذيتهم العسكرية في أقدامهم ومثل بقية الجنود إندفعتُ نحو حذائي العسكري الملطخ بالأوحال إلا انني قبل أن أضع الحذاء الثاني قفزتُ إلى الخلف مذعوراً كأن مساً من الجن كان قد تلبسني . نظرتُ إلى الجسد المسجى على ألأرض وقد غُطِيَ ببطانية سوداء . ياالهي لقد سحقت قدمي جثث أحد الجنود الذين لاقوا حتفهم قبل قليل برصاص ألأكراد. لازالت ذكرى تلك اليد عالقة في ذاكرتي حتى لحظة كتابة هذه السطور..كان ملمس اليد ناعماً جدا وكأن الجلد قد ذبل تماما. مسكين ذلك الجسد المسجى على ألأرض بلا أهل ولاأصدقاء..ومسكينة هي والدتة. وصدق” الحق” حينما قال” وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت”. ركضتُ نحو سيارة ..ألأيفا..الواقفه عند باب الجامع. تسلقتها بصعوبة فقد كان التعب الجسدي والنفسي قد اخذ مني مأخذاً كبيراً. كان السائق يرتدي الزي الكردي مما يدل على ان كافة السيارات العائدة للدولة هي الآن في قبضة ألأكراد. سارت السيارة وسارت معها ذكريات الماضي ومعاناة الحاضر. جالت نظراتي المرهقه هنا وهناك تسجل او تخزن لقطة ضائعة هنا وحركة إضطراب هناك كي تخزنها في العقل اللاواعي لتعيد سردها للاجيال القادمة على مر الزمن وتعاقب الأيام . الجو في كركوك ربيعي ولكن الجو العام للمدينة وشوارعها يرمز الى شيء آخر غير الربيع.. فقد كام الجو دموياً صارخاً في كل زاوية تنتقل اليها نظراتي. جثث الجنود في كل مكان..ياالهي..هناك عند حافة الشارع عدد من جثث الجنود الممزقة..تدلى رأس أحدهم نحو ألأسفل بينما كان جسده على حافة الشارع. منظر مقزز يثير الرعب ويحرك كل خيط من خيوط ألأنسانية. وضعت يدي فوق وجهي كي لاارى تلك المناظر المؤثرة. تقدمت السيارة تشق عباب الهواء وازداد اضطراب السكان..تدفقت مئات من العوائل تخرج راكضة من بيوتها، البعض يحمل معداتهِ المنزلية والبعض ألاخر يحاول إقفال باب داره كي يستطيع الخروج بسرعة راكضا خارج المدينة. تعجبتُ لتلك الحالة الغريبة التي تحدث بعد لحظات من إنطلاق السيارة. سألتُ أحد ألأكراد المدنيين…وكان طالبا في أحد المعاهد في مدينة بغداد وجاء في إجازه الى بيته.

…” ماهذا؟ هل ترى أن الوضع قد تحول الى حالة جديدة تختلف عما كانت عليه قبل قليل؟”.

نظر الي بدقة وكأنه قد وجد شيئاً غير مألوف في هيأتي العسكرية أو أنني كنت قد إرتكبت خطأ ما في سؤالي . سكتُ قليلاً ودققتُ النظر في ملابسي العسكرية المتسخة وقلتُ على الفور:

…” لم أنظفها منذ عدة أيام..لقد نمتُ على ألأرض عدة مرات..أرجو المعذرة إذا كانت رائحتها كريه بعض الشيء”. إبتسم وهو يقول:” يبدو إنك..جندي خريج..وهذا ظاهر من هيئتك..أليس كذلك؟”. اعادت لي جملتهُ بعضاً من الهدوء وشعرتُ ببعض ألأفتخار فقلت على الفور:” نعم..نعم”. نظر من خلال الفتحه القريبة منه وهو يقول:

…” الناس يفرون من المدينة.. يبدو أن الجيش سيهجم علينا ..أقصد نحن البيش مركه..إنظر ..هناك طائرة سمية تحلق فوق المدينة”. سكت وراح يتابع السمتية وهي تحلق فوق البيوت . تمنيتُ في اعماقي أن تطلق نيرانها على السيارة التي أنا فيها وتحرقنا جميعا كي أتخلص من ذلك العذاب الروحي الذي كان يسيطر علي تماما. .. وخاب ظني وتهاوت روحي منكسرة فقد بدأت النيران تنطلق من كافة الجهات بأتجاه الطائرة..وإبتعدت السمتية..وطارت أحلامي في الترجل من هذه السيارة السائرة نحو المجهول الى ألأبد. طارت ذكرياتي نحو الماضي السحيق..الى عام 1988 حيث ركبتُ في واحدة تشبه هذه السمتية. ذكريات مريرة.منذ ذلك العام وأنا أحاول أن أكتب كل ما يجول في خاطري..ولكن الكتاية كشيء بهذه الصراحة في ذلك الزمن معناه ألأنتحار… ولكن في هذا الزمن,,لن اخاف من أحد سوى الله..فالحقيقة ستظهر حتى لو بعد حين. كنت مع مجموعه كبيرة من الصحفيين ألأجانب والعرب. ذهبنا الى الشمال الجميل نحو السهول والوديان والجبال الشاهقة بحثاً عن ألأضرار الكيميائية..حسب تعبير الصحفيين. كانت الصحافة العالمية قد شنت حملة اعلامية ضد العراق..مفادها أن الجيش العراقي قد شن حربا كيمياوية على كافة المناطق الشمالية التي يتواجد فيها ألأكراد.استدعت وزارة ألأعلام مئات الصحفيين من مختلف دول العالم لتأخدهم الى مناطق معينه كي تثبت لهم أن الجيش العراقي لم يستخدم أي شيء من هذا السلاح الذي يتهمون العراق بأستخدامه, وذهبتُ معهم مع عدد من موظفي الوزارة آنذاك. حينما كانت طائرتنا السمتية تحلق فوق إحدى المناطق الجبلية الوعره طلب مني أحد الصحفيين ألأجانب أن نتوقف في تلك المنطقة التي شاهدها من ذلك ألأرتفاع. همست في أذن الطيار المقدم الذي كان يقود طائرتنا..إبتسم وهو يقول:” سوف أعطي ألأمر الى بقية الطائرات كي تهبط في المكان الذي يريده”. وتمت عملية الهبوط بنجاح. ترجلنا من الطائرة ونحن نركض منحني الرؤوس بسبب الهواء الشديد المنبعث من مروحتها الكبيرة. تجمعنا على بعد مسافة منها. جاء بقية الصحفيين من الطائرات ألأخرى. قال الطيار مبتسماً:

…” نحن ألأن في المنطقه التي يريدونها..ماهي الخطوة ألأخرى المطلوب مني القيام بها؟” خاطبتُ المجموعة الصحفية التي كانت برفقتي بصوت مرتفع” يقول الطيار هل من سؤال أو طلب أخر؟” صرخ أحد الصحفيين:

…” هل يمكن أن نسير على ألأقدام الى مسافة قريبة؟ توجد فواكة كثيرة في ذلك الجانب هل نستطيع الوصول اليها؟” صاح بقية الصحفيين ” نعم..نعم..نريد ألأقتراب من ذلك الينبوع، نريد ان نشرب من ماءه لغرض التأكد من عدم وجود مواد سامة. سار المقدم أمامهم وسارت الجموع الصحفية خلفه. جلس المقدم عند حافة الماء المتدفق القادم من مناطق مرتفعة. كانت أشجار العنب تتدلى بشكل متناسق كأنها جنة ألأرض، قطف الطيار أحد العناقيد المتدلية ودون أن يغسلها في الماء مسحها بيدهِ وهويقول:

…” من يريد أن يتذوق طعم هذهِ ألأرض الطيبه؟ “. تردد الصحفيين في باديء ألأمر وصرخ احدهم ” عندما تأكل منها سنأكل بعدك.. ولكن اغسلها بهذا الماء فقد يكون ملوثاً نريد التأكد من سلامة الماء أيضاً”. ضحك المقدم وراح يغسلها في الماء وبعدها شرع يأكل العنب. وفي لمح البصر هجم الصحفيين على العنب وكأنهم لم يشاهدوا عنباً من قبل. وراحت بعض الصحفيات يغسلن وجوههن في الماء البارد. السؤال المهم ألأن :

…” هل ضرب الجيش العراقي المناطق الكردية بالمواد الكيميائية أم لا؟”. هنا يجب الحديث بصورة مهنية بعيداً عن الخوف من السلطات التي كانت تحكم البلد في ذلك الزمن..أي عام 1988..في ذلك الوقت أي وقت الزيارة الى تلك المناطق الجبلية عرفت سراً لم أبح به لأي مخلوق حتى هذه اللحظة..أي بعد ثلاثة وعشرون عاما. عند أنتهاء الزيارة عدنا الى فندق من الدرجة ألاولى وشاءت الصدفة أن اجلس في صالة ألأستقبال مع أحد الطيارين الذين جاءوا معنا. بعد حديث طويل شيق معه سألته سؤالاً محددا وعاهدته على أن يكون ألأمر سراً بيننا. وكان السؤال هو” هل ضرب الجيش العراقي المناطق الكردية بالمواد الكيميائية أم لا؟”. صمت الطيار ونظر يميناً وشمالاً وكأنه كان يريد التأكد من عدم وجود أي إنسان يستمع الينا. إبتسم بارتباك وقال:

…” إسمع..هل دققت النظر الى الطائرة التي جئت بها مع الفريق الصحفي..أقصد هل لازالت صورتها في ذهنك؟ أقسم لك بانني شخصياً حملتُ بها كميات كبيرة من المواد الكيميائية وألقيتها على المناطق الشمالية لدرجة أن أرضية الطائرة أصبحت لزجة وكأنني كنت أحمل فيها ماءاً وليس مواد كيميائية. هذه هي الحقيقة ولكن السلطات العراقية تحاول طمس الحقيقة كي لا تدان من قبل العالم . كنا نستعمل المواد الكيمياوية عندما نجد أن ألأمر صعب جداً ولايمكن السيطرة عليه بواسطة ألأسلحة ألتقليدية..إنها ألأوامر..ومن لايطيع ألأوامر يتم إعدامه فوراً. هذه هي الحقيقة ولكن إياك أن تقل هذا لأي مخلوق…وإن فعلت ذلك فأنك سوف تصدر حكم ألأعدام بي فوراً..وربما ستعدم أنت ألأخر.”

إرتبكتُ لتصريحه الخطير. أصبحتُ أعاني إزدواجية في عملي. من جانب أعرف حقيقة ماجرى..ومن الجانب ألأخر أحاول إثبات براءة الجيش العراقي من تلك التهمه عن طريق ترجمة ماكان يقوله الضباط المكلفين بمرافقتنا.

عدتُ الى الواقع المرير حينما توقفت السيارة عند إحدى مناطق التفتيش التي اقامها ألأكراد على الطريق المؤدي الى السليمانية. رجال مدججون بالسلاح ذوي لحايا طويلة. تقدم احدهم وراح يتفحص الوجوه. فجأةً قال مخاطباً أحد ألأكراد وكان جالساً في الزاوية البعيدة وقد وضع بندقيتة بين ركبتية:

…” ترجل من السيارة فنحن في حاجة ماسة اليك. ستبقى معنا في هذه السيطرة حتى إشعار أخر”. هذا الحديث فهمته من الشخص المدني الذي ترجم لي الحوار بسرعة البرق. حاول الرجل المسلح ان يتفاهم مع الرجل الذي طلب منه النزول قائلا بانه مرهق جدا ولم يشاهد عائلته منذ فترة طويلة ويريد الذهاب الى البيت، ولكن ألأخر أمره بشدةٍ فترجل من السيارة على مضض. انطلقت السيارة من جديد وعادت تنهب الطريق بوحشية. أخذتُ سيكارة من علبة سكائري ورحتُ انفث الدخان في الفضاء الداخلي للسيارة إلا انه سرعان ماكان يختلط بالدخان المتصاعد من محرك السيارة ويهرب نحو الفضاء الخارجي بطريقة لولبية. فجـأةً قال الشاب الكردي الذي كان يجلس قربي:

…” لو أنهم يريدونني معهم لذهبتُ فوراً”. قلتُ له:

…” الى أين تذهب معهم؟” قال بأندفاع:

…” الى حزب البيش مركه..أقاتل معهم”. حاولتُ أن أبدو طبيعياً في كلامي فبادرته قائلاً:

…” ماذا تعني كلمة البيش مركه؟”. قال بسرعة:

…” كلمة بيش معناها ..امام..ومرك..معناها..الموت. أي فدائيين.” قلتُ بلا تحفظ:” ولكن لماذا تريد ان تكون فدائي؟ ضد الجنود ألأبرياء الذين يؤدون خدمة العلم.. هل شاهدت الجنود الممزقين عند حافة الشارع في كركوك؟ ماذا فعل هؤلاء الجنود سوى أنهم جاءوا لخدمة العلم أو لنقل انهم مأمورين للقيام بهذا الواجب.اليس أنهم نفس الجنود الذين كانوا يدافعون عن الشمال في الحروب السابقة؟ حقاً أن هذه الحرب الأهلية هي دمار شامل لكل البلد!.”

كانت قسمات وجه الكردي المدني تتغير مع كل كلمة يسمعها مني وتتغير الوان وجهه بين لحظة وأخرى…أدخل يده في جيب سترته وأخرج سيكارة وقدم لي واحدة بيده المرتعشة وحينما إرتشف منها رشفة طويلة قال بنوع من ألأضطراب:

…” أسمع ياصديقي، هذا الكلام الذي قلته لي ألأن يُعتبر خطر بالنسبة ِ لغيري وقد تفقد حياتك فيما إذا كررته أمام إنسان أخر من ألأكراد. ” صمتْ وسكتُ أنا ألأخر ..شعرت ان نقطة التواصل بيننا مفقودة. شارفت السيارة على ألأقتراب من حدود السليمانية وظهرت من بعيد بعض البنايات الشاهقه والطرق الجميلة. شعرتُ أن دقات قلبي تزداد بشدة لأسباب خاصة. عادت الذكريات القديمة تسحق اعصابي فهذه الشوارع مالوفة جدا بالنسبةِ لي. فكم مرة زرتُ هذه الشوارع مع الوفود الصحفية وسكنتُ معهم في فندق السليمانية الكبير. نحنُ ألأن نمر من أمام الفندق الكبير وقد ظهرت على واجهتة ألأمامية آثار القذائف الحارقة التي شوهت منظره الجميل. ترجلنا من السيارة..والغريب أن أحداً لم يقل لنا الى أين نذهب وماذا نفعل؟ قال أحد ألأكراد:

…” هذه مدينة السليمانية..إذهبوا الى أي مكان تريدونه وإفعلوا ماتشاؤون ولكن لاتغادروا المدينة الى أي محافظة أخرى سنجمع كافة الجيش هنا ونقرر بعدها ماذا نفعل بكم؟ . إنطلقت السيارة وبقينا في الشارع الكبير المزدحم لانعرف أي طريق نسلك. كنتُ مع سبعة من زملائي من نفس الوحدة.[ جعفر..باسم..علي..أحمد..حسين..كاظم..سلمان]. بادر جعفر الى إتخاذ مركز القيادة وقال دون تردد:

…” ينبغي أن نكون منذ هذه اللحظة فريق واحد..يموت الكل من أجل الفرد ويموت الفرد من اجل الكل..هل انتم موافقون؟” دون تردد قالنا ” موافقون”.

…” حسنا..يجب أن ندخل الجامع الكبير فوراً ونتخذ لنا مكاناً للنوم.. وبعهدها سنرى ماذا نفعل؟؟؟”. دون أن يتفوه أحد بكلمة توجهنا الى الجامع الكبير. كان المكان غاصا بالجنود لدرجة لايمكن تصديقها. عندها قال حسين:

…” ياالهي متى جاء كل هؤلاء الجنود..وهل سنجد لنا مكاناً للنوم؟”

بسرعة البرق تقدم جعفر وجلس على ألأرض وسط الجامع المؤثث بالسجاد. قال بسرعة” تعالوا ..كل واحد يستلقِ على ظهره كي يكون هذا المكان كافياً لمنامنا..إقتربوا من بعضكم البعض كي لا ندع مجالاً للأخرين للزحف على مكاننا” . فعلنا ما طلبهُ منا ووضع كل واحد حقيبتة تحت رأسه كوسادة. شعرتُ أن عظام ظهري تصرخ من ألألم وإن كل عصب من أعصابي يهتز بعنف. ونحنُ نحدق في سقف الجامع قال جعفر:

…” إسمعوا ..نحن ثمانية..سنكون أكثر من إخوان منذ هذه اللحظة..سنرتب حياتنا حسب الظرف المفروض علينا..سنتوزع الى قسمين.عندما يخرج القسم ألاول الى الشارع يبقى القسم ألأخر هنا كي يحافظ على المكان ولايدع ألأخرين يقتربون من مكان إستقرارنا..إن ترك المكان يعطي فرصة للأخرين للجلوس فيه وبذلك سوف نفقده الى ألأبد.”. كان جعفر اصغر مني بعدة سنوات ولكنه كان قائدا من الدرجة الممتازه. كان شجاعاً وكنت أستمد منه المعنويات أحيانا. كان ينظر الي بطريقة لاتخلوا من التوتر ممزوجة بالأعجاب بعض الشيء. كان يرتدي ملابس القوات الخاصة على الدوام..ربما لأنه أحد أفراد حماية السيد آلآمر؟ بعد لحظات جلس جعفر مستقيماً وهو يقول:

…” أنا وانت وباسم وسلمان سنشكل المجموعة الاولى و المجموعة الثانية تبقى هنا..سنحاول شراء بعض المأكولات ونقتسم ثمنها ..ستكون معيشتنا هكذا الى أن تفرج الحالة”.

سرنا في شوارع السليمانية المزدحمة جدا. حركة المرور مبعثرة …. يبدو ان قانون المرور قد ضاع الى ألأبد في هذه المدينة. لم أشعر انني أسيرفي مدينة عراقية حديثة وجميلة. أحسستُ أنني تائه في مدينة فوضوية ليس لها قانون وليست لها طريقه مرتبة للحياة. السيارات تعبر من هنا الى هناك دون مراعاة لحقوق السابله..وابواقها تصم آلآذان دون إهتمام بمشاعرالماره. الناس يعبرون الشوارع دون إهتمام لحركة السيارات الكثيرة..الكل يريد إنجاز عمله دون مراعاة القانون الزمني والطبيعي لحركة الحياة. على الرغم من انني كنت اسير مع ثلاثة من الزملاء دون قيود وفي شوارع مفتوحة..إلا انني شعرتُ وكانني مكبل بقيود لاتنتهي..أو أنني قابع في سجن حقيقي مرعب. الفتيات الكرديات ينظرن الى العسكريين بشفقة وبنوع من ألأستهزاء أحياناً وكأنهم لاينتمون الى هذه ألأرض الطيبة. توقف جعفر عند أحد المحلات التجارية الكبيرة الغاصة بالمواد ألأيرانية وقال:

…” سنشتري لبن وبعض المعلبات وسوف نتقاسم ثمنها حينما نعود الى الجامع”. وقفتُ على مقربة منه وقد وضعتُ يدي في جيبي وأرسلت نظراتي الى ألأفق البعيد يائساً تماماً ومحطماً من الداخل. أيقظني صوت أحد الباعه المتجولين من كبار السن وهو يصرخ بصوت يقطع نياط ألأفئدة” سبحة..سبحة..سبحة..ممتازه..” إستدرتُ اليه وحدقتُ في عينيه . حركة عيناه جعلتني أرتجف لا بل أرتعب. كان طاعنا في السن وإرتسمت تجاعيد الزمن حول عينيه بشكل حزين. كانت نظراتة قد أعادت لي طيف نظرات والدي الذي إحتظنته تربة قرية جرف الصخر عام 1973. أحسستُ ان والدي هو الذي يبيع تلك السبحة. دون وعي قلتُ له” عمو إعطني أطول سبحة لديك”. وبسرعة البرق راح يبحث عن اطول سبحه بين المجموعة التي كان يحملها في يده اليسرى وقال بفرح:

…” عدد خرزات هذه السبحة مئة+ واحد..الف مبروك”. دون أن افاوضه على السعر أخرجتُ النقود من جيب القمصلة الداخلي ومددتُ يدي نحوه وقبل أن يأخذ النقود من يدي قالت فتاة ترتدي—الجينز—وهي تمسك يدي بقوه:

…” أبو خليل”..وكان هذا لقب الجندي في العراق… ” لاتدفع أي نقود سوف أدفع ثمنها إنها هدية مني لك.”. حاولتُ إقناعها بأن لدي نقود وأستطيع دفع ثمنها إلا انها اصرت على دفع النقود وهي تقول:

يتبع ….

أحدث المقالات